"الأرض طاووس؛ المغرب كْعالْتو" قول مغربي مأثور يكاد يعدم النقاش الجاري عبر الوسائط الإعلامية أمارات تدل على سلامة الخلفيات الإبستيمية التي تدار في رحابها أسئلة الهوية الثقافية المغربية. وهذا عَرض كاشف عن أحد أعطاب التواصل الذي يستمسك بخناق كثير من الفاعلين الاجتماعيين بهذا البلد. ونتاج تحكم الدوغمائيات المختلفة (دينية وسياسية) واستحواذها وتوجيهها لدفة النقاشات المجتمعية، بما يخدمُ مصالح خاصة مركبة، ويسوغُ فهمَها للاستقرار وتصورَها للتماسك والسلم المجتمعيين. وهكذا ما يزال كثير من مثقفينا يجترون مقولات من كلاسيكيات التلاسن السياسي، من قبيل المؤامرة والعمالة والرجعية...، ومنهم من لا يتورع سرا وجهرا عن التحذير من فتنة نائمة، ويستهجن الخوض في قضايا الهوية تحت ذرائع مختلفة. بل وقد تجد منهم من لا يرى غضاضة في تخوين من يخالفه الرأي، ولو كان من غيض النقاش. وسعيا إلى المساهمة في كشف بعض خبايا المسألة الهوياتية، سنستعرض في هذا المقال تصورنا للهوية الثقافية المغربية من الزاوية الإناسية الرحبة؛ لما لها من قدرة على الانفلات من المركزيات المختلفة، ولما توفره من عتاد يسمح باستشعار الحساسيات الإيديولوجية (سياسية، دينية-مذهبية....). وسنعرض، في هذا الباب، لمفارقات عجيبة تمر أمام عيون مئات المغاربة، مثقفين وغيرهم، صباح مساء، دون أن تنجح في استدراجهم إلى استيضاح الأمور والتمييز بين متشابهاتها، وحرصا على ذلك سنعمل بتوجيه "نيكولاس ريشر Nicholas Rescer" الذي سار سائره: "التمييز بعناية بين الأمور هو الأداة الرئيسة للحد من الأضرار في الفلسفة". ويبدو ألا داعي لبيان استغراق لفظ الفلسفة في هذا القول ليفيد كل صنوف المعرفة الإنسانية والاجتماعية، بما في ذلك ما نحن سائرون فيه بالطبع والتأكيد. لنبدأ أولا بتأمل الكيفية التي تتلقى بها الشعوب تاريخها، وكيف تنطبع في نفوسها المحكيات والشواهد التاريخية التليدة. ولنأخذ مثلا عرب الجزيرة. فأنت تسمع منهم كلاما متواترا يوجزون فيه تاريخ بلادهم قبل الإسلام في عبارة واحدة هي "العصر الجاهلي"، وإذا أنت طلبت من أحدهم أن يحدثك عن هذه الفترة بإيجاز، مال إلى سرد مظاهر الصراع القبلي وأصناف المظالم والرذائل التي سادت خلال هذا العصر، واستطرد يستذم البواعث التافهة التي كانت توقد شرارة حروب العرب القديمة ("طسم وجديس" والفِجار والبسوس و"داحس والغبراء"...)، ثم استرسل بمغالاة غير خافية مستفظعا مستقذعا جهالة سلفه واستكبارهم، وهو سائر في هذا الطريق لا يخفت صوته إلا لحظة حديثه عن انبلاج فجر الرسالة المحمدية، التي وحدت قبائل العرب المتناحرة، وأسست لمنظومة عقدية وأخلاقية جديدة. بيد أن المتحدث نفسه، ما يلبث أن ينقلب حاله وقد تهللت أساريره، منطلقا في تشنيف أسماعك بالكلام عن "أيام العرب"، وفصاحة الجاهليين وعظمة إنتاجهم الشعري، متباهيا متفاخرا، ماضيا في استدعاء مُغرّبات أخبار العرب وتكاذيبها، وفي نبره وفؤاده ميل إلى تصديق ما يرويه. أطراف الصورة التي ننوي رسمها تكتمل أيضا بقراءة المصنفات الأدبية والتاريخية التي تناولت الشعر العربي الجاهلي، بقديمها وحديثها. إذ يقف القارئ العربي مُسَلّما مستسلما ومُصَدّقا لما عرف بمناسبات القصائد. فيبدو مغشيا لا يبصر إلا ما تراءى إليه بنور الإيهام، لذلك لا يرى من كذب في حكاية المهلهل مع ابنة أخيه اليمامة، ولا من إفك في سيرة الشنفرى وقد أقسم على