خص الدكتور مصطفى بنحمزة، رئيس المجلس العلمي المحلي لوجدة وعضو المجلس العلمي الأعلى، هسبريس ببحث أكاديمي مفيد، وسمه بعنوان "رؤية في التعليم الديني بالمدرسة المغربية"، تنشره الجريدة في ثلاثة أجزاء، حيث تطرق في الجزء الأول إلى السياق التاريخي للتعليم الديني، ومكانته في المشاريع الإصلاحية للعلماء. أصدر الديوان الملكي بلاغا أعلن فيه أن جلالة الملك محمد السادس أصدر تعليماته إلى وزير التربية والتعليم ووزير الأوقاف والشؤون الإسلامية بضرورة مراجعة برامج التربية الدينية ومقرراتها بالمدرسة المغربية العمومية وبالتعليم الخاص وبمؤسسات التعليم العتيق، في اتجاه إعطاء أهمية أكبر للتربية على القيم الإسلامية السمحة، وفي صلبها المذهب السني المالكي الداعي إلى الوسطية والاعتدال، وإلى التسامح والتعايش مع مختلف الثقافات والحضارات الإنسانية. وبعد صدور البلاغ تناول موضوع الدعوة إلى إصلاح التعليم الديني أشخاص عديدون ومنابر كثيرة لم تمنح نفسها وقتا كافيا لفحص الدعوة، وإنما عبرت في الغالب عن رؤى قبلية لقضية وجود التعليم الديني ضمن المقررات التربوية. والحالة أن الموضوع لا يمكن استسهاله، ولا الحديث فيه انطلاقا من تصورات ذاتية لا تستحضر أهمية المادة الدينية في التركيبة الذهنية المغربية، وفي حماية المجتمع من الوقوع في مَهواة التطرف والعنف، كما أنها لا تتوقع التداعيات التي يمكن أن تترتب عن الخطأ في التقدير وفي التصرف. وإذا كان هناك من قضية هي في حاجة إلى المقاربة الجادة التي يمكن أن يقدمها الخبراء والعارفون، فإن قضية إصلاح التعليم الديني تأتي في طليعة القضايا ذات الأولوية، والمطلوب أن يقدم من يتحدث في إصلاح التربية الدينية تصورا مسنودا بأدلته من الواقع ليسهل الاتفاق والالتقاء عليه. وفي هذا الإطار فإني أقدم إسهاما يتناول قضايا محددة أضعها بين يدي كل من يشغله أمر إصلاح التعليم الديني، وكل من هو منخرط فعلا في العملية الإصلاحية من أعضاء اللجن المكلفة بها، على أساس أنها لا تعدو أن تكون مساعدة على تكوين تصور عن الإصلاح، واضعا في الاعتبار أن قضية إصلاح التربية الدينية هي من الوجهة الدستورية من اختصاص إمارة المومنين التي يعود إليها أمر الحسم الرسمي في قضايا الشأن الديني، ومن ضمنها التعليم الديني حسبما تنص عليه الفقرة 5 من الفصل 41 من الباب الثالث من دستور 2011. أولا: سياق دعوة أمير المومنين إلى إصلاح التعليم الديني من أجل بلوغ فهم صحيح لبواعث الإصلاح التربوي ودواعيه الآنية، فإنه يتعين تبيئته ضمن مسلسل طويل لإصلاح التعليم الديني عرفه المغرب وخطافيه خطوات عديدة في عهد أمير المومنين محمد السادس، وخطا قبل هذا خطوات أسبق غطت كل مراحل تاريخ المغرب. ومستفاد هذا أن الدعوة الحالية ليست وحيدة، ولا هي معزولة عن سياقها التاريخي، وإنما هي مندرجة ضمن سيرورة تاريخية ونسق متتابع، وهي لهذا ليست استجابة لإلحاح اتجاه معين ولا هي متماهية مع تيار خاص،كما أنها ليست موجهة ضد تيار معين، وإنما هي مقاربة معرفية لمواجهة التطرف بالأسلوب العلمي الذي يقتضيه الظرف الراهن، وتستدعيه التحولات المجتمعية، وهو أسلوب كفيل بأن يسد الخصاص ويسدد المسار، وهو لا يعول على إفراغ الخانات التي يجب أن تملأ بالمعرفة الصحيحة المتصلة بالهوية الدينية المغربية الأصيلة، لأن التعويل