تعود أصول قضية "أوراق بنما" إلى العام 2014، حين تلقى الصحافي باستيان أوبرماير Bastian Obermayer في صحيفة "سودوتشيه زيتونغ" Süddeutsche Zeitung الألمانية العريقة، ذات التوجه اليساري، رسالة مشفرة من مجهول يعرف نفسه ب"جون دو"، تسأله إذا كان يهمه الحصول على وثائق تتيح فضح جرائم مالية أمام الرأي العام. وحذر المصدر الصحافي في الرسالة من أن حياته في خطر، وأنه يستطيع التواصل عبر الرسائل المشفرة، ولا يمكنه إجراء أي مقابلة شخصية. استمر الصحافي في التواصل عبر قنوات مشفرة يجري تغييرها باستمرار والحرص في كل مرة على محو تاريخ المحادثة، وقام بإرسال الملايين من الوثائق والصور والبيانات للصحيفة، والتي سربت جميعها من مكتب المحاماة "موساك فونسيكا" في بنما، والذي يعمل في مجال الخدمات القانونية منذ سنة 1977، أي حوالي 40 عامًا. ونسقت الصحيفة الألمانية في الموضوع مع "الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين"ICIJ ، ليتبين أن الوثائق التي يقارب عددها 11.5 ملايين وثيقة تكشف أسماء 140 زعيما سياسيا حول العالم، إضافة إلى أسماء بارزة في كرة القدم، هربوا أموالاً من بلدانهم إلى ملاذات ضريبية عبر مكتب المحاماة المذكور . وقبل إبداء وجه نظرنا في الموضوع، لابد من التأكيد على أن تهريب الأموال إلى الخارج أو تبييضها أو جعلها في منأى عن الإجراءات الضريبية، سواء في إطار التهرب الضريبي أو الالتفاف الضريبي، يمكن اعتباره عملا غير قانوني وغير أخلاقي وفقا للقوانين الوطنية أو القانون الدولي، وبالخصوص الاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد، رغم أن بعض الدول، وعددها جد محدود، تحاول شرعنة الالتفاف الضريبي في قوانينها الوطنية بدعوى تشجيع الاستثمار، في تعارض تام مع القوانين الدولية. لكن ما يهمنا في الموضوع هو من يقف وراء هذا التسريب؟ لأن ما قام به الشخص مجهول الهوية الذي يعرف نفسه ب"جون دو" لدى الصحيفة الألمانية العريقة يمكن اعتباره عملا غير بريء، وذلك للاعتبارات التالية: فخلافا للشفافية التي يقدمها موقع ويكيليكس، الذي يقدم البحث في الوثائق لأي كان على الموقع، كانت تسريبات "أوراق بنما" خاضعة لسيطرة عدد محدود من الجهات الأمريكية والمؤسسات الصحافية، وغير منشورة في المواقع، كما أنها خالية تقريبا من الأسماء الأمريكية. ولوحظ أيضا غياب صحف أمريكية بارزة ك"نيويورك تايمز" و"وول ستريت جورنال" و"واشنطن بوست" عن العمل بهذه الوثائق وإيلائها التغطية الكافية على صفحاتها الأولى. كما غاب الصحافيون الذين عملوا بشكل أساسي على تسريبات "ويكيليكس"، مثل غلين غرينوولد ولورا بويتراس عن العمل. كما لوحظ من خلال صفحة تمويل المشروع الصحافي في موقع الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين أنه من بين الممولين للمشروع كان المضارب في الأسواق العالمية الملياردير الأمريكي جورج سوروس - عبر مؤسسة أوبن سوسيتي Open Society Foundation - وبنك غولدمان أند ساكس، ومؤسسة فورد، وصندوق روكفلر، المتهمة جميعها بالتهرب الضريبي واستهداف الخصوم وتصفية الحسابات. ومن هنا نستنتج أن هناك احتمالا كبيرا أن تكون إحدى الشركات المنافسة للشركة البنامية وراء هذا التسريب لإضعاف قوتها المالية، وتخويف رجال المال من التعامل معها مستقبلا. إنه صراع الشركات أكثر منه صراع السياسات، خصوصا إذا علمنا أن الشركة التي تم تسريب الوثائق منها هي رابع شركة في العالم توفر خدمة "الالتفاف الضريبي"، إلى جانب شركات أخرى توفر الخدمة نفسها، وتوجد في دول كسويسرا مثلا. فلماذا تعرضت شركة في بنما لهذا التسريب؟ علما أنها شركة قديمة تأسست في عام 1977، على يد المحامي الألماني يورجن موساك، بشراكة مع المحامي البنامي رامون فونيسكا، ولم يسبق لها أن تعرضت لهذا التسريب منذ تاريخ تأسيسها . ثم لماذا لا يوجد أي اسم أمريكي أو إسرائيلي في ما تم تسريبه من معلومات؟ إذ تم التركيز على بعض زعماء ومسؤولي بعض الدول، كروسيا وإيران والصين وباكستان والسعودية والإمارات، وكلها دول تتوجس منها الولاياتالمتحدة، رغم العلاقات التي تبدو دافئة . ونشير في هذا السياق إلى أن أحد الخبراء الاقتصاديين الألمان، ويدعى "أرنست وولف"، شكك في أهداف نشر وثائق بنما، ملمحا إلى تعمد الولاياتالمتحدة كشف هذه الوثائق لتكسب قرابة 40 تريليون دولار من جذب هذه الأموال. وأضاف هذا الخبير أن "بلومبرغ" كانت قد نشرت مطلع العام الجاري خطط الولاياتالمتحدة لتصبح أفضل ملاذ ضريبي لثروات العالم، وأشارت إلى كبير مديري شركة روتشيلد المالية، حين ألقى خطابا يشرح فيه كيفية جذب أثرياء العالم ونخبه لتجنب دفع الضرائب بتحويل ثرواتهم إلى الولاياتالمتحدة دون خضوعها لأي ضرائب وإخفائها عن حكومات العالم. أما جريدة "واشنطن بوست" فقد لفتت إلى أن الولاياتالمتحدة أصبحت تلقب ب"سويسراالجديدة"، كناية على تحولها إلى وجهة للباحثين عن الملاذات الضريبية، إذ تم تسجيل قرابة ربع مليون "شركة واجهة" في شركة واحدة في ولاية ديلاوير. وعلى هذا الأساس، يمكن اعتبار ملف أوراق "بنما" مجرد تصفية للحسابات بين الشركات المالية، وأن مناطق الملاذات الضريبية "أوفشور" لن يختفي كظاهرة، وإنما ستجري عملية إعادة توجيه التدفقات المالية في اتجاه شركات في الولاياتالمتحدة، هذا علما أنه في بعض الولاياتالأمريكية تطبق السرية المصرفية بشكل مطلق. ففي ولايات نيفادا وداكوتا الجنوبية، وأيومنغ وديلاوير، توجد "ملاذات ضريبية مطلقة". *مدير مركز الرباط للدراسات السياسية والإستراتيجية