عراقة التاريخ و تحديات الحاضر السياق التاريخي: كانت المناهج الدراسية في جميع ربوع الدولة الإسلامية وفي مختلف مراحل التعليم مندمجةً فيما بينها، تندمج فيها مواد الشريعة والفكر الإسلامي بباقي المواد من فيزياء وكيمياء وطبيعيات وهندسة ولغة عربية وطب وغيرها من المواد؛ انطلاقًا من مبدأ "وحدة المعرفة" و"وحدة المصدر"، وانتهاءً بمفهوم "التكامل المعرفي" الذي يجسده واقعًا الاندماج المنهاجي؛ فكانت الجودة والكفاءات، وكان العلماء، وكانت النهضة. كما أنَّ التعليم كان محتضَنًا من المجتمع وتحت إشراف دار الخلافة؛ فعرف النجاح وعرفت الأمة الازدهار، ولم يشكل المغرب الاستثناء؛ فقد اجتهد السلاطين المغاربة على مر العصور منذ المولى إدريس الأكبر، مرورًا بالدول المتعاقبة على الحكم في المغرب، من الدولة الإدريسية، والدولة المُرابطية، والدولة الموحِّدية، والدولة المَرينية، إلى عهد الدولة العلوية الشريفة - في العناية بالتعليم الإسلامي، كل حسب رؤيته، من خلال بناء المدارس والمراكز العلمية، ورعاية العلماء، وتنظيم مجالس للعلم، وكان القاسم المشترك بينهم هو الغيرة على هذا النوع من التعليم الذي يشكل صمام الأمان للهُوية الإسلامية، والضامن لمواصلة الريادة والزعامة الفكرية والثقافية بين الأمم؛ فمنذ تأسيس جامع القرويين سنة 245ه في عهد يحيى بن محمد بن إدريس، خامس الأدارسة، اهتم السلاطين المغاربة بالتعليم، ولم يفرقوا فيه بين الديني والدنيوي، بل اعتبروا جميع أنواع التعليم دينيةً؛ لأنها تخدم الإنسان بصفة عامة في حمل مشعل القيام بأمانة الاستخلاف وإعمار الأرض.ففي العصر المرابطي: اعتنى السلاطين بهذا النوع من التعليم بأن أسسوا عدة مدارس إسلامية لتلقين المعارف، ودشنوا الجوامع الدينية لتدريس العلوم الشرعية والفقهية، كما عملوا على توسيع جامع القرويين، وأسسوا جامع ابن يوسف بمراكش، يضاهي جامع القرويين بفاس.وفي عهد الموحدين: تم بناء عدة مساجد ومدارس، منها المسجد الأعظم بمدينة سَلَا ومدرسته الباقية إلى الآن، ومدرسة الشيخ أبي الحسن الشاري من أعلام ذاك العصر، التي أنشأها في مدينة سَبْتَة. كما اهتم المَرينيون اهتمامًا كبيرًا بالعلماء والفقهاء وطلبة العلم، فبالإضافة إلى المؤسسات الدينية والمساجد، عملوا على بناء عدة مدارس، من أهمها: مدرسة الصفارين التي بناها السلطان يعقوب بن عبدالحق سنة 670ه، ومدرسة فاسالجديدة التي بنيت بأمر من الأمير علي بن أبي سعيد عثمان، ومدرسة الصهريج التي بنيت سنة 721ه في عهد السلطان أبي سعيد عثمان بن عبدالحق، ومدرسة العطارين التي شيدت سنة 723ه، والمدرسة البوعنانية التي بناها السلطان أبو عنان بن أبي الحسن سنة 755ه، والمدرسة العظمى في مراكش التي بناها السلطان أبو الحسن علي المريني.لقد اهتمت هذه المدارس والجوامع بجميع أنواع العلوم، وكانت كلها تدور حول العلوم الشرعية وتنطلق منها.