بعد أن تطرق الدكتور مصطفى بن حمزة، رئيس المجلس العلمي المحلي لوجدة وعضو المجلس العلمي الأعلى، في الجزء الأول من بحثه الذي خص به جريدة هسبريس، إلى السياق التاريخي للتعليم الديني، ومكانته في المشاريع الإصلاحية للعلماء، يناقش في الجزء الثاني قضيتين، الأولى مسؤولية التربية الدينية عن الإرهاب، والثاني إلغاء مضامين معينة من المقررات الدراسية. وفيما يلي نص الجزء الثاني من دراسة الدكتور مصطفى بنحمزة، مع ملاحظة أن تقسيم المقال إلى أجزاء لجأت إليه هسبريس لأسباب تقنية.. قضية مسؤولية التربية الدينية عن العنف والإرهاب إن إلصاق تهمة العنف والإرهاب بالتربية الدينية ليس استنتاجا علميا مستوحى من دراسة معمقة لظاهرة العنف والإرهاب من جهة، كما أنه يمثل مساندة مجانية لكل التيارات اليمينية والعنصرية التي أصبحت تضايق المسلمين في ديار الغرب بمن فيهم أفراد الجالية المغربية، وقد أصبح هؤلاء يحسون أثر هذا التوجه على حياتهم اليومية، ويتخوفون بسببه على سلامتهم ومستقبل أبنائهم حيث يقيمون، خصوصا بعدما تعرضت بعض المساجد للإحراق والاعتداء. ولعل كثيرا من ساسة الغرب وزعمائه كانوا أكثر إنصافا وحذرا من أن يحدثوا شرخا عميقا بين أفراد شعوبهم، فلذلك صرحوا بأن المسلمين كانوا على الدوام مكونا إيجابيا من مكونات المجتمعات الغربية، وأنهم أسهموا في صناعة الثروة والأمن في البلاد التي أقاموا بها، وبعضهم هم أفراد في الجيوش الغربية وفي الأجهزة الأمنية، ومن قبل هذا قدموا مساندة لأوروبا وهي تواجه النازية، وقد أعلن أوباما وهولاند وغيرهما من القادة في تصريحاتهم أنهم يشجبون إلصاق تهمة الإرهاب بالإسلام وبعموم المسلمين، فالمسلمون هم أكثر من مليار وست مائة مليون نسمة، ولا يمكن موضوعيا تحميلهم أثر فعل قامت به فئة محدودة، لا تكاد تشكل أي نسبة عددية. كما أن الدراسات العلمية لظاهرة العنف والإرهاب في أوروبا وفي الولاياتالمتحدةالأمريكية أصبحت تؤكد أن أكثر ما حصل من حوادث العنف في جهات من العالم قد تم على أيدي غير المسلمين وبنسبة عالية، فكانت 98% من جرائم الإرهاب في أوروبا، و94% من جرائم الإرهاب في أمريكا قد قام بها أشخاص ليسوا مسلمين، كما ذكرت ذلك ديلي بِست. وذكر تقرير الشرطة الأوروبية يوروبول أن 99.6% من المسلمين لا صلة لهم بالإرهاب، وقد كان هذا التقرير مفاجئا لكل الذين انطلى عليهم فكر الإسلاموفوبيا القديم المتجدد. إن الدراسة الموضوعية والمتبصرة التي تنشد الحقيقة ولا تستهدف تحقيق أغراض جانبية لا قدرة لها على مقاربة ظاهرة الإرهاب، ترشد إلى أن الإرهاب يرتكب يوميا في كل جهات العالم، ومن قبل منتسبين إلى كل الديانات من غير أن يعزى ذلك إلى أي دين، ففي اليابان عمدت جماعة الحقيقة السامية إلى إطلاق غاز السارين السام في أنفاق المترو بطوكيو في مارس سنة 1995، معتقدة أن الموت هو خلاص للإنسان. وفي الولاياتالمتحدةالأمريكية تقع أكثر من 30.000 حالة اعتداء باستعمال السلاح سنويا، وأصبح إطلاق النار في المؤسسات التعليمية وفي الملاهي وفي الشوارع العامة منظرا متكررا ساعد عليه أن 80% من الأمريكيين يمتلكون سلاحا، وأصبحت التفجيرات من مستوى تفجير أوكلاهوما في أبريل سنة 1995أمرا معلوما، وفي أوروبا أصبحت جماعات الجريمة المنظمة، والمنظمات العنصرية توجه أسلحتها للمخالفين لها ثقافيا، ومن ذلك أن جماعة أصولية نرويجية يقودها أندريس فريفيك عمدت في 22 يوليو 2011 