على اللامعرفة هو رهان خاسر وخطوة طائشة في اتجاه المجهول. إن دعوة أمير المومنين إلى إصلاح برامج التربية الدينية تأتي امتدادا وتفعيلا لقرارات سابقة عبر عنها خطابه بمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب في 20 غشت 2012،وقد تحدث فيه عن الأعطاب الكثيرة التي أصابت المنظومة التربوية، وهو ما استدعى إصدار ظهير 16 ماي 2014 المتعلق باختصاص المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي والمتمم لظهير 30 نونبر 2007 ولظهير 10 فبراير 2000، ثم أعقب ذلك ما عبر عنه أمير المومنين في خطاب العرش لسنة 2015. إن توالي الخطب والظهائر الحاملة لتوجيهات عديدة داعية إلى إصلاح التعليم الديني، هي ولا شك تعكس الحاجة الملحة إلى إصلاح منظومة التربية والتعليم المغربية. إصلاح التعليم الديني في سياقه التاريخي منذ زمن مبكر من تاريخ المغرب كان لملوك المغرب اهتمام بالغ بمناهج التعليم ومقرراته. إصلاح التعليم الديني في عهد الموحدين في العصر الموحدي كان ليوسف بن عبد المومن ميل إلى الفلسفة فعمل على إحياء علومها وشجع أهلها. ويذكر عبد الواحد المراكشي أن يعقوب المنصور توجه إلى تغيير مقررات الدراسة فاستبعد مدونات فقهية، كمدونة سحنون، وكتاب ابن يونس، ونوادر ابن أبي زيد، وكتاب التهذيب للبراذعي، وواضحة ابن حبيب، وأمر جماعة من العلماء بجمع أحاديث من المصنفات العشرة الصحيحين والترمذي والموطأ وسنن أبي داوود وسنن النسائي وسنن البزار، ومسند ابن أبي شيبة، وسنن الدارقطني، وسنن البيهقي في الصلاة وما يتعلق بها، واعتمد في المغرب هذا المجموع واتخذ مقررا دراسيا. إصلاح التعليم الديني في عهد المرينيين في الزمن المريني كان أبو الحسن المريني يعتمد كتاب الإرشاد لإمام الحرمين في العقيدة الأشعرية، وكان يقرأ بين يديه، ويعرض عما سواه. واتجه المرينيون إلى دعم علوم الرياضة. وفي العصر المريني اعتمدت الدراسات بعض المختصرات الفقهية والأصولية المركزة جدا، واتخذتها متونا مدرسية، ومنها على الأخص مختصرا ابن الحاجب في الأصول وفي الفقه، وقد أدخلهما سليمان اللجائي المغرب، ودرس مختصر الأصول وأخذه الناس عنه. إصلاح التعليم الديني في عهد السعديين وفي زمن السعديين حقق التعليم الديني نقلة كبيرة، بعد أن أشركت البادية المغربية في نشر المعرفة في أعلى مستوياتها، وقد كان العرف في الغالب جاريا بأن تتولى البادية الاقتصار على تحفيظ القرآن وتلقين مبادئ العلم للناشئة، لينتقل الطلاب إلى الحواضر من أجل استكمال معارفهم، لكن منطقة سوس كانت لها سابقة قديمة في احتضان العلم، فكانت مدرسة أجلو سابقة في عطائها، وقد جعل السعديون تارودانت قاعدة لحكمهم، واجتذبوا إليهم العلماء، فانتشرت مؤسسات التعليم عبر بلاد سوس، على درجة من الكثافة لم يسبق لها نظير، وكان لتلك المدارس حاضنة شعبية لها أعراف صارمة في احتضان العلم، وصار مألوفا أن يخصص الناس ثلث أعشار الزكاة للمدرسة في كل قبيلة، وبهذا صارت سوس عالمة بكثرة المدارس التي توافرت لكل المناطق، وقد أرخ المختار السوسي لبعضها فيما كتبه عنها في كتابه مدارس سوس العتيقة، وكتابه خلال جزولة، وأثناء ترجمته للعلماء السوسيين في كتابه المعسول، وهو موسوعة ضخمة عرفت بعدد كبير من علماء سوس وأعيانها. قال عنها عبد الله كنون في تقريظه لها: إن من