أما في العصر العلوي، فقد انتشرت المدارس العتيقة والمعاهد الدينية والكتاتيب القرآنية بشكل كبير؛ فمن اهتمامهم بالتعليم الديني عمل السلطان محمد بن عبدالله العلوي على الإشراف على عدة إصلاحات، من قبيل التركيز على العلوم النقلية والتوجه العقائدي السلفي، والعناية بنشر كتب السُّنة، ومنع تدريس الفروع والعلوم العقلية كعلم الكلام والفلسفة والمنطق وتصوف الغلاة.وقد تابع العلويون بناء المدارس العتيقة والمدارس الدينية إلى الآن. تحديات تاريخية: لما جاء وباء الجمود والتقليد وعم جميع بلدان العالم الإسلامي، لم يستثن المملكة المغربية، وعند مجيء الاستعمار الغربي عمل على تكريس هذا الجمود، والقضاء على كل نظام تعليمي له مرجعية إسلامية؛ سعيًا منه لطمس وإلغاء القيم الإسلامية والهوية الثقافية للمغاربة، من خلال تهميش اللغة العربية والدين الإسلامي من الساحة التعليمية؛ فعمل على إنشاء مدارس "عصرية" تدرس فيها اللغات والآداب والتاريخ والفلسفة والمنطق وعلوم أخرى كالرياضيات، بمناهج ومقررات أكثر حداثةً، وبمقاربات وطرائق جديدة على ضوءِ آخِرِ ما تم التوصل إليه في مجال علوم التربية.في مقابل ذلك، ظلت المدارس "التقليدية" المتمثلة في جامع القرويين بفاس، وجامع ابن يوسف بمراكش، ومدارس سوس، والمساجد - تتخصص في تدريس العلوم الشرعية واللغوية والأدبية بنفس المناهج والطرائق التقليدية التي عرفت بها منذ قرون؛ فتخلفت تلك المدارس عن مجاراة المدارس العصرية، وإن كانت تخرج بين الفينة والأخرى علماء ومفكرين.وقد ظهر مصطلح "التعليم الديني" حين تم الفصل بين العلوم الاجتماعية والعلوم الحقة وعلوم الشريعة واللغة العربية، كما ظهرت تسميات جديدة فرضها سياق عام انتشر فيه التعليم "العصري" في المغرب من مثل "التعليم العتيق"، فكان أول من أطلق هذا الوصف "المختار السوسي" في كتابه "سوس العالمة"، والمصطلح ليس قدحًا في هذا النوع من التعليم، بل هو مرادف للتعليم الإسلامي، ويراد به نوع التعليم كما كان يمارس بمدارس المغرب قبل مجيء الاستعمار، والمخالف لما جاء به نظام الحماية من إصلاح تعليمي، كما سُمِّي بتسميات أخرى من قبيل "التعليم الأصلي" و"التعليم الأصيل". إصلاحات متعاقبة: كما هو معلوم فإن المقاومة العسكرية لا تكفي لإجلاء المحتل، بل لا بد أن تواكبه إصلاحات تربوية تحصِّن الفرد، بدايةً مِن الأفكار الواردة من العالم الغربي التي تهدد هويته، وتهيِّئه كذلك لبناء حضارة تضاهي تلك الوافدة علينا كرهًا، وتستعيد أمجاد ماضي أمَّتنا العريق.فأصبح الحال يلح على ضرورة إنشاء نظام جديد للتعليم، يحافظ على المرجعية العقدية والشرعية، ويتلاءم مع الواقع المغربي، وينفتح على العلوم الجديدة، فتوالت المبادرات الإصلاحية للتعليم العتيق بدءًا من إصلاح 1931م من خلال إصدار ظهير ملكي لإصلاح جامع القرويين، ينص على تعيين مجلس أعلى يشرف على الجامع، ويسن ضوابط دقيقة لانتداب العلماء المدرسين به، والمواد المدرسة، وتدبير الزمن الدراسي... وفي سنة 1942م، وإيمانًا منه بضرورة إصلاح جامع القرويين وجعله وسيلةً للارتقاء بالتعليم العتيق في كل البلاد، قام المغفور له بإذن الله "محمد الخامس" بتعيين مدير للجامع أُسندت له مهمة الإشراف على تطوير المؤسسة، وفي سنة 1957م تم إحداث لجنة ملكية لإصلاح التعليم العتيق بشقَّيه التربوي والإداري، من بينها تحويل السلك العالي لجامع القرويين ومدرسة ابن يوسف بمراكش إلى كليات الآداب وكلية الشريعة، وإحداث نظام التعليم الأصيل وإلحاقه بوزارة التعليم العالي.