في الصباح الباكر من كل يوم، يحمل الشاب محمود المصري، 27 عامًا، ومساعدين اثنين له، ما يقرب من 300 نسخة ورقية من إصدارات ثلاث صحف؛ لتوزيعها على منافذ البيع بمناطق وسط القاهرة. "لم يكن الوضع قبل نحو ثلاثة أعوام على ما هو عليه الحال الآن"، يتحدث المصري عن انحدار معدل توزيع الصحف في مصر، مشيرًا إلى أن "19 شخصا كانوا، وقتها، مسؤولين عن توزيع الصحف الثلاث، وكانوا يقومون بالمهمة ذاتها في وقت رواج الصحف الورقية، لكن الأزمات الاقتصادية التي ضربت مصر عامة والصحافة خاصة، وأسباب أخرى، لم يذكرها تسببت في انخفاض معدل مبيعات الصحف". انهيار مبيعات الصحف التي يعمل بها المصري ومن معه، دفعهم إلى التوجه لدراسة وسائل التواصل الاجتماعي والعمل في "توزيع المواد الخبرية عبرها"، على فترات عمل تمتد لثمان ساعات يوميًا. وفي تفسيره لذلك التوجه، يقول الشاب: "يبدو أننا ننتظر رصاصة الرحمة للإصدارات الورقية، وأنا لن انتظر تلك الرصاصة، لتصيبني في مقتل، وتنهي تواجدي في سوق العمل الصحفي والإعلامي". كلمات المصري تلخص حال الصحافة الورقة في مصر، التي باتت تعاني من أزمة حادة تتمثل في انهيار معدل التوزيع، بجانب "تضييقا إعلاميا"؛ ما دعا عدد من الصحف إلى الخروج من السوق، أو التحول من النسخة المطبوعة إلى الإلكترونية، أو التحول من الصدور اليومي إلى الصدور الأسبوعي، فيما أصبح لكل الصحف الورقية موقعا إلكترونيا تبحث من خلاله عن قراء لها. وكانت صحيفة البديل قد أعلنت في 18 نونبر الماضي، وبعد نحو ثمانية أعوام من الانضمام للسوق الإعلامي، التوقف عن الصدور نهائيًا؛ بسبب ما اعتبرته "تضييقا إعلاميا تتعرض له في عهد الرئيس عبدالفتاح السيسي". وقبل ذلك بنحو شهرين، وبالتحديد في مطلع شتنبر الماضي، أعلنت صحيفة "التحرير"، التوقف عن طبع نسختها الورقيّة، والاكتفاء بموقعها الإلكتروني. وفسرت الصحيفة، في بيان آنذاك، قرارها ب"انصراف أغلب قطاعات المجتمع عن قراءة الصحف المطبوعة، خصوصا الشباب، واتجاههم إلى الحصول على معلوماتهم من الصحافة الإلكترونية". أما صحيفة المصريون، فقد تحولت من النسخة اليومية إلى الأسبوعية نهاية عام 2013؛ بسبب المصاعب المادية التي واجهتها جراء ضعف التوزيع، حسب ما أعلن القائمون عليها. ثلاث صحف اتخذت قرارات صعبة يعتبرها كثير من الخبراء والمراقبين للشأن الإعلامي مؤشرا على قرب إعلان شهادة وفاة الصحافة الورقيّة في مصر، وإن كان البعض لا زال مستبعدا حدوث هذه الخطوة خلال المستقبل القريب. لكن جميع هؤلاء الخبراء والمراقبين أجمعوا في أحاديث منفصلة على وجود أزمة حادة تواجهها الصحف الورقية في مصر؛ جراء أسباب مختلفة أدت إلى تراجع معدل التوزيع، والعائد المادي تبعا لذلك، ومن أهم هذه الأسباب: اتجاه الشباب إلى وسائل التواصل الاجتماعي كمصدر للأخبار، وتراجع التمويل الخارجي لبعض وسائل الإعلام، إضافة إلى "التضيق الإعلامي على الصحف". ومن بين الخبراء المقتنعين بأن نهاية عصر الصحافة الورقية بات وشيكا، عادل صبري، رئيس تحرير موقع "مصر العربية" الإخباري، والذي قال إن "الصحافة عامة في مصر تواجه إشكاليتين؛ الأولى