من عمق جهة استثنائية بمجرد وضع بعض الوثائق الخاصة بمشروع الجهوية رهن إشارة العموم على- النيت- توالت التعليقات وتناسلت التحليلات بخصوص مضامينها، مما يعطي انطباعا إيجابيا على مدى التعاطي المتزايد للفاعلين ولعامة المواطنين مع قضايا الشأن العام. ولكنه عند تحليل طبيعة هذا النقاش والتعمق في حيثياته تجده سطحيا وشكليا ولا يتناول جوهر وعمق المواضيع المطروحة. فنسمع مثلا من هنا أصواتا تندد بإلحاق منطقة بجهة معينة وأخرى من هناك تطالب بتمتيع مدينة معينة بوضعية عاصمة الجهة... إنها مناوشات قد يكون وراءها في كثير من الأحيان أصحاب النفوذ السياسي والاقتصادي ممن يرون أن مصالحهم الخاصة قد تتضرر في ظل تقسيم أو وضعية معينة. في المقابل تكاد تغيب الأسئلة الحقيقية والتي تمس صلب مشروع الجهوية وذلك من قبيل: لماذا تم اختيار هذا النموذج من الجهوية؟ هل هو فعلا نموذج سيمكن من إقرار جهوية موسعة حقيقية ؟ كيف يمكن جعل مشروع الجهوية مدخلا لتجسيد مطالب الإصلاح الديمقراطي والاجتماعي والاقتصادي؟ كيف يمكن تصحيح وتجاوز الوضعيات المتسمة باللاعدل بين المجالات والمناطق والتي كرستها السياسات المتعاقبة حفظا للحقوق في ظل التقسيم الجديد ؟ تمثل الجهة رقم (8) : *درعة – تافيلالت* نموذجا يبرر أحقية ومشروعية طرح هذه الأسئلة ؛ فهذه الجهة بأقاليمها الخمسة : الرشيدية وورزازات وفكيك وزاكورة وتنغير، تعتبر وباعتراف الكثيرين بمن فيهم واضعي هذا التصور من أفقر الجهات التي سطرها التقسيم الجديد بل هي جهة الاكراهات بامتياز ( الكتاب 2- ص 185 )، فقر يأتي كنتيجة حتمية لطبيعة السياسات المتعاقبة التي عملت وبشكل شبه ممنهج على إقصاء وتهميش مناطق الأطراف وإبقائها تحت عتبة الفقر والهشاشة. وهكذا فرغم أن هذه المناطق تزخر بطاقات بشرية كبيرة ومؤهلات طبيعية معتبرة إلا أن استغلالها تعرض للكبح لعقود طويلة بعدم تمكينها من آليات ومستلزمات هذا الاستغلال. فغياب الإرادة السياسة لتنمية هذه المناطق جعلها ترزح تحت وطأة الشلل الاقتصادي وجعل مواردها البشرية مشلولة أو في حالة هجرة حادة متواصلة. كما أن غياب البنيات التحتية اللازمة جعل استغلال مميزاتها الطبيعية بما في ذلك المواقع الايكوسياحية بعيد المنال. بينما مواردها الأخرى كالمعادن تتعرض للاستنزاف بشكل مكثف وفق سياسات ومخططات لا تراعي مصالح وحقوق السكان المحليين. في ظل هذا الوضع يطرح سؤال عريض: هل يمكن لجهة مثل هذه أن تنطلق بشكل عادي دون تحقيق شروط استدراكية من قبيل: 1- جبر أضرارها السابقة وذلك قبل الشروع في إعمال المشروع الجديد، وهذا يستوجب وبشكل استثنائي إعطاء انطلاقة فعلية لبرامج كبرى استدراكية تعم هذه الجهة ومثلها من الجهات المتضررة حتى تصبح في مستوى أو على الأقل تقترب من مستوى المراكز الكبرى التي كانت محظوظة في زمن التقسيم الجهوي السابق والتي استنزفت متطلبات النهوض بها معظم خيرات مناطق الأطراف غير المحظوظة. برامج تمكن من إعادة توزيع وانتشار ما يسمى في الخطاب الرسمي بالأوراش الكبرى والتي كانت موجهة لمناطق بعينها وتتم في إطار قواعد غير واضحة وحتى خارج المؤسسات الحكومية بما يرضي لوبيات الاقتصاد ويضمن تزيين الواجهة والإبقاء على العلاقات المرسخة للاستبداد واللاعدل المجالي. وهنا قد يقول البعض على أن مشروع الجهوية الجديد قد جاء بآليات للتضامن منها بالخصوص صندوق التأهيل الاجتماعي وصندوق التضامن الجهوي ولكنها في نظري بالنظر إلى محدودية ما يتوقع رصده لهذه الصناديق وصعوبة وضع معايير موضوعية خاصة بتوزيع الاستفادة منها والحيثيات المختلفة المرتبطة بانطلاق المشروع ككل وباعتبار ما سأطرحه لاحقا من ملاحظات بخصوصه، فيتضح أن هذه الآليات لا يمكن لها الاستجابة للحاجيات المتراكمة لهذه المناطق ومثيلاتها. 