إلى تنفيذ عدوان مزدوج كان ضحاياه 77 من الأطفال المخيمين، وانتهت روح العنف إلى إيجاد جماعات الهوليكنز التي تشكل الألترات المساندة لبعض الفرق الرياضية، وأصبحت هذه المجموعات تحدث شغب الملاعب وما يترتب عنه من قتل وجرح، حتى أصبحت السلطات تتخوف من المباريات وتحشد لها الآلاف من رجال الشرطة، وأصبح حضور النيابة العامة المغربية في المقابلات الرياضية أمرا تلزم به القوانين المغربية. ومن أجل التأكد من أن الإرهاب لا وطن له، فإنه يكفي إلقاء نظرة على عدد من الزعماء الذين اغتيلوا في بلاد غير إسلامية، ففي الولاياتالمتحدةالأمريكية اغتيل أبراهام لنكولن1865وجون كينيدي 1963. ومالكوم إكس، ومارتن لوثر كينج عام 1968. ومن قبل هذا قتل زعماء أمريكيون عديدون. وفي الهند قتل الماهاتما غاندي على يد رجل هندوسي عام 1948 وقتلت أنديرا غاندي في عام 1984 بيد حراسها من السيخ.وفي سنة 1991 قتل ابنها راجيف غاندي بيد نمور التاميل، بينما كان يقود حملة انتخابية. وفي أوربا قتل من الرؤساء والزعماء عدد كبير ابتداء من يوليوس قيصر الذي اغتيل سنة 44 ق م، مرورا بعدد من الملوك،والقادة السياسيين كماكسميليانروبسبيير، أحد قادة الثورة الفرنسية الذي أعدم 6 آلاف إنسان في ستة أسابيع قبل أن يُعدم، وصولا إلى ولي عهد النمسا فرانس فيردنياند الذي اغتيل عام 1914 فكان اغتياله الشرارة التي أشعلت الحرب العالمية الأولى، فضلا عن الآلاف ممن ضحايا الحروب الدينية قبل ذلك،. وقد صار العنف في أوربا مكونا هيكليا بعد أن تبنت أوروبا الاستعمار أسلوبا للتعامل مع شعوب أخرى، واستمر التمجيد لمرحلة الاستعمار، وفي مناخ العنف تكونت النازية والفاشية (هتلر وموسوليني اللذان قضيا قتيلين) والتي أحدثت صورا مريعة من الدمار، وبرزت بعد ذلك جماعات الجريمة المنظمة، والجماعات العنصرية التي ترفض الآخر. إن الملاحظ هو أن جميع حالات العنف التي وقعت في الولاياتالمتحدة وفي أوروبا قد كيفت بأن نسبت إلى مختلين عقليا أو إلى متطرفين أو إلى سياسيين قوميين، ولم يلصق شيء منها بالمسيحية ولا باليهودية ولا بغيرهما من الأديان على الخلاف مما يقع مع الإسلام. إن الحقيقة الجلية هي أن الإرهاب ليس له حدود وليس له عامل واحد ينتجه، لكن أهم عوامله هو تشرب الذهنيات واقتناعها بمنطق العنف والقسوة، هذا العنف الذي يمجد ويرسخ اجتماعيا حينما يمنح الذين يمارسونه جوائز، مثلما نراه في ألعاب المصارعة الصومو، وألعاب الملاكمة والكارتينك، ومصارعة الثيران وغيرها من الألعاب العنيفة، وفي رياضة فنون القتال المختلطة mma. وبالنسبة للبلاد الإسلامية فإن الإرهاب قد حدث فيها بعد أن سحب عنها غطاء العلم الشرعي، وأفرغت مواقعه وعطلت مؤسساته، فهيأ ذلك طبيعيا لنشوء فكر لا ينضبط بضوابط العلم الشرعي، على قاعدة أن الطبيعة لا تقبل الفراغ. ويمكن التأكد من قضية التفريغ العلمي الذي ينتج العنف والإرهاب باستجلاب نماذج كثيرة من كل البلاد الإسلامية التي انتقلت من حال الاستقرار إلى أن صارت بؤرا للتوتر والعنف. ففي الحالة الأفغانية مثلا فقد ظل المسلمون منضبطين لأحكام الشريعة، وكانت أفغانستان بلد علم شرعي ومنها محدثون كبار من الهرويين وغيرهم، وكانت بَلْخ تعرف بأنها مدينة العباد والزهاد،لكن الأمر تغير بعد أن أقصيت أحكام الشريعة، وأصيبت هوية الناس في مقتل، ثم استولى المرتبطون بالشيوعية على الحكم، وسلموا البلاد إلى الجيش السوفياتي، وبعد هذا ظهرت ممارسات دينية ليس لها سند قوي من علم الشريعة، وكانت أقرب ما تكون إلى رد الفعل منها إلى الفعل المحتكم إلى الشريعة، ومن ذلك على وجه المثال: التوجه إلى تحطيم تماثيل بوذا في باميان، وهو فعل شجبه العلماء قبل غيرهم، وقد كانت حجةَ من قام به أن التماثيل قد عبدت من دون الله، وفات هؤلاء أن هذه المناطق الأفغانية قد عمرها ومنذ زمن بعيد علماء كبار، لكنهم لم يقولوا بوجوب تحطيم هذه التماثيل، لأن عبادتها قد صارت في ذمة التاريخ، ولأن الأفغان لهم من قوة الإيمان ومن التمسك بالعقيدة الإسلامية ما يحول دون مجرد التفكير في العودة إلى عبادة الأوثان، واستبقاؤها لن يكون إلا من قبيل استبقاء إبراهيم للوثن الأكبر ليقيم به الحجة على قومه، وليقول عنه بل فعله كبيرهم هذا، فيضطر قومه إلى الإقرار بأن الوثن لا قدرة ولا إرادة له، وهو إقرار جماعي بعدم صلاحية الأوثان لأن تكون آلهة. وبالإضافة إلى ذلك، فقد رأى المسلمون في تلك التماثيل شاهدا ماديا على النقلة الكبيرة التي أحدثها الإسلام في نفس الإنسان المسلم، حينما كرمه ونزه جبهته من السجود للحجارة والتراب، ليكون عبدا لله مخلصا. ومثل ذلك أن ما كانت تحتفظ به متاحف العراق من تماثيل كانت كلها تفسيرا ماديا لما ذكره القرآن الكريم من أن إبراهيم عليه السلام وجد الناس يسجدون للشمس وللقمر وللنجوم فأنكر ذلك، يقول الله تعالى: وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والارض وليكون من الموقنين فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين، فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يقوم إني بريء مما تشركون. [الأنعام 79] وقد صورت الآية أنواع المعبودات والعبادات التي كان عليها قوم إبراهيم. وقد رأى المسلمون قديما تماثيل مصر الضخمة، ومروا بها صباحا ومساء، ولم يعملوا على تحطيمها، ولو أنه كان من تعاليم الشريعة أن يهدم أو يعدم كل ما عبد من دون الله، لوجب إعدام البقر، لأنه يعبد من دون الله.ولوجبت إبادة الشجر، لأنه يعبد من دون الله كذلك. إن الخلاصة الجوهرية التي يتغاضى أو يذهل عنها بعض المتحدثين في موضوع العنف والإرهاب، أو يقصرون عن إدراكها هي: أن الخطر على الأمة لا يأتيها أبدا من معرفتها بدينها، ولا من إدراكها للمادة الدينية المحررة، وإنما يأتيها من الجهل بها أو التشويش عليها، وحينذاك يكثر أصحاب الرؤى والنظريات الخاطئة. وقد تفطنت الدول العلمانية التي كانت تلغي الدين من اهتماماتها، ولا تجعل العناية به ضمن مسؤوليات الدولة مؤخرا إلى أن ذلك الإهمال هو بالذات ما أفضى إلى تشكل صيغ متعارضة للتدين. ولهذا اتجهت فرنسا وهي التي تلتزم دستوريا بعلمانية الدولة منذ سنة 1905 إلى الاهتمام بتكوين الأطر الدينية، فأشرف الرئيس فرنسوا هولاند مع الملك محمد السادس بوصفه أميرا للمومنين في طنجة 21/09/2015على عقد اتفاقية يتم بموجبها تكوين أئمة فرنسيين بمعهد محمد السادس للأئمة بالمغرب، وهذا الإجراء يتجاوز مستوى تفويض الدولة المدنية تدبير الشأن الديني إلى جمعيات أو مؤسسات ذات طابعي مدني إلى مستوى أخذها مباشرة بالشأن الديني، وما أقدمت عليه فرنسا هو ما فعلته بعض الدول الإفريقية والعربية لاستيقانها بحكم التجربة والتعامل مع الواقع بأن استبعاد المعرفة الشرعية كان هو السبب الرئيس في وقوع الخلل الذي كان يخفيه ويداريه التمسك الصارم بعلمانية الدولة، ولو على حساب سلامة المجتمع. لقد أضاعت أوروبا على نفسها فرصا كثيرة لرعاية التدين المعتدل والمتبصر واحتضانه، حينما تجاهلت الحاجة إلى إنشاء معاهد وكليات تدرس علوم الإسلام للمسلمين من مواطنيها، ولم تعترف بالشهادات التي تسلمها بعض الجامعات التي أنشأتها الجالية، ولم تمكن أوروبا خريجي هذه الجامعات من تأطير الحياة الدينية عن علم ومعرفة. أما في الحالة المغربية فلقد بدأ الخلل منذ أن اتجهت سلطات الحماية الفرنسية إلى إيقاف إشعاع القرويين، حسبما أوصى به المستشرقان ألفردبل وغاستون لوث، وكان الرجلان لا يختلفان في ضرورة إلغاء دور القرويين، وإنما كانا يختلفان فقط في الطريقة التي يجب أن يتم بها ذلك الإلغاء. ومثل ما وقع للقرويين هوما وقع لجامع ابن يوسف حسبما ذكره المستشرق الأمريكي إيكلمان في كتابه المعرفة والسلطة. لقد تحدث ألبير عياش عن أنماط التعليم التي اعتمدتها فرنسا في المغرب، وذكر أن سياسة ليوطي قامت على ترسيم أنواع كثيرة من التعليم لتفريق المغاربة، لكن ثابتا كان يجمع بين كل تلك الأنماط يتمثل في أن كل تعليم للعربية وكل مساهمة فقيه ما، وكل مظهر إسلامي يجب استبعاده بصرامة.. وكان من أثر هذه السياسة أن تضاءل حجم وجود الكفاءات العلمية القادرة على قيادة المجتمع، فتعرت الحياة الدينية بعد سحب غطائها العلمي، واتخذ الناس لأنفسهم مرشدين، وهذه الحالة هي بالذات ما حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال:"إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا" على أن الذين يدعون الآن إلى تقليص المادة الدينية في البرنامج الدراسي أو إلى إلغائها بالمرة، قد صاروا بحكم التطور الذي عرفه المغرب عاجزين عن مواكبة مستجدات الواقع، لأن المغرب أصبح يقدم نفسه على أنه راعي التدين الوسطي المعتدل، وأنه أصبح يستقبل الأئمة والمرشدين من دول العالم، ومعنى هذا أنه يحتفظ بالمعرفة الشرعية المحررة والقادرة على إيقاف توغل أي فكر متطرف. فإذا صح أن يتجه المغرب إلى تقليص أو إلغاء المادة الدينية، فمعنى ذلك أنه ينسحب من موقعه ويتخلى عن رسالته التي أصبح مؤتمنا عليها دوليا، إذ لا قبل له بنشر ثقافة الوسطية والاعتدال إلا بنشر سندها من العلم الشرعي، أما باقي المعارف المدنية، فلا شك أن الذين ابتعثوا أئمتهم من الأوربيين إلى المغرب هم أدرى بها. إن انزياح المغرب عن موقعه الديني وتخليه عن مسؤولياته التعليمية هو مغامرة غير محسوبة العواقب، وهو خسارة سياسية للمغرب، يتمنى خصومه أن يقدم عليها خصوصا بعد أن صار ملاذا للكثير من الشعوب، وأصبح الزعماء يشيدون بنموذجه في التدين. والأكيد أن ما تبثه القنوات الفضائية ووسائل التواصل الاجتماعي الحاملة لمشاريع فكرية طائفية هي في قوة صبيبها أقوى بكثير مما تؤديه البرامج التعليمية، وكل ذلك الاستهداف لا يرد إلا ببرامج تعليمية دينية قوية، تتضافر في أدائها وسائل التعليم والإعلام، والتربية الشعبية وغيرها. وبناء على هذا، فإن الذين يقترحون تغييب المعرفة الشرعية أو حذف أبواب منها يخطئون الطريق ويعمقون الأزمة من حيث إنهم يظنون أنهم يعملون على حلها. لأن اقتراح الإلغاء هو تعويل على الجهل لا على المعرفة وهو خوف منها، وإن برنامجا يقوم على الجهل لا قرار له أمام أي فكر مهما يكن ضعيفا أو هزيلا أو متناقضا. القضية الثانية: اقتراح استبعاد مواضيع معينة من المقررات الدراسية أو التصرف في مضامينها. لقد ذهب بعض من تعجل إبداء الرأي في موضوع إصلاح البرامج الدينية بالمدرسة المغربية إلى أنه يجب حذف موضوعات بعينها، وحذف مصطلحات ذات حمولات غير حداثية، وحقن المادة الدينية بمصطلحات أخرى مغايرة. إن الأكيد هو أن من يبدي مثل هذا المقترح يقف على ضفة أخرى بعيدة جدا عن المعرفة الشرعية، وهو لا يعرف كيف تتأسس وتعتمد فيها الحقائق، لأن الناس ليسوا من الطواعية أو الاستكانة بحيث يقبلون بأي رأي يفرض عليهم من خلال برنامج دراسي يقدم لهم على أنه ينتمي إلى المعرفة الشرعية. إن الذين يعيشون الحياة الدينية يعرفون كيف تتأسس فيها الحقائق، لأن كبار الأئمة كانوا إذا انتهوا إلى حكم اجتهادي لم يقبل منهم ذلك إلا بعد ذكر دليله ومرجعه من كتاب أو سنة، أو بالاستناد إلى المصادر الاستنباطية التي طالما وقع الجدال حول اعتماد بعضها أو رفضه، حتى إنه ليصح أن يقال إن الاختلاف الفقهي سببه الأكبر هو الاختلاف في المصادر الاستنباطية، فمن لم يقل بالاستحسان أو بالقياس مثلا كان فقهه جاريا على نحو ما تقره أصوله الاجتهادية. وقد نسب إلى جميع الأئمة الكبار ومنهم أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل قولهم: إذا قلت بقول يخالف كتاب الله وما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتركوا قولي أو فاضربوا به عرض الحائط. ولطالما كرر ابن حزم في نقاشاته الحادة أنه لا معصوم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن صاحب كل كلام يؤخذ منه ويرد. يقول ابن حزم إنما أمرنا الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، وقامت حجة العقل بوجوب قبول ما صح عندنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبسقوط اتباع قول من دونه عليه الصلاة والسلام. وهذا هو المنهج الذي تتبناه الأمة الإسلامية قاطبة على امتداد جغرافيته أو عمق تاريخها، ولن يكون المغرب حالة استثنائية من هذا. إن مآل كل فكرة لا سند لها من الكتاب والسنة أنها تطرح ولا يعتد بها أحد، مثلما طرحت كثير من الأفكار التي لم يكن لها سند من أصول الشريعة، ثم انزوت إلى حيز الإهمال. أما عن اقتراح إلغاء موضوعات دينية معينة من المقرر الدراسي، فهو أيضا مقترح غير جدي، لأن الناس لا يأخذون تدينهم من الكتاب المدرسي فقط، وإنما يأخذونه من مصادر فقهية امتزجت بالذهنية الفقهية المغربية، فمن أساسيات الفقه في المغرب قراءة رسالة ابن أبي زيد القيرواني، ومختصر خليل، وهذه كتب اعتنى بها المغاربة وشرحوها، ولا يمكن إعمال مقص الرقابة فيها، لأن ذلك ليس بمستطاع أحد لو حاوله. إن الخبرة الميدانية تفيد أن الموضوعات التي يقفز عليها ويتجاوزها البرنامج الدراسي،هي ذاتها الموضوعات التي قد يوظفها فكر آخر بعد أن يعالجها بأسلوبه الذي يفتقر إلى سند صحيح من العلم الشرعي، ثم يستعملها في تأييد أطروحاته. ولعل أكثر الموضوعات إثارة للحساسية هو موضوع الجهاد الذي يقترح البعض إلغاءه من المقرر الدراسي. ويفوت هؤلاء أن هذا الهروب من الموضوع يبقيه رهين المعالجات الأخرى. والأصل أن يدرس موضوع الجهاد دراسة علمية، من مفرداتها أن كلمة الجهاد قد استعملت في العهد المكي، وكانت تعني بذل الجهد في خدمة القرآن ونشره، يقول الله تعالى: "وجاهدهم به جهادا كبيرا".قال المفسرون: إنه يعود إلى القرآن. ومن مفرداته أن الجهاد يعني تربية النفس وإجالة الفكر كما في قول الله تعالى: "والذين جاهدوا فينا لنهديهم سبلنا". يقول ابن عاشور: الجهاد هو الصبر على الفتن والأذى، ومدافعة كيد العدو. ومن مفردات الكلمة الصبر على تحمل الأبوين الكبيرين كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: اذهب ففيهما فجاهد. أما الجهاد بالمعنى العرفي الذي يعني مواجهة العدو في حالة الحرب فهو من أحكام الإمامة، ومن توابع وجود الدولة، وليس لفرد أو جماعة أن تعلن الجهاد، لأن ذلك من اختصاص إمارة المومنين. ومفهوم الجهاد في الإسلام يقابل مفهوم العقيدة القتالية عند جميع الدول التي تتخذ لنفسها جيشا، وتؤسس لتدريس عقيدتها أكاديميات عسكرية. لقد تبين من خلال دراسة ممارسة العنف أن كتبا معينة ركزت على جانب الجهاد، ففسرته بما شاءت، وأخذت بعض الجماعات بما جاء في مضمون تلك الكتب، فأعلنت الجهاد ضد المجتمعات، ومن تلك الكتب كتاب الفريضة الغائبة الذي كتبه محمد عبد السلام فرج أحد منظري الجماعة الإسلامية بمصر سنة 1981، وقد قيل عنه إنه الكتاب الذي كان له أكبر الأثر في إدخال المجتمعات الإسلامية في دائرة العنف، ورآه بعض الباحثين منطلق الفكر الجهادي، ومن تلك الكتب أيضا: كتاب رسالة الإيمان لصالح سرية، وقد تحدث فيه عن الجهاد وعن التكفير وعن اعتبار ديار المسلمين دار كفر. وكل هذه الكتب التي لم يطلع عليها أكثر المتحدثين في موضوع إصلاح التعليم الديني، وهي كتب رائجة متداولة. والمتعين في مقابل هذا هو بث ثقافة مصححة لمضامينها تنطلق من أحكام الشريعة لا من غيرها. ويكفي من ذلك كله إعادة نشر كتب المراجعات التي تتضمن اعترافات بخطأ اللجوء إلى العنف، وأذكر منها على سبيل الاقتضاب الكتب التالية: ذكرياتي مع جماعة المسلمين – التكفير والهجرة – عبد الرحمن أبو الخير دار البحوث العلمية بيروت 1980. نهر الذكريات، وهو تلخيص لنقاش تصحيحي حرره ثمانية من قيادات الجماعات، وقد كان بمثابة الحجر الذي ألقي في الماء الراكد، وأعلن بصراحة عن خطأ التوجهات السابقة. تسليط الأضواء على ما وقع في الجهاد من الأخطاء لأسامة إبراهيم حافظ وعاصم عبد المجيد، وإقرار أبرز قيادات المراجعات، وهم كرم زهدي وناجح إبراهيم. طبعة العبيكان 2004. حرمة الغلو في الدين وتكفير المسلمين لأسامة إبراهيم حافظ وحاتم عبد المجيد، وإقرار أبرز قيادات المراجعات مكتبة العبيكان 2004. دعوة للتصالح مع المجتمع ناجح إبراهيم وأبرز رجال المراجعات مكتبة العبيكان 2005. وإلى جانب هاته الكتب كتب أخرى يضيق المقام عن سردها. إن المعرفة الصحيحة بواقع العنف في العالم الإسلامي تفيد أنه لم ينشأ في أروقة المساجد ولا في حلقات الدرس ولا من كتابات العلماء. وإنما نشأ في زوايا أخرى شكلت لنفسها بيئتها الخاصة. ومن المؤسف حقا أن لا تنجز قراءات علمية وطنية ودولية للأفكار المؤسسة للعنف في العالم الإسلامي، وقد حاول المجلس العلمي الأعلى شيئا من ذلك لما عقد ندوة في حكم الشرع في دعاوى الإرهاب بتاريخ 19 ماي 2007 بالدار البيضاء، لكنه يبدو أن أكثر المهتمين والفاعلين لم يمنحوا أنفسهم فرصة الاطلاع على هذه البحوث، فلذلك لم يلمس أثرها في تحليلاتهم. وما يجب المصير إليه حاليا هو عقد مناظرات وطنية ودولية، من أجل بحث ظاهرة العنف والإرهاب في جميع المجتمعات،ومن ضمنها المجتمعات الإسلامية، وبحث جميع أسبابها وكافة الشروط المهيئة لاستنباتها وانتقالها بكل عمق وموضوعية، بعيدا عن التوظيف المغرض للإرهاب من أجل مساندة فكر له مجالاته الأخرى ليعبر فيها عن نفسه.