كثر الحديث مؤخرا عن الأزمة الاقتصادية و المالية العالمية التي عصفت باقتصادات دول متقدمة؛ و أثرت على أخرى بدرجات متفاوتة الخطورة ، هذه الأزمة أرخت بظلالها كذلك على مملكتنا الشريفة في الخمس سنوات الأخيرة، إذ تعتبر من الأسباب الرئيسية التي دمرت عدد كبير من المقاولات الكبرى و المتوسطة و الصغرى، و ساهمت في النزول برقم معاملاتها إلى أسفل سافلين، و في هذا الصدد فإن الأسئلة الجوهرية التي تطرح نفسها بإصرار هي: هل فعلا تأثرت بلادنا بمخلفات هذه الأزمة العالمية فقط في السنوات الخمس الأخيرة، أم أنها كانت تعاني في صمت قبل ذلك بكثير؟؟ و هل هناك عوامل أخرى ساهمت في ذلك و لو بنزر قليل؟ سأحاول الإجابة على هذه الأسئلة، بصفتي فاعلا في قطاع حيوي، يعتبر من بين أكبر القطاعات التي تأثرت بهذه الأزمة، هذا من جهة و من جهة أخرى كوني أنحدر من مدينة تعتبر من أكبر المدن المغربية تضررا. فاس و الكل في فاس، جملة لطالما تغنى بها المغاربة، كما تغنى بها فطاحلة الشعراء والكتاب و المؤرخين و الفلاسفة العرب و العجم على مر العصور، رائحتها مقرونة بعبق التاريخ وأسماء العظماء والعلماء الذين ولدوا، مروا أو دفنوا بها، فاس، حيث «التاريخ ينز من الجدران، يطلع من النوافذ، يمسكنا بأيدينا ويسير أمامنا»، كما يقول الشاعر السوري أدونيس. لن أتناول في هذا المقال هنا ينابيع فاس، وأنهارها، وقنوات مياهها، ولا غاباتها، ولا موقعها الاستراتيجي... كما أني لن أتناول معالمها الأثرية، وبواباتها الثماني، وما ضمته أسوارها من مستشفيات، ومساجد، كالقرويين، والأندلسيين، والحمراء، والرصيف وغير ذلك.. ولكني سأتناول الحديث عن هذه المدينة التي كان يضرب بها المثل في جميع المجالات الاقتصادية والثقافية و السياحية و السياسية؛ المدينة التي أنجبت العديد من المثقفين الكبار، المدينة التي صنفت العديد من مآثرها تراثا إنسانيا عالميا، المدينة التي كانت في أوج ازدهارها قبل الإضراب العام الذي دعت إليه نقابة الكونفيدرالية الديمقراطية للشغل و نقابة الاتحاد العام للشغالين بالمغرب يوم 14 دجنبر 1990. و كما لا يخفى على الجميع، فقد كان ذاك الإضراب احتجاجا على غلاء المعيشة و هو ما نتج عنه انتفاضة شعبية عارمة عرفتها جل المدن المغربية و كانت أحدها و أقواها في مدينة فاس، التي سقط فيها عدد كبير من الضحايا من قتلى و جرحى في صفوف المواطنين العزل و كذلك في صفوف القوات العمومية. وتأججت هذه الأحداث كذلك بفعل الأوضاع الاجتماعية التي كانت تعيشها هوامش وأحواز مدينة فاس وكذا الأحياء الشعبية وسط المدينة. ووجهت بالقمع الرهيب، بالدبابات والقتل بالرصاص الحي، ثم المحاكمات الجماعية ومحاصرة أحياء شعبية بكاملها: أحياء باب فتوح وباب الخوخة وعين النقبي وسيدي بوجيدة وعين هارون، وعوينة الحجاج والليدو وظهر المهراز... كانت تصنف في المرتبة الثانية على المستوى الاقتصادي بعد مدينة الدارالبيضاء بل كانت تنافسها في بعض الأحيان، أما على مستوى قطاع السياحة و الصناعة التقليدية فقد كانت تتمركز في الصف الأول وطنيا بدون منازع، و كانت تستحق عن جدارة أن توصف بفاس و الكل في فاس. كانت الحاضرة الإدريسية إلى عهد قريب مركز استثمارات، تغري رجال الأعمال المغاربة و الأجانب، و هو ما يؤكده العدد الكبير من المعامل و الشركات الكبرى التي كانت متمركزة بها، و على الخصوص بالأحياء الصناعية سيدي ابراهيم و الدكارات، و التي كانت تشغل نسبة كبيرة من اليد العاملة الفاسية و غيرها، و من بين أهم هذه المعامل نذكر "كوطيف" لغزل النسيج الذي كان يعتبر الأكبر على المستوى القاري، و الذي أصبح في السنوات الأخيرة مجرد خراب و أطلال، بعد إفلاسه و إحراقه. و قد كان المجلس البلدي الاتحادي الذي كان يسير شؤون المدينة في تلك الفترة، أي مجلس 1983 يوفر كافة الشروط للرقي بها و إبقائها في صدارة المدن المغربية، إلى أن جاء الإضراب العام السالف الذكر، لتنقلب الأمور رأسا على عقب، فتدخل المدنية في نفق مظلم و تعاقب عقابا جماعيا من طرف العفاريت و التماسيح كما يحلو لرئيس الحكومة الحالية تسميتهم؛ إذ ضرب حصار اقتصادي كبير على هذه المدنية على جميع المستويات، و همشت جميع المقاولات، عقابا لهم و للمواطنين الذين طالبوا بالعيش بكرامة و مارسوا حقا من حقوقهم الدستورية. و مع اعتماد نظام وحدة المدنية، دخلت فاس في نفق آخر مليء بالمشاكل و المحسوبية و الزبونية و المحاباة، عنوانه الاستيلاء على الأراضي و المضاربات العقارية، و البيع و الشراء في جل الصفقات؛ و انتشار الجريمة بشكل خطير، هذه الأخيرة جاءت نتيجة لعدة عوامل، أهمها الهجرة القروية و البطالة و عدم اعتماد مقاربة أمنية حقيقية. كل هذه الأسباب و المسببات جعلت الأغلبية الساحقة من رجال الأعمال و المقاولين من أبناء المدينة، يشدون الرحال إلى وجهات أخرى مثل الدارالبيضاء و مراكش و الرباط و القنيطرة و طنجة ؛ لتبقى فاس مدينة للأشباح و انسداد الآفاق. *مقاول في البناء و الأشغال العمومية