قتل مائة رجل (وما دونه أو أعلاه مذمة)، ولا تتبدل تقاسيم وجهه إلا انتشاء (لا استنكارا)، وهو يصيخ السمع إلى حكاية شداد العبسي مع ابنه عنترة، فيقبل عقل مُحدّثكَ أن يستنجد شداد بابنه، وأن يتبادل الاثنان، والحرب مستعرة، قولا مسجوعا (قال شداد: كُرَّ يا عنترة ؟. فرد عليه ابنه: العبدُ لا يحسنُ الكَرَّ، إنما يحسن الحلب والصَّرَّ. فقال شداد: كُرَّ وأنت حر). في الطريق نفسه يسير المصري مختالا بإرثه الفرعوني، والشامي متباهيا بما خلفه أجدادُه السومريون والأشوريون....، واللاتيني والجرماني والأفغاني.. وذلكم ديدن الإنسان يبتغي أساسا يرتكن إليه ومِحْضنا ثقافيا يحيل عليه عند قياس المسافات الثقافية، وذخيرة من الرموز والأيقونات يباهي بها من ينتسب إلى غير أمته. وهذا، لعمري، نزوع طبيعي، تفسره حاجة الأمم إلى أساطير داعمة للحمة الاجتماعية، وتدعو إليه الاستيهامات الوجدانية للشعوب، وفق ما تعلمنا إياه الأنثروبولوجيا الثقافية. ولذلك، أيضا، يبدو ألا معنى ولا جدوى من مصادرة هذا الميل الإنساني (باسم محاربة الفكر الخرافي مثلا)، وقد تبدت مقصدياته النبيلة، شريطة ألا يؤدي إلى تضخم الأنا الثقافية أو أن يُتخذ مسوغا لتبرير أي نزعة استعلائية. يقضي القياس المنطقي، مع ما تقدم ذكره من شعوب، أن يحرص المغربي على استدعاء تاريخ بلده، وأن يبذل جهدا في البحث عن ميراثه الثقافي القديم، سواء بالتنقيب الموضوعي في مخلفات السلف، أم بالنفخ في جَذْوات النجاحات القومية بالخلق والابتداع وإسباغ الطابع الملحمي والأسطوري على محكيات التاريخ وآثاره. فلماذا يُيَمّم كثير من المغاربة وجههم شطر المشرق سيرا على أثر "المتباهية بشعر جارتها"؟ يبدو السبب، في تقديرنا، ظاهرا لا يحتاج إلى كبير عناء، وهو قوة السلب الجارفة التي مورست على المغاربيين (بإيعاز من إيديولوجيا شرقانية حرصت على مأسسة تمثلات دينية وفرضها لغايات سياسية-دنيوية). أشيع بموجبها الاعتقاد أن بلاد المغارب لم تكن قبل الإسلام غير أرض قفر يباب، سواء على مستوى إنتاجها الفكري أم على مستوى خبراتها الإناسية، وأن أهلها لم يعرفوا علما ولا فكرا ولا حضارة، وأن موروثهم من القيم وأنماط السلوك والمعتقدات والأعراف "متخلفٌ ومنحط" لا يستحق الذكر والبحث، فبالأحرى أن يكون مدعاة للفخر والتباهي. قد يجادلنا مجادل فيقول إن السبب لا يكمن في ما نزعمه، بل راجع فعلا وحقيقة إلى غياب الأثر الحضاري المغاربي، بدليل ندرة الشواهد العمرانية التي خلفها الأمازيغ. ومثل هذا القول قد يستمد بعض حجيته من منطلق ما يمكن معاينته اليوم من الأثر الروماني الغالب على مجمل المآثر العمرانية بمغارب ما قبل الإسلام. بيد أن هذا القول مردود عليه، لاسيما إذا أصر قائله عليه واعتبره السبب الغالب والباعث الرئيس. والمثال المضاد الذي نسوقه لبيان تهافت هذا الزعم أن العرب بدورهم لم يخلفوا مآثر عمرانية كبرى قياسا مع جيرانهم من الروم والأحباش والساسان مثلا. لكن ذلك لم يقف مانعا أمام العربي من تلميع اللبنات الثقافية (الجاهلية) التي صقل بها شخصيته القومية. ثم إن الحديث عن الهوية الثقافية بالمعنى الذي نسير فيه هنا يقضي ألا ننظر إلى الثقافة بوصفها محصلة الإنتاج الفكري العالم فقط، بل بوصفها نتاج تراكم إناسي شديد التركيب قائم على مبدأ التذاوت الأنثروبولوجي، لا يستقيم فيه الحديث عن شيء اسمه القطع النهائي مع ثقافة أصيلة باسم ثقافة وافدة (طالما لم تحصل إبادة جماعية للسكان الأصليين كما حصل في أستراليا مثلا). هي، إذا، قوة السلب والتجريف لا حقيقة غياب الأثر الحضاري. واللبيب لا يحتاج إلى كبير تمعن كي يقف على عمق الحضارة المغربية (والمغاربية)، وقوة مساهمتها في بلورة الثقافة والحضارة المتوسطية والإنسانية. وإلا فكيف السبيل إلى تفسير صمود اللغة الأمازيغية رغم اشتداد آلية التعريب-التعرب-الاستعراب، وقبلها أثر لغات الدول التي غزت البلاد المغاربية ؟ بل وكيف يمكن تفسير عمق الأثر الثقافي الذي أحدثه المغاربيون في تاريخ جيرانهم في الضفة الشمالية (قبل الإسلام وبعده) ؟ كيف السبيل إلى استيعاب الإنتاج الفكري الأوغسطيني ومن سبقه أو جايله أو جاء بعده من المتأدبين من قبيل: يوبا وتيرونس وأبوليوس وتيرتوليان وسان سيبريان إلخ ؟ وبأي المدارك يمكن فهم أثر الثورة التي أطلق شرارتها دوناتوس ضدا على تجبر ساسة روما ومن سار في ظلهم من أساقفة قرطاجة ؟ كيف يصدق العقل أن يحكم الليبيون الأمازيغ بلاد مصر الفرعونية ؟ وبماذا يُحاجُّ المثقف المغربي ليفسر نجاح أجداده في ضمان الاستقلال السياسي عن المشرق الإسلامي؟ وماذا يقدم، يا ترى، من الأسباب التي مكنت المرابطين والموحدين من بسط سيطرتهم على بلاد مترامية الأطراف، تمتد من تخوم مملكة أراغون إلى أصقاع السودان الغربية ؟ وقبل هذا وذاك... ألا يبدو محيرا أن يتعامى كثير من المثقفين المغاربة عن مساهمات أجدادهم، وأن يتنكروا لهم ؟ وألا تستفزهم اللُّقط التي دونها المؤرخ الأجنبي عن الليبيين و"البربر" والنوميديين، ألا يبدو مدهشا أن يصيح هيرودوت (أبو التاريخ) (أورده مصطفى أعشي): "ومن الليبيين (الأمازيغ) أيضا، تعلم الإغريق قيادة العربات ذات الخيول الأربعة". ولا يثير ذلك شيئا في نفوسهم، وكأن في آذانهم وقرا ؟ يبدو الأمر مثيرا للدهشة فعلا، ولأن الدهشة أولى مدارج التفلسف وإعمال العقل، دعونا نحاول الإمساك ببعض البواعث المعرفية الخفية الثاوية خلف الأحكام السائدة بخصوص أثر الحضارة المغربية الأمازيغية. نحن نميل، إيجازا، إلى القول بخضوع كثير من مثقفي البلد طرائد لنزعتين كبريين: 1. النزعة اللغوية في تعريف الثقافة والحضارة والهوية: هي تلكم النزعة التي يتم بموجبها اختزال الثقافة والهوية في اللغة، أو اعتبار اللغة حاملا وحيدا وَاسِما للثقافة والهوية محيلا عليهما، وهذا رأي غير دقيق بالمرة؛ والصواب هو أن اللغة هي الناقل الأساسي للثقافة، وإلى جانبها نواقل أخرى كثيرة. لذلك ينبغي الوعي بأن الثقافة واللغة غير مقترنتين ببعضهما اقترانا آليا مباشرا، فالجماعات ذات الثقافات المختلفة قد تتحدث بلغة مشتركة، والمتحدثون بلغات مختلفة يمكن أن يشتركوا في السمات الأساسية للثقافة نفسها (فرانز بواس). ولهذا السبب مثلا يمكن التمييز من داخل المجال الأنجلوفوني بين ثقافة أمريكية وأخرى نيوزيلاندية وأخرى إنجليزية (بينها مؤتلفات ومختلفات). وكذا الشأن بين الثقافة البرتغالية والبرازيلية، وهذا الأمر ينسحب على كل لغات العالم وثقافاته. من هذا المنطلق ينبغي التمييز بين الثقافة المغربية (في تجليها العربي) ونظيراتها بالمشرق. بل ويصح التمييز أيضا بين ثقافة عربية حجازية وأخرى عراقية، وإن بدرجة أقل (بسبب الجوار الجغرافي وفناء اللغات العراقية القديمة). وذلك لاعتبارات إثنوثقافية بارزة عنوانها الأثر الحضاري السومري والأكدي والبابلي والكلداني... الذي تراكبت في حضنه الهوية الثقافية لبلاد الرافدين. لذلك نهمس في أذن مثقفينا ممن يعتبرون أنفسهم عرب الثقافة: أنتم لستم كذلك، بل مغاربة الثقافة. صحيح أن بينكم وبين عرب المشرق صلات. بيد أن مساحة الاختلاف أكبر مما تتوهمون وتستهيمون. وإن شئتم تلمس ذلك انظروا إلى أي الثقافتين أنتم أقرب؟ هل إلى ثقافة المغاربة الأمازيغ أم إلى ثقافة عرب المشرق ؟ وأمعنوا النظر في المعيش والممارسة والسلوك (أو ليست الثقافة هي ما يبقى لدينا بعد أن ننسى كل شيء، كما يقول Herriot.) تأملوا بنيات التدين الشعبي والرسمي، وطبيعة العلاقات البيجنسية، وأشكال القول الأدبي، وصنوف التعابير الاحتفالية والفرجوية، وأنواع المعتقدات الميتية، والتمثلات الإثنوإيكولوجية. ونظم التدبير الاجتماعي والسياسي التقليدية، ونسق السلطة والمخزن والطبخ واللباس والغناء، وصنوف المعارف والمهارات العلمية الشعبية... فهي أمارات تشي بالتميز والتمايز. 2. نزعة الإسطوغرافيا الوسيطية للزمن: نستعير هذا المفهوم من مسكوكات الأستاذ المغربي محمد القبلي، الذي تنبه منذ زمان إلى شيوع هذه النزعة لدى المؤرخين المغاربة القدامى، معبرا عن ذلك بما اصطلح على تسميته "الإسطوغرافية المغربية الوسيطية للزمن"، والتي ظلت تدفع هؤلاء إلى التصرف كما لو أن تاريخ المغرب قد بدأ مع دخول الإسلام لا مع بدء الخليقة. وهي النزعة التي تقع على حافر ما يسميه الباحث إبراهيم أزروال "مركزية الاسطوغرافيا العربية-الإسلامية". والتي يقول عنها الباحث: "يعمد المؤرخون الاعترابيون إلى "إماتة" التواريخ السابقة للإسلام المغاربي، وإحالة كل ضروب التثاقف والتفاعل الثقافي فيها إلى العدم التاريخي والى الصفر الثقافي". لكننا نمدد سلطة المفهوم لأن هذه النزعة ما تزال مستمسكة بخناق كثير من الباحثين المغاربة المعاصرين، سواء في التاريخ، أم في ما جاوره من العلوم الإنسانية. وبموجبها لا يتحرج كثير منهم في حبس أنفسهم في بوتقة العصر الوسيط، ولا يجدون غضاضة في أن يستأنسوا بالأمر كما لو كان اختيارا بدهيا لا بديل عنه، ويندر أن تجد من يغوص إلى ما قبل مجيء الإسلام إلى المغرب، باحثا عن تاريخ هذا البلد، ومساهمة أجداده في تشكيل الحضارة المتوسطية. بل وفي ظل قيود هذه النزعة لا تجد من الباحثين القدامى والمعاصرين من يتساءل عن أثر الشخصية الثقافية المغربية في الإنتاج المغربي العربي القروسطوي. أو من يربط خصوصية ذلك (متى ظهرت واضحة تعمي الأبصار) بأحد التجليات الإثنوثقافية الأمازيغية. (نعطي مثالا واحدا للتمعن: تفضيل المغاربة لرواية ورش التي تتميز بعدم نطق الهمزة في كثير من الأحيان وتسهيلها وتعويضها بحرف مد موافق لحركتها. ففي حدود علمنا لم يثبت أن ربط أحد الباحثين القدامى ذلك بالخصوصية الأصواتية للغة الأمازيغية، التي لا يدخل هذا الصوت الحنجري ضمن قائمة أصواتها). والأكثر من ذلك أن يعمد كثير ممن وُضِعوا أمام إحدى حالات التمايز المغربي-المشرقي إلى المجازفة بعبور البحر شمالا إلى بلاد الأندلس لبيان المؤتلف. في الوقت الذي كان خليقا بهم، وفق منطق الأشياء، أن ينظروا إلى أرنبة أنوفهم فقط كي يستبينوا الظواهر والتجليات التي لم يجدوا لها شبيها في بلاد المشارق. بموجب هذه النزعة أيضا يتم اختزال آلاف السنين في كلمات معدودات، مكرورات. ويمارس التجني البحثي تحت شعارات علمية، وبمباركة من المؤسسات العلمية الأكاديمية. مثلما يتم تكريس الوهم في