وخلال الستينيات من القرن الماضي، أطلق الراحل الحسن الثاني عدة مبادرات لبعث التعليم العتيق، بدءًا من ظهير 1963م، القاضي بجعل جامعة القرويين تحت وصاية وزارة التربية الوطنية والتعليم العالي، وضمها لكل من كلية الشريعة بفاس وكلية أصول الدين بتطوان وكلية اللغة العربية بمراكش، كما أصدر سنة 1964م أمرًا بإحداث دار الحديث الحسنية وجعلها تابعة للبلاط الملكي، وفي سنة 1969م تم إحداث نظام الكتاتيب القرآنية لإمداد مدارس التعليم الأصيل بحفاظ كتاب الله.وتوالت بعد ذلك الإصلاحات تباعًا؛ ففي سنة 1975م أصدر الراحل الحسن الثاني ظهيرًا في شأن تنظيم الجامعات، أصبحت بموجبه جامعة القرويين تخضع في تسييرها التربوي والإداري - أسوة بالجامعات المغربية الأخرى - إلى هذا الظهير.وفي سنة 1988م، تم تبني خطة لإحياء جامع القرويين وفق نظام الكراسي العلمية. وفي سنة 2003 أمر الملك محمد السادس بموجب الظهير الشريف رقم 1.02.09 بتنفيذ القانون رقم 13.01 في شأن تطوير وتأهيل التعليم العتيق، يقضي باعتبار جامع القرويين إحدى مؤسسات التعليم العتيق إلى جانب جامع الحسن الثاني بالدار البيضاء ومعهد الإمام مالك بتطوان، بالإضافة إلى صدور الظهير الشريف رقم 1.03.193 في شأن الهيكلة الجديدة لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، التي تم بموجبها إحداث مديرية التعليم العتيق.وتواصل العمل في هذا الاتجاه بإصدار المرسوم 1273•05•2 في دجنبر 2005م، ثم صدور مجموعة من القرارات التنظيمية لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في ماي 2006م؛ لتنطلق عملية التأهيل والإدماج تدريجيًّا.وفي سنة 2015م أصدر الملك ظهيرًا يقضي بإعادة جامعة القرويين لوصاية وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، لتضم تحتها كل معاهد ومؤسسات التعليم العتيق، على أن تبقى كليات الشريعة وأصول الدين واللغة العربية تحت وصاية وزارة التعليم العالي والبحث العلمي.كل هذه الإصلاحات كان الهدف منها هو العمل على تطوير هذا النوع من التعليم من الناحية التربوية والدينية لمواكبة المستجدات والتحولات الاجتماعية؛ قصد تزويد المجتمع بنخبة من العلماء المؤهلين للإسهام في البناء الفكري لأفراد المجتمع والذود عن ثوابت الأمة. التجسير بين التعليم العتيق والتعليم العمومي: قراءة نقدية: كل تلك الإصلاحات كان الغرض منها تحسين الأداء التربوي للتعليم العتيق؛ حتى يستمر في أداء وظائفه على كافة المستويات التعليمية والقيمية والتنموية.غير أنه، ومع ظهور الظهير الشريف 13. 