تتعلق بنوعية الخدمات التي تقدمها للجمهور، والثانية تتمثل في التضييق على حرية الصحافة من جانب السلطات". ويضيف: "الصحافة تعيش فترة عصيبة في مصر، يتمثل أبرز ملامحها في رفض السماح بنشر موضوعات بعينها تهاجم السلطة؛ ما يدفع القائمين على الصحف إلى تقليل توزيع النسخ المباعة، بجانب أن السلطة لم تعد قادرة على تحمل أعباء الصحف ماليا كما كانت تنفق عليها من قبل". ومفسرًا توقعاته ب"اقتراب نهاية عصر الصحافة المطبوعة بمصر"، يقول صبري إن "المشكلة مهنية ومالية في نفس الوقت، بجانب الرقابة على الصحف، وعدم إقبال الشباب الحالي على القراءة، فيما تخاطب الصحافة الورقية من هو فوق سن الأربعين، والجيلين الحالي والقادم مهتمين بالنيو ميديا (الإعلام الجديد أو مواقع التواصل الاجتماعي)". وأشار إلى قدرة الصحافة الإلكترونية على إزاحة الورقية، من سوق العمل، "لا أزمة مع الجمهور ما دام محتوى ومضمون الصحافة الإلكترونية جيدًا، لكن المشكلة تكمن في أن الدولة لا تعترف حتى الان بالمواقع الصحفية الإلكترونية، ولو تم تقنين أوضاع الالكتروني لن تحتاج مصر الصحافة الورقية". ومتفقا مع رؤية سابقه، يقول قطب العربي، الأمين السابق للمجلس الأعلي للصحافة، وهي جهة حكومية مسؤولة عن تنظيم شؤون الصحافة في مصر، إن "الصحافة الورقية حتمًا ستعاني كثيرًا خلال الفترة المقبلة"، مضيفًا: "بدأت مسيرة غروبها من الآن، ولنا فيما حدث مع صحيفة "التحرير" شاهد؛ حيث أغلقت نسختها الورقية، واكتفت بموقع الكتروني، كما أن صحفًا أخرى تتجه للاستغناء عن النسخ الورقية مثل "المصري اليوم"؛ بهدف ضغط النفقات، والتخلص من كثير من الأعباء المالية التي تنفق على طباعة النسخ الورقية". العائد المادي من مبيعات الصحف المطبوعة، يراه العربي سببًا رئيسيًا في انهيار صناعتها؛ بسبب "ضعف وندرة الإعلانات في ظل حالة اقتصادية متردية، وارتفاع سعر الدولار مقابل الجنيه المصري (وصل سعر الدولار في السوق الموازية بمصر نحو 10 جنيهات)". ويلفت إلى وجود "اتجاه عالمي" في الوقت الراهن لغلق الصحف الورقية والإكتفاء بالنسخ الإلكترونية، و"يشجع هذا الاتجاه انتشار الإنترنت، وتوجه شرائح كثيرة نحو الصحافة الالكترونية، وهذا ينطبق بشكل خاص على شريحة الشباب، التي تفضل مطالعة الأخبار عبر الإنترنت حتى لو أتيحت لها الصحف الورقية". وكانت صحيفة "الإندبندنت" البريطانية واسعة الانتشار اتخذت، خلال مارس الجاري، قرارا جريئا بالتوقف عن طباعة نسختها الورقية، والاكتفاء بالموقع الإلكتروني. جمال سلطان، رئيس تحرير ومؤسس صحيفة المصريون، ضمن الفريق الذي يتبنى رؤية أن عهد الصحافة الورقية أوشك على الانتهاء. وكانت صحيفته، المصريون، من الصحف التي تحولت من الاصدار اليومي إلى الأسبوعي، نهاية عام 2013؛ بسبب مشاكل مالية. ويرى "سلطان" أن أزمة الصحافة الورقة تعود في جزء منها إلى "توقف التمويل الخليجي للصحف المصرية"، الذي كان سخيا في مرحلة ما قبل الإطاحة ب"محمد مرسي، أول رئيس مدني منتخب ديمقراطيًا في مصر في 3 يوليوز 2013، وتقلص بشكل كبير بعد "الانقلاب العسكري" عليه. وحول ذلك يقول في مقال بعنوان "فضفضة عن أحوال الصحافة ومتاعبها ومستقبلها"، نشره الأحد الماضي، إن "الراعي الخليجي فيما يبدو قرر التوقف وغلق الصنبور؛ لأن المرحلة المطلوبة انتهت، وأصبح مشغولا بمناطق أو ملفات أخرى أهم، إضافة إلى زيادة الالتباس في السياسة المصرية وتوجهاتها، كما أن الأزمات الاقتصادية العاصفة في سوق النفط خاصة ساعدت على اختيار هذا الاتجاه". وبخلاف الآراء السابقة، يستبعد هشام قاسم، الناشر والعضو المنتدب السابق لصحيفة "المصري اليوم"، توقف الإصدارات الورقية في مصر خلال المستقبل القريب. وبرر قاسم وجهة نظره، بالقول إن "انتشار الصحافة الإلكترونية أقوى كثيرًا من الورقية، لكن تبقى الجدوى التجارية هي المحدد لنجاح الصحف الورقية واستمرارها، وكثيرًا من المؤسسات الصحفية اعتمدت على الرقمي وفشلت في النهاية". ويضيف: "التوقف عن إصدار النسخ الورقية بالمؤسسات الصحفية معناه إعلان المؤسسة الصحفية إفلاسها"؛ حيث إن "الإيرادات من الطبعة الورقية لا زالت تمثل حتى الآن بحد أدنى 80%، والصحيفة التي تعلن توقف الطبعة الورقية في طريقها لإعلان الإفلاس". ومع ذلك يؤكد قاسم أنه "لن يستطيع الاستمرار في سوق الصحافة الورقية؛ إلا من يحافظ على محتواه ومضمونه المقدم للجمهور"، داعيا إلى "إيجاد بدائل لإيرادات الطبعات الورقية للتغلب على انتهاءها في وقت ما". ويستدرك: "لكن لا يوجد في السوق الصحفي خطة عمل لمواجهة تداعيات انهيار الطبعات الورقية، بخلاف تلك التي تميزت بها إدارة صحيفة المصري اليوم، عقب ثورة 25 يناير". ومتطرقًا إلى أوضاع الصحف الحكومية في مصر، يقول: "تفشت فيها فكرة عدم جدوى الربح التجاري في مقابل تملق النظام والحاكم، بجانب معاناة مصر من قرار تأميم (نقل ملكيتها للدولة) الصحافة في ستينات القرن الماضي، بعد أن كانت صحافة تتميز بالتعافي والقوة والتنافس، خاصة صحف جماعة الإخوان واليساريين آنذاك"، ورغم الجدل بشأن مستقبل الصحافة الورقية في مصر، لكن الواقع يؤكد عزوف القراء عنها. يقول حسن الزناتي، 39 سنة، مهندس، إن إرتفاع أسعار الصحف دفعه إلى التوقف عن اقتنائها، موضحًا أن سعر نسخة الصحيفة الورقية وصل حاليا 3 جنيهات مصرية (ثلث دولار تقريبا) مرتفعا من سعر جنيه واحد قبل عدة سنوات. وأضاف أن "انتشار الإنترنت عبر التليفونات (الهواتف) المحمولة الحديثة أنهى تمامًا علاقته بالصحافة الورقية"، مشيرًا إلى أنه عبر الاشتراك في "باقة إنترنت شهرية بقيمة 25 جنيهًا (2.8 دولار تقريبًا) يمكنه استخدام هاتفه في متابعة أخبار العالم كله طوال الشهر، مع السرعة في عرض الخبر عن الصحف المطبوعة التي يموت فيها الخبر قبل نشره". وتشير بعض الإحصائيات والتقارير الصحفية إلى تراجع عام في مبيعات الصحف الورقية في العالم عامة ومصر خاصة، مقابل ارتفاع مطرد في القراءات عبر الإنترنت مع تطور الصحافة الإلكترونية ووسائلها بشكل متسارع. وكان رئيس تحرير جريدة المصرى اليوم، محمد السيد صالح، قال في تصريحات صحفية، إن توزيع الصحف الورقية في مصر انخفض بنحو 80 ألف نسخة خلال 2015، مقارنة مقارنةً بعام 2014، دون أن يوضح مصدر معلوماته. *وكالة أنباء الأناضول