أذهان الناشئة عبر البرامج التعليمية الرسمية التي تلقي بالتلميذ والطالب المغربي قسرا وجورا في رحاب تاريخ المشرق العربي وآدابه وفنونه، حتى أنك لا تجد من تلاميذ المغرب اليوم من يدرك الخط الإسطوغرافي للدول التي تعاقبت على حكم المغرب منذ دخول الإسلام. أما إذا جازفت بسؤال أحدهم عن مغرب ما قبل دخول الإسلام، فلا تتوقع من الإجابات غير الطرائف المُضحكات ضحكا كالبكا على قول المتنبي. بوح الختام: بعد ما تقدم من حِجاج، لا نملك إلا أن ندعو مثقفي هذا البلد وباحثيه ممن يخالون أنفسهم عربا خُلّص الانتماء الهوياتي (إلى ما ندعو إليه أنفسنا قبلا) إلى محاولة الخروج من الأطر الفكرية المتوارثة التي ضيقت زاوية النظر إلى هويتهم. بل ولا نجد من حرج في دعوتهم إلى مراجعة التعريف الذي يقدمونه لهوية هذا البلد على أساس المسارعة إلى التخلص من أثر النزعتين المذكورتين، وذلك في أفق صياغة تعريف دقيق للإنسية المغربية، يعطي لكل مكون إثنوثقافي مكانته ويقيس حجمه بما يضمن كينونة هوياتية تسع الجميع. طبعا لا أخالهم إلا منكرين لقول شارل أندري جوليان: "إن الأمازيغي، رغم استقباله لحضارات مختلفة، قد احتفظ بهويته الأصلية. إن الحضارات المتتالية القادمة من خارج شمال إفريقيا كانت بالنسبة للأمازيغي عبارة عن ألبسة يضيف بعضها إلى بعض، ويبقى جسده داخلها هو هو لا يتغير" (أورده عبد السلام بن ميس)"؛ لأن للهوية تجليات وجدانية قاهرة. ولا يحق من منظور لزوم قبول الآخر أن تتم موضعته في خانة لا يرتضيها لنفسه على مستوى الانتماء. لكن الذي ينبغي أن ينتبه إليه هؤلاء الذين لا تخالجهم ذرة شك في عروبتهم، أنهم "عرب مغاربة"، بينهم وبين عرب المشارق برازخ ثقافية لن يردمها التنكر لتاريخ بلدهم، ولن يجسرها التباهي بمنجزات غيرهم. وأنهم إلى إخوانهم من أمازيغ المغرب أقرب لا بقوة المصير والمصلحة، ولكن بعرى وثقى من التاريخ والثقافة. هي هوية مغربية شيدها الإنسان المغربي، تكشفها العين الأنثروبولوجية (التي تنظر إلى ما لا تشير إليه أصابع السياسين)، لكن تلمسها بوضوح لن يتاح إلا لمن أتيح له أن يتخلص من تجبر "الأمية الإناسية". وهذه، لعمري، مستشرية على نحو غالب في الساحة الفكرية والجامعية الأكاديمية والإعلامية بشكل ممأسس ومقصود. ولذلك لا نتوهم أن ينجح هذا المقال في تعديل أفكار قارئ مخصوص نتوجه إليه، ولا نعتقد أن دعوانا ستسلم من تجريحات المعترضين، وما كنا آملين ذلك ولا طامعين. ولكننا نرجو أن يفتح مثل هذا الزعم عيون بعض القراء والباحثين على الفائدة العميمة التي يمكن يحققها الدرس الإناسي متى استدعيت مناهجه ومقولاته وبنياته النظرية إلى الساحة الأكاديمية. وبالجملة والنتيجة، فإن أرض المغرب قد قُدر لها أن تكون بقعة وسطا، بين الشرق الثقافي وغربه، حالها كشجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية، والذي يومئ إلينا بهذا الاقتباس القرآني هو قول ابن كثير عن هذه الشجرة في تفسير الآية: "ليست في شرقي بقعتها فلا تصل إليها الشمس من أول النهار، ولا في غربيها فيتقلّص عنها الفيء قبل الغروب، بل هي في مكان وسط، تَفْرَعه الشمس من أول النهار إلى آخره، فيجيء زيتها معتدلا صافيا مشرقا". لذلك لا نراه إلا مَلوما من يهيم لو يميد بهذه الشجرة إلى أحد الخافقين (الشرق والغرب). قد أوكح قبله من فعل، وهدَّه الضَّنك والعناء. وبقيت الشجرة ها هنا تجود بقطوف دانية وظل وريف.