2- جعل السياسة الجهوية الجديدة تمكن حقيقة هذه المناطق من استقلالية لازمة لحسن تدبير واستغلال مواردها المختلفة وجعل عائداتها تصرف لخلق أنشطة اقتصادية واجتماعية تجعلها مناطق ذاتية الدفع وفي غنى عن ما سمي في المشروع باليات التضامن الوطني التي لن تكرس إلا منطق التبعية والاتكالية . 3- القطع مع ماضي التحكم والفساد السياسي والاقتصادي وزمن خرائط النفوذ الذي كان خلاله النافذون يوزعون بينهم موارد ومصالح الجهات ويشكلون شبكات غير معلنة تتحكم في كل شيء من الإدارة إلى القضاء إلى الاقتصاد إلى السياسة... من المأمول أن تكون الجهوية الجديدة لحظة تاريخية لتفكيك هذه الشبكات وتعطيل قواها ودرء و استباق كل إمكانيات تجددها وإرساء قواعد جديدة قوامها الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والتنافس الشريف وآليات لضمان كل ذلك تتمثل في إدارة نزيهة وفعالة وقضاء قوي ومستقل وسلطة محايدة تهجر العمل بأدوات الضبط والتحكم... ومن أبرز أدوات الحسم لتحقيق هذا الهدف الإيقاف الفوري لسياسات الريع واسترجاع كامل الحقوق التي تم تفويتها في ظل هذه السياسات والتي مست امتيازات الخدمات الاجتماعية واستغلال الموارد والفضاءات الطبيعية والثروات المختلفة. إنه بدون تحقيق الحد الأدنى من هذه الشروط لن تتمكن الجهات الفقيرة من النهوض والانطلاقة وسيكون هذا التقطيع الجديد وبالا عليها وأداة لاستمرار وتعميق أزماتها. مما يستمر معه استشراء نفوذ اللوبيات وهيمنة دوائر الفساد، ومما سيحول دون تحقيق الآمال سواء منها الاجتماعية و الاقتصادية والسياسة. إنها تحديات ضمن أخرى ينبغي أن يجيب عنها المشروع الجديد للجهوية المغربية ولكنه مع الأسف تراودني شكوك عميقة فيما يخص هذه الإمكانية فالقراءة الأولية لمضامينه أوحت لي باستنتاج رئيسي مفاده أن هذا النموذج من الجهوية بعيد كل البعد من أن يؤسس لجهوية موسعة حقيقية فلن يكون إلا تعديلا شكليا بتنقيحات طفيفة للنموذج القديم (قانون: 96/47 تقسيم 1997) فالمفاصل الرئيسية للمشروع الجديد لا تزال تتحكم فيها هواجس التحكم والضبط والمراقبة وتسيطر عليها بواعث الاحتراز وضعف الثقة. وكأننا بمشهد جديد بتأثيث قديم، مشهد يراد له الحفاظ على البنية القديمة مع تغيير بعض المواقع والأدوار وتبديل المصطلحات والتسميات الكلاسيكية بأخرى حديثة و براقة. في هذا الإطار أكد رئيس اللجنة الاستشارية للجهوية في ندوة صحفية غداة الخطاب الملكي لتاسع مارس 2011 أنه لم يتم الاسترشاد بأي نموذج آخر بل هو نموذج مغربي يراعي الخصوصيات والوقائع المغربية، وكأنه يستبق الأسئلة المحرجة التي قد تطرح في هذا الإطار والخاصة بالمرجعية المعتمدة خصوصا وأنه لأشهر طويلة والفاعلون المغاربة (باحثون، سياسيون وجمعيون...) منهمكون على دراسة النماذج المختلفة للجهوية المتقدمة في العالم أملا أن يكون المشروع المغربي منقحا بعصارات التجارب البشرية