01 في 29 يناير 2002م، الذي قررت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية (في المادة 17 من الباب الخامس) بتنسيق مع وزارة التربية الوطنية والتعليم العالي وتكوين الأُطُر والبحث العلمي (كما ينص على ذلك الميثاق الوطني للتربية والتكوين في مادته 88 من الدعامة الرابعة للمجال الثاني المتعلق بالتنظيم البيداغوجي) خلق جسور منفتحة بين التعليم العتيق والتعليم الأصيل والتعليم العمومي، مع وجوب "تضمن البرامج الدراسية المطبقة بمؤسسات التعليم العتيق حصصًا إلزاميةً من المواد المقررة بمؤسسات التعليم العمومي في حدود الثلثين من الحصص المخصصة لهذه المواد، بما في ذلك مواد اللغات والرياضيات والرياضة البدنية" - بدأ التعليم العتيق يفقد خصوصيته.فبخطة التجسير هاته، كُتب على التعليم "العتيق" أن يظل تابعًا تمُنُّ عليه المدرسة العمومية بمودَّتها؛ فكيف له أن يطلب مودتها وهي تعاني مرضًا معديًا لن ينجو منه إن اندمج معها (مرض "الضعف" و"الفشل")؟إنَّ من نقاط قوة التعليم العتيق هو الإجماع حول المنطلقات والمرجعية، عكس التعليم العام (وهذا دافع للعناية به؛ لأنه أكبر داعم للهوية)، وبالتالي عندما نسعى إلى إدماجه بالتعليم العمومي الذي لا يزال يتخبط في مسألة المرجعية - فهو تهديد له ومنه، وبطريق التعدية تهديد للهوية الإسلامية، مما يدفعنا للقول بضرورة حفاظه على خصوصيته.فكيف للتعليم العتيق أن يندمج مع نظام تعليمي يجعل من قيم حقوق الإنسان في بُعدها الكوني من مرتكزاته الثابتة كاختيار وتوجُّه؟ والكل يعلم ما لهذه العبارة من دلالات قيمية تحيل لا محالة إلى بعد أيديولوجي يتعارض مع المرجعية الإسلامية، أو على الأقل لا يتناسب معها؛ هذا من الناحية الدينية والهوياتية.أما من الناحية التربوية، فإنَّ إلزام طلبة التعليم العتيق بنسبة الثلثين من الحصص المخصصة للتدريس لمواد التعليم العمومي بغرض "التجسير" معناه أن هذه الحصص تستغرق منها دراسة اللغات الأجنبية بما فيها الأمازيغية والمواد الاجتماعية والعلمية و"التربية البدنية" نسبة الثلثين، ويبقى الثلث للعلوم الشرعية! فهل ذلك كفيل "بتخريج العلماء بالشريعة الذين بهم يقوم الشأن الديني كله في الأمة، وتحيا بهم حركة الاجتهاد الراشد، والتربية الربانية" كما جاء في الوثيقة التربوية الإطار للتعليم العتيق؟إن أهمية التعليم العتيق تنبع من مكانته في الساحة التربوية للبلاد، فبالإضافة إلى دوره التربوي - التعليمي والقيمي، فإنه صمام الأمان والأمن لهذه الأمة، والمدافع عن ثوابتها الدينية، والمحافظ على هويتها الإسلامية، وتراثها العلمي والحضاري.وبالتالي، فإنَّ النهوض بهذه الأمة فكريًّا وعلميًّا وتربويًّا لن يتأتَّى إلا بالنهوض بالتعليم "العتيق" وتطويره دون إخلال بمقوماته، وذاك كفيل بتخريج كفاءات مؤهلة علميًّا وتربويًّا للقيام بمسؤوليتها في البناء الفكري والحضاري. بإجماع المغاربة الأولين و الآخرين فإن : التعليم العتيق أساس النهضة العلمية و حصن منيع ضد الحملات الصليبية