في مرتفعات الشمال الغربي التونسي تقع مدينة الكاف، أو كما تعرف لدى الرومان القُدماء باسم "سِكّا فِنِيرِيَا" Sicca Veneria، ظلت إلى الآن رمزًا من رموز الانفتاح على مختلف الدّيانات السماوية، ومفتاحًا للتسامح والتعايش بينها. يتوسط قلب المدينة العتيقة الجامع والكنيسة الرومانية ومعبد اليهود، أو كما يطلق عليه :"الكنيس اليهودي"، مجتمعين في نسيج فسيفسائي، ومشكلّين ثالوثًا يوحي بالتآخي والتعايش الإنساني والدّيني، في وقت تنتشر فيه مظاهر التطرف والتشدد الدّيني في العالم. كما اتخذ المسلمون والمسيحيون واليهود ممن مروا على هذه المدينة عبر عصورٍ، وعاشوا فيها لأزمان مختلفة، مقابر متاخمة لبعضهم البعض، فاختاروا لذلك جبل "سيدي منصور"، المطل على المدينة، حتى يكون مستقرّهم الأخير، فقد كان المسلم والمسيحي واليهودي متجاورين في حياتهم وحتّى مماتهم، رغم اختلاف عقائدهم. ولمعرفة هذه الخصوصيّة التي تميز المدينة عبر التّاريخ يقول عمار ثليجان، رئيس جمعية "صيانة وإنماء مدينة الكاف"، لقد"عُرفت الكاف باحتضانها لديانات عديدة، وبكثرة أماكن العبادة فيها، فقلب المدينة شاهد على ذلك، فالكنيس اليهودي مثلًا يتوسط جامع سيدي بومخلوف، وكنيسة بطرس، التي تموقعت قبالة جامع سيدي البكّوش". وأضاف ثليجان: "البيعة اليهودية، أو ما يسمى بالغريبة، ترجع إلى الأسطورة التي تقول بأن هناك 3 أخوات يهوديات تفارقن، إحداهن استقرت في عنابة الجزائريّة، والثانية في جزيرة جربة جنوب شرق تونس، والثالثة في الكاف شمال غرب الخضراء، هو مكان تعبد للجالية اليهودية التي كانت تقطن في حي يسمى بالحارة، حيث كان اليهود يعملون بالتجارة والصناعات التقليديّة، وأنشطة اقتصاديّة أخرى". ولعل أكبر تجمع يهودي في ولاية الكاف وفق رئيس الجمعية، كان يقطن في ريف مدينة السرس، التابعة للولاية، وتسمى "البحوسي"، وكان نشاطهم يتركز أساسًا على كل ما له صلة بفلاحة وتربية الأغنام. وقال ثليجان: "منذ 1994 تمّت عملية صيانة الغريبة وتدشينها، ووقع تسليم هذا الفضاء لجمعيتنا حتى تحافظ عليه، فهو يعتبر من الموروث الثقافي والحضاري والدّيني لمدينة الكاف، كما أنه يجسد حوار الحضارات والتسَامح بين الأديان". واستدرك ثليجان قائلًا: "السنوات التي تلت ثورة يناير 2011 أهملت هذا الموروث، وسط غياب الصيانة والعناية والتدخل، وهنا لا أخص بالذكر الغريبة فحسب، بل العديد من المعالم والآثار الأخرى في الكاف، تشكو بعض النقائص ما يجعلها مهددة بالاندثار والسقوط". وأشار إلى أنهم يقومون باتصالات وحملات تشجعية لجمع تبرعات لإعادة فتح الغريبة ، الذي يعتبره الأهالي جزءًا من ذاكرة الكاف، والموروث الثقافي والحضاري والديني لها، ووهو ما قد يمكن من أن يصير مسلكًا سياحيًا للجهة، وأن يلعب دورًا لتنمية والسياحة الثقافيّة بجهة الكاف". ويضم هذا المعلم ثاني أقدم نسخة توراة في العالم بحسب الأخصائيين، وقد تمّ التدخل لحماية محتوياته، في انتظار عملية الترميم وإعادة تأثيثه بكل مكوناته. كما يقف ثليجان على ما يعتبره "خصوصية أخرى تحظى بها مدينة الكاف وهي تكمن في المقبرة، التي تضم قبور اليهود والمُسلمين والمسيحيين، وهي متحاذية ومتجاورة، منذ سنوات ما يعطي للكاف مميزات استثنائيّة لا نجدها في أماكن أخرى". ووفق رئيس جمعية صيانة مدينة الكاف فإن مدينته "تشتمل على 40 جامعًا، منها الجامع الكبير الذي تغيرت وظيفته في عصر بورقيبة وتحول إلى أحواض رومانية، ومسجد سيدي بو مخلوف، والزاوية القادرية، والرحمانية، وهي طرق صوفية بالإضافة إلى جامع سيدي البكوش". من جانبه، قال سالم العروسي الزواري، محافظ سابق لمتحف العادات والتقاليد الشعبيّة بالكاف والبيعة اليهوديّة، إنه "بالعودة إلى التّاريخ فإنه في سنة 1881 عندما فرضت الحماية الفرنسية على تونس، كانت هناك 3 آلاف عائلة تعيش في الكاف 600 منهم أصولهم يهوديّة". وأضاف الزواري، "كنت أسكن في نفس الحي في فترة الستينات وحتى منتصف الثمانيات مع يهود ومسيحين، نتقاسم أفراحنا وأتراحنا، ولا شيء يفرقنا رّغم اختلاف عقائدنا، كنا نعيش في تسامح وسلام". وتابع، "كان شخص يدعى الواو هو آخر مسؤول عن البيعة اليهودية، وقد توفي في الثمانينات، وهاجرت زوجته من الكاف سنة 1984". ويعد معبد اليهود بمدينة الكاف الثاني في تونس، التي تعرف بدورها معبدًا مماثلًا في جزيرة جربة "غريبة جربة" يأتيها اليهود من مختلف أنحاء العالم لأداء مناسكهم وطقوسهم في أيار/مايو من كل سنة، ويبلغ عدد اليهود الذّين يعيشون في تونس قرابَة 1500 يهودي. وفي سياق متصل يقول الزواري: "أردنا أن تكون هذه المعلمة مزارًا منذ آلاف السنين، على غرار نظيرتها في جربة، فقد كان اليهود يزورنها لأداء ما يعرف بحج اليهود من 1994 حتى 2004، ولكن تم إهماله فيما بعد حتى أنه تعرض لاعتداء بعد ثورة 2011 من قبل متشددين". وفي جانب ليس ببعيد عن الغريبة تقع كنيسة القديس بطرس، قبالة أحد الجوامع الشهيرة في المدينة "جامع سيدي البكّوش" وتعود الكنيسة إلى القرن الرابع الميلادي، وقد رممت عام 1982، وهي بحسب الزواري "تجسد مظهرًا من مظاهر تعايش الأديان والحضارات والشعوب بمدينة الكاف". وأضاف الزواري: "كأننا في مسلك حوار للحضارات عبر التاريخ، فهناك أماكن عبادة كان يتردد عليها المسلمون والمسيحيون واليهود على حدّ سواء للتبرك ولإقامة بعض الطقوس فيها، مثل مزارة سيدي عبد القادر داخل البيعة". *وكالة انباء الاناضول