الناجحة في هذا المجال. فعلا فالنموذج المقترح بعيد كل البعد عن كثير من النماذج الدولية المتطورة خصوصا منها: • النموذج الألماني: الذي مكن الولايات الستة عشر لألمانيا من استقلالية سياسية حقيقية ولم يشترط عليها الدستور المركزي إلا شرط تحقيق الأمان الاجتماعي والعدالة والمساواة لكل المواطنين الألمان. • النموذج السويسري: الذي مكن الكانتونات وعددها (26) من صلاحيات كبيرة وهي التي تفوض المركز بعض الصلاحيات التي تراها تتجاوز إمكانياتها. • النموذج الإسباني: الذي مكن (17) منطقة من الحكم الذاتي وبصلاحيات واسعة (برلمان وحكومة جهوية واستقلال ماي...). • النموذج الإيطالي: يقسم البلاد إلى (20) إقليما منها (5) بوضع متقدم وقانون أساس يضاهي الدستور مع حكومة ومجلس دستوري بصلاحيات مالية كبيرة (إقليم سردينيا مثلا يحتفظ بين %100 من الضرائب). ولكنه في المقابل لا يستطيع رئيس اللجنة أن ينفي أوجه التشابه بين المشروع المغربي والنموذج الفرنسي، كما أكد على ذلك بعض الباحثين المغاربة. فالمشروع الفرنسي للجهوية كما يجمع على ذلك المتتبعون يعتبر ضعيفا ومتخلفا ويفتقد إلى مقومات التطور ويسجل عليه كونه: – فاقد للوجاهة لدى الشعب الفرنسي إلى حد أن الكثير من الفرنسيين لا يعرفون حتى أسماء الجهات في بلادهم. – لا يُمكن الجهات كجماعات ترابية من دعم حقيقي وقد نجد داخل جهة معينة مقاطعة باعتمادات مالية أكبر من اعتمادات الجهة نفسها. – يجعل الجهات التي لا تمتلك أقطابا قوية تحت نفوذ أكبر للسلطة المركزية. – يسيطر عليه هاجس الخوف من الهيمنة الأجنبية خصوصا على مستوى الميتروبولات الكبرى على الحدود المتأثرة بالدول المتاخمة. – أفقد الجهات الشعور الهوياتي ( إذا استثنينا كورسيكا ولابريطان). وفقدان هذا الشعور يسهل الاستلاب من لدن المركز. وحتى نستطيع تصنيف مشروع الجهوية المغربي نحدد بداية ابرز النماذج المعمول بها عالميا وهي مصنفة في (3) مجموعات متباينة: • نموذج اللامركزية الإدارية: الذي يفوض التدبير الإداري للجهات دون تدبير سياسي كامل. • نموذج النظام الفدرالي: يعطي للأقاليم المشكلة للدولة الاتحادية صلاحيات دستورية وتشريعية وتنفيدية واسعة. • نموذج الحكم الذاتي: وهو أقل من النموذج الفدرالي ولكنه يعطي أيضا صلاحيات واسعة سواء منها التشريعية أو التنفيذية. بناء عليه فالنموذج المغربي المقدم، يمكن تصنيفه تجاوزا ضمن نموذج اللامركزية الإدارية ولا يمكن بالتالي الحديث عن جهوية متقدمة فما بالنا بالجهوية الموسعة . كما لا يمكن الحديث أيضا عن التفويض السياسي للجهات بحيث أن العملية السياسية تقتصر على إنشاء مجالس جهوية التي كما سأوضح لاحقا ستلعب فقط دورا تقنيا وتنفيذيا بالأساس وتحت مراقبة السلطة المركزية، فالتفويض السياسي الحقيقي كما هو شأن النموذج الفدرالي ونموذج الحكم الذاتي يقضي بتمكين الجهات من صلاحيات دستورية وتشريعية وتنفيذية واسعة (دستورو حكومة وبرلمان جهوي). إنه نموذج يقضي فقط بتفويض اختصاصات محدودة التي تشكل عبئا ثقيلا على الدولة خصوصا منها المرتبطة بالقطاعات الاجتماعية، مما يمثل مدخلا مفضلا للسلطة المركزية لتجاوز الإزعاجات الحادة التي باتت تمثلها الحركات الاحتجاجية والمطلبية البالغة أوجها في ظل الحراك الشعبي الأخير الذي تعرفه بلادنا. وأعرض هنا مجموعة من الملاحظات بخصوص المشروع