يرى المعسول لا يشك أنه إنتاج جيل من الباحثين ومشروع تضافر على إنجازه غير واحد من العاملين. ومرد هذه الطفرة السريعة إلى ما ذكره المختار السوسي من أن القطر السوسي سريع التطور في كل ميدان دخله. وقد صح ما قاله د. محمد حجي من أن العهد السعدي في سوس يمثل عصر النهضة العلمية الكبرى. ومرد هذه النهضة إلى أن بعض ملوك السعديين كانوا من أهل العلم، وقد تحدث الإفراني في الفصل الخامس والأربعين من كتابه نزهة الحادي عن المستوى العلمي لأحمد المنصور، وتحدث في الفصل السادس والأربعين عن مؤلفاته. وميزة التعليم بسوس أنه ذو طابع عملي لأنه اتجه نحو تجاوز التجريد إلى التطبيق، إذ نزل العلماء إلى الواقع المعيش، وأجابوا عن أسئلة الناس واستشكالاتهم وعالجوا قضاياهم، ولذلك اشتهرت عندهم كتب النوازل والعمل السوسي، وقد ألف عنها المرحوم د حسن العبادي كتابه فقه النوازل في سوس قضايا وأعلام، وقدمه أطروحة لنيل الدكتوراه من دار الحديث الحسنية سنة 1994. وتميز الفقه السوسي كذلك بفحص الأعراف ودراستها على ضوء الشريعة، ومنها: ما دونته ألواح جزولة، وقد كتب عنها الأستاذ امحمد العثماني كتابه ألواح جزولة والتشريع الإسلامي دراسة لأعراف قبائل سوس في ضوء التشريع الإسلامي، وأعده بحثا لنيل دبلوم الدراسات العليا بدار الحديث الحسنية بإشراف الأستاذ علال الفاسي سنة 1971. إصلاح برامج التعليم الديني في عهد العلويين لعل عصر العلويين أن يكون أكثر الأزمنة اهتماما بإصلاح التعليم الديني، من أجل مواكبة التطورات الاجتماعية التي طرأت على الحياة المغربية والدولية، ومن ذلك أن السلطان سيدي محمد بن عبد الله كان معدودا في العلماء،وكان كما يقول عنه المشرفي بحرا لا يجارى في التحقيق والمعارف،وقد ألفنحوا من ثلاثة عشر مؤلفا. منها:الفتوحات الإلهية الكبرى والصغرى، والجامع الصحيح الأسانيد المستخرج من أربعة منافذ وغيرها من الكتب. وقد بذل سيدي محمد بن عبد الله جهدا في إصلاح التعليم وفي تجديد مقرراته، ولذلك جلب إلى المغرب مصادر منها مسانيد أبي حنيفة وأحمد والشافعي، ودعا علماءه إلى شرح مؤلف الصاغاني في الحديث، ورتب أوقاتا لسرد الحديث. وكان من توجيهه أن لا يشتغل طلبة العلم بقراءة المختصرات الفقهية كمختصر خليل وابن الحاجب، وأن يعودوا إلى دراسة الأمهات المبسوطة. وقد قدم نموذجا للمقرر الدراسي الابتدائي في كتابه: مواهب المنان، فعرض فيه ما يتعين تعليمه لمبتدئين من أحكام الاعتقاد والفقه في أسلوب ميسر ومختصر. وإلى جانب هذا فقد وضع سيدي محمد بن عبد الله نظاما شاملا للتدريس بالقرويين. وكان المولى سليمان ممن دعا إلى إصلاح التعليم الديني، فدعا علماء فاس إلى شرح الأربعين النووية. وألف كتبا مفيدة منها حاشية على الخرشي بشرح مختصر خليل، وكتابه في الرد على منكري جواز التجمير زمن الصوم بمجلس الحديث، وقد رتب تقليد سرد الحديث على مر الأيام خصوصا في شهر رمضان. وكان من رأيه أن يعود الناس إلى دراسة الكتب التي كانت معتمدة في الدراسة من مثل المختصر على الخلاف مما كان يراه سيدي محمد بن عبد الله. واهتم سيدي محمد بن عبد الرحمن بإصلاح برامج التعليم الديني بالقرويين، فأدمج فيه مواد مثل الحساب والهندسة والفلك. وكان للمولى عبد الحفيظ اهتمام بإصلاح التعليم وبالمعرفة، فلذلك اهتم بالطباعة، وأسس المطبعة الحفيظية مكان المطبعة الحجرية بفاس، ونشر كتبا عديدة منها: نشر البنود على مراقي السعود لعبد الله العلوي الشنقيطي، مهمشا بالضياء اللامع في شرح جمع الجوامع، تأليف أحمد بن عبد الرحمن حلولو، ومشرب العام والخاص من كلمة الإخلاص للحسن اليوسي، ومفتاح الأقفال ومزيل الإشكال عما تضمنه مبلغ الأمال من تصريف الأفعال لمحمد بن أبي القاسم السجلماسي، وشرح نظم الخريدة في المنطق لحمدون بن الحاج، تأليف الطيب بن كيران، وفيض الفتاح على نور الأقاح في علوم البلاغة لعبد الله بن الحاج إبراهيم الشنقيطي وغيرها من الكتب. لكن أكبر وأقوى مشروع لإصلاح التعليم الديني كان هو ما قام به المولى يوسف من أجل إصلاح الدراسة بالقرويين، فكلف محمد بن الحسن الحجوي نائب الصدر الأعظم في المعارف بإنجاز برنامج لإصلاح التعليم بالقرويين، وذلك سنة 1332، وشكل لذلك مجلسا بعضوية عشرة من العلماء انتخبوا من بين علماء القرويين لتشكيل هذا المجلس الذي سمي بالمجلس التحسيني، وانعقدت الجلسة الأولى في 10 يونيو 1914، وقد أنجز هذا المجلس برنامجا شاملا لتطوير الدراسة بالقرويين، وكان يتألف من 102 من المواد، وكان هذا البرنامج كفيلا بأن يحدث نهضة تعليمية حقيقية لولا أن إرادة الاستعمار والمرتبطين به تدخلت فأجهضته. وتوجه الملك محمد الخامس إلى إصلاح التعليم الديني بالقرويين وإلى نقله إلى نظام حديث على غرار غيره من أنظمة التعليم الابتدائي والثانوي والجامعي. وقد أعلن محمد الخامس عن رؤيته للإصلاح في خطابه الذي ألقي على أساتذة القرويين وطلبتها فيربيع 1943، وصرح فيه بإدخال مفهوم النظام، وقد وزعت مراحل التعليم إلى ثلاث طبقات ابتدائية وثانوية ونهائية، وكان للمستوى النهائي توجهان: شرعي وأدبي،وحصرت المواد الدراسية، وحددت شهاداته دراسية. وكان من أبرز إنجازات محمد الخامس إتاحته الفرصة للمرأة لتستفيد من الدراسة بالقرويين، فأحدث لذلك دارا للفتيات وقد تولى تدشينها بنفسه، والتحقت بها مجموعة من النساء تخرجن بها سنة 1957. وابتداء من سنة 1929 واكب جهود الإصلاح والتحديث الرسمية ما قامت به كتلة العمل الوطني بعد أن أدركت ما يبيته الاستعمار من مس بالهوية المغربية، فقررت الكتلة تحديث الكتاتيب القرآنية وتوظيف مدرسين، وأنشأت كتاتيب من نوع جديد في فاس ثم مراكش والرباط وسلا، ثم اتسعت الحركة إلى مدن أخرى مثل وجدة والقنيطرة، وبعض المراكز مثل بركانسيدي قاسم وسيدي سليمان. وفي سنة 1934تضمن برنامج الإصلاحات الذي تقدمت به كتلة العمل الوطني جزءا تحدث عن تخصيص وقت لتدريس اللغة العربية والثقافة الإسلامية والتاريخ المغربي والجغرافيا المغربية في جميع المدارس الرسمية، وتضمن برنامج الكتلة المطالبة بالسماح للأفراد بإنشاء مدارس حرة تحت مراقبة وزارة المعارف. وبعد هذا أصبح التعليم الحر مشاركا بقوة في حماية الهوية الوطنية. وفي عهد الملك الحسن الثاني شهد التعليم عموما وضمنه التعليم الديني طفرة واسعة من مظاهرها، أنه أصدر ظهير 6 فبراير 1969 القاضي بإعادة تنظيم جامعة القرويين تنظيما جديدا. ومن أكبر إصلاحات الحسن الثاني للتعليم الديني إنشاؤه دار الحديث الحسنية عام 1964وهي مؤسسة للدراسات العليا أتاحت لكثير من طلاب العلم الذين لم يكن لهم أفق لإتمام دراساتهم العليا أن يلتحقوا بها ويحضروا بها أطاريح علمية أنعشت المعرفة الإسلامية بالمغرب. ومن مظاهر الإصلاح الذي اضطلع به الملك الحسن الثاني إحداثه شعب الدراسات الإسلامية، وتوسيع انتشار كليات الشريعة وأصول الدين بالمغرب. ومن منجزاته القيمة التي ظلت لزمن طويل أملا يراود عقول العلماء بالمغرب،إعادة الحياة إلى جامع القرويين وذلك عصر يوم الجمعة 21 ربيع الثاني 1409 الموافق 2 دجنبر 1988فاستأنف جامع القرويين نشاطه التعليمي، وفتح أمام طلبة العلوم الشرعية أملا واسعا لأخذ مكانهم الطبيعي من المجتمع، وأمد المغرب بأفواج من خريجيه الذين يشغلون في المغرب حيزا واسعا. وقد تواصل إصلاح التعليم الديني في عهد جلالة الملك محمد السادس، وأصدر العديد من الظهائر المنظمة لتدبير الشأن الديني، ومن ضمنه التعليم العتيق الذي خصه بالظهير رقم: 1.02.09 الصادر في 29 يناير 2002، وهو متعلق بتفعيل القانون 13.01في شأن التعليم العتيق، وقد أتاح هذا الظهير لطلبة التعليم العتيق الانخراط في الحياة الاجتماعية والمساهمة في التأطير الديني بعد استفادتهم من تعليم جامعي. ومن إصلاحات جلالة الملك محمد السادس دفعه بالمرأة دفعا قويا إلى الأخذ بحظها من المعرفة الشرعية، وفتحه آفاق الحضور لها في مجال العلم الشرعي، فوجدت العالمات والمرشدات والواعظات والحافظات للقرآن والمجيدات لرسمه وتلاوته. ومن إصلاحات جلالة الملك محمد السادس للتعليم الديني، تطوير التعليم العتيق،وترسيم شهادات التخرج به، فأصبح تعليما وطنيا يقف على درجة المساواة مع باقي أنماط التعليم بالمغرب. وأصبح خريجوه يشعرون باستوائهم مع غيرهم من التلاميذ والطلبة. إصلاح التعليم الديني في المشاريع الإصلاحية للعلماء لقد كان لكثير من العلماء الحاملين لفكر الإصلاح الاجتماعي دعوات إلى إصلاح مناهج التعليم الديني. فقد عقد ابن خلدون في كتابه المقدمة في الفصل السادس منه مبحثا عن تاريخ التربية والتعليم لدى كثير من الأمم الإسلامية، وأبدى رأيه في الطرق المتبعة. واستعرض د. علي عبد الواحد وافي في مقدمة تحقيقه لمقدمة ابن خلدون مجمل آراء ابن خلدون لإصلاح التعليم. ومن جهود العلماء لإصلاح التعليم الديني ما تحدث به محمد بن الحاج العبدري في الفصل الذي خصصه للحديث عن آداب المؤدب من كتاب المدخل. وعقد اليوسي الفصل الثالث من كتابه القانون للحديث عن آداب المعلم في التدريس، وعن آداب الدرس وعن طرق التدريس. وفي الأزمنة الحديثة تنادى علماء كثيرون إلى إصلاح التعليم الديني من أجل مواجهة التحديات التي طرحها لقاء المسلمين مع الغرب، فكان محمد عبده يرى أن الأولوية يجب أن تكون لإصلاح التعليم، على خلاف ما كان يراه جمال الدين الأفغاني الذي كان يركز الإصلاح على الجانب السياسي من أوضاع الأمة الإسلامية، وقد حقق محمد عبده بعض الخطوات في اتجاه تغيير البرامج التعليمية بالأزهر، يقول عنه محمد رشيد رضا: كان أول حديث دار بيني وبين الأستاذ الإمام في مصر هو الحديث عن إصلاح الأزهر. وقال: إن إصلاح الأزهر أعظم خدمة للإسلام، لأن صلاحه إصلاح لجميع المسلمين، وفساده فساد لهم. وفي المغرب كانت فكرة الإصلاح قد اختمرت في أذهان بعض العلماء، وتكررت على ألسنتهم. فكتب محمد الأعرج السليماني عن ضرورة الإصلاح ضمن كتابه اللسان المعرب عن تهافت الأجنبي حول المغرب، وأبرز بعض آرائه في الإصلاح. وكان لمحمد بن الحسن الحجوي الثعالبي اهتمام كبير بإصلاح نظام التعليم بالقرويين، وكانت له رؤية أودعها كتابه كناش الحجوي الثعالبي.وقد قارن فيه بين الحصيلة العلمية لطلبة القرويين وطلبة الأزهر وجامع الزيتونة، ودعا إلى إصلاح نظام التعليم بالقرويين. وقد أوكل مولاي يوسف إلى محمد بن الحسن الحجوي مهمة النهوض بالتعليم، فأنجز برنامجا إصلاحيا أحبطته السلطات الفرنسية. وكان من مفردات الإصلاح التي استطاع الحجوي أن يحققها إدراج مادة اللغة العربية ومبادئ الدين في المدارس الدولية الابتدائية والثانوية. وكان لعبد الله كنون رؤية لإصلاح التعليم الديني عبر عنها في كتابه التعاشيب، ومضمونها أنه يجب أن تتخصص كلية القرويين في الدراسات الإسلامية المحضة وما يعين عليها من علوم اللغة والقرآن، على أن تكون هذه العلوم وسائل تابعة لدراسة مواد التخصص، لأن من شأن هذا أن يساعد على تخريج علماء متضلعين يعيدون عهد مالك والشافعي والبخاري وأحمد بن حنبل وأبي منصور الماتريدي والأشعري وابن حزم وأبي بكر ابن العربي وابن تيمية وابن حجر وأضرابهم. وكان عبد الله كنون يدعو إلى تأسيس جامعة عصرية تتكون من عدة كليات في تخصصات مختلفة، وكان يرى أنه لا بد من إيجاد أساس متين لإصلاح التعليم الديني هو أساس إصلاح المجتمع كله. وقد توجه عبد الله كنون بمشروع الإصلاح إلى السلطان محمد بن يوسف، وكان هذا قبل أن تعرف الدراسة بالقرويين إصلاحها الذي تم على يد محمد الخامس. وفي تونس كتب محمد الطاهر ابن عاشور كتابه أليس الصبح بقريب، وتطرق فيه إلى طرق التدريس في المعاهد التونسية، واستهله بسؤال قال فيه: لما ذا نسعى إلى إصلاح التعليم. وتحدث عن تاريخ التعليم وعن محاضنه في البلاد الإسلامية، وتحدث عن تاريخ التعليم في المغرب الأقصى. وأفاد ابن عاشور أن أمرا قد صدر بإصلاح أساليب التعليم بالجامع الأعظم، فتشكلت لذلك لجنة يرأسها الوزير محمد العزيز بوعتور، وفي عضويتها مجموعة من علماء تونس، وتم ذلك سنة 1898. وتحدث الطاهر الحداد عن ثلاث محاولات لإصلاح التعليم بتونس منها ما صدر به منشور أحمد باي، ثم منشور محمد الصادق باي سنة 1882، ثم منشور سنة 1912. بواعث إصلاح التعليم الديني في المدرسة المغربية راهنا قد يكون استعراض ملامح من مسار التعليم الديني عبر تاريخ المغرب وغيره من البلاد كافيا لإفادة أن الإصلاح كان على الدوام عملية مستمرة لم تتوقف، وأن الداعي إليها كان هو الرغبة في تطوير التعليم الديني وفي مواجهة مستجدات الحياة وأسئلة المجتمع. وبناء على هذا، فإن دعوة أمير المومنين الحالية إلى إصلاح التعليم الديني ليست إلا حلقة في سلسلة،ومحطة من مسار طويل، وعلى هذا الأساس يجب التعامل معها حتى تدرك الدعوة غاياتها. ومن أجل الوفاء للغايات التي توختها دعوة أمير المومنين إلى الإصلاح، فإنه يتعين الالتزام بفحوى نص بلاغ الديوان الملكي،واتخاذه مرجعا وخطة عمل، حتى يسير الإصلاح في طريقه الصحيح. يقول نص بلاغ الديوان الملكي: إن الملك محمدا السادس أصدر السبت تعليماته إلى وزيري التربية الوطنية والأوقاف والشؤون الإسلامية، بضرورة مراجعة مناهج وبرامج مقررات تدريس التربية الدينية، سواء في المدرسة العمومية والتعليم الخاص، أو في مؤسسات التعليم العتيق، في اتجاه إعطاء أهمية أكبر للتربية على القيم الإسلامية السمحة، وفي صلبها المذهب السني المالكي الداعي إلى الوسطية والاعتدال، وإلى التسامح والتعايش مع مختلف الثقافات والحضارات الإنسانية. إن القراءة المتأنية لنص البلاغ تفيد أنه احتوى مضامين محددة، يمكن إجمالها في ثلاثة محاور هي: أولا: تعميق حضور المادة الدينية في البرنامج الدراسي، مع التركيز على إبراز قيم الإسلام السمحة، ومع استحضار عطاء المذهب المالكي السني الموسوم بالوسطية والاعتدال. ثانيا: توسيع نطاق تدريس المادة الدينية وتعميمها علىكل مؤسسات التعليم العمومي، ومؤسسات التعليم الخاص، والتعليم العتيق. ثالثا: نشر ثقافة التسامح والتواصل مع الثقافات والحضارات الإنسانية. ولا شك أن معالجة كل محور على حدة تستدعي تحليله إلى مكوناته الفكرية الأساس، ومعالجة كل مكون معالجة علمية مسنودة بشواهدها وأدلتها العلمية والواقعية. لكن الملاحظ أنه على الرغم من وضوح نص بلاغ الديوان الملكي، فإن ذلك لم يمنع من أن يتجه به البعض متجها آخر ويحاول توظيفه في خدمة رؤى ذاتية، ويرى فيه فرصة مواتية للمطالبة بالتقليص من المدى الزمني لتدريس المادة الدينية، أو بحذف عناوين معينة وإحلال عناوين أخرى بدلها، أو الانتهاء إلى استبعاد المادة الدينية من البرنامج الدراسي لو أمكن ذلك.وذريعة هؤلاء هو تحميلهم برامج المادة الدينية مسؤولية نشوء التطرف والإرهاب. وعلى الرغم من أن هذه المقترحات التي لا تتجاوز عتبة الدعوة إلى التقليص أو الإلغاء، وبذلك لم تكن مشروعا إيجابيا للإصلاح، لأن الإصلاح لا يقوم على التفريغ وإحداث الخواء المعرفي، فإنها تظل مع ذلك جديرة بأن تعالج معالجة علمية محايدة تنأى عن الذاتية وعن الرؤى القبلية، وتستند إلى واقع تجذر الدين في الحياة الذهنية الجمعية للمغاربة، وتستحضر الخلل المتوقع من استبعاد المعرفة الدينية وما ينتج عن ذلك التفريغ من تسرب أفكار غريبة عن البيئة التدينية المغربية، وما يتولد عن ذلك حتما من تعصب وصدام ومن طائفية مقيتة. والأكيد أن من يستطيع أن يلغي مادة دينية أنه لا يستطيع بالضرورة أن يمنع فكرا آخر من أن يحل بدلها. إن معالجة المقترحات التي تقدم بها بعض من دعا إلى تقليص وجود المادة الدينية في البرنامج التعليمي تستدعي التنبيه على القضايا التالية: إن تقديم أي اقتراح لا يفي بمتطلب تعميق المادة الإسلامية وتوسيع حضورها ونشر ثقافة التسامح هو في حقيقته شرود عن المضمون الذي حمله بلاغ الديوان الملكي، وهو انصراف عنه والتفاف عليه، يمكن وصفه بعدم الوفاء للنص المرجعي الذي يؤسس للإصلاح التربوي الراهن والمرتبط دستوريا بإمارة المومنين. ولو صح أن تكون مقترحات التقليص أو الإلغاء مشروعا لإصلاح التعليم الديني، فإنها لا تكون بحال مصغية ولا متماهية مع ما ورد في نص البلاغ، وإنما تكون مقترحات شاردة عن اللحظة، إن لم نقل إنها مقترحات أصبحت متجاوزة، لأنها قد جربت فعلا في ظل أنظمة شمولية في جهات من العالم الإسلامي، ثم كان المآل هو ما يراه الناس على الأرض، لا ما يبشر به دعاة التقليص والإلغاء. ومن أجل إيضاح الصورة وكشف الالتباسات التي حملتها بعض المقترحات المتعجلة، فإني أقتصر منها على مناقشة قضيتين هما: قضية مسؤولية التربية الدينية عن العنف والإرهاب. قضية إلغاء عناوين معينة من المقررات الدراسية. ملاحظة: لأسباب تقنية لم يكن متاحا نشر الهوامش والإحالات التي أدرجها الدكتور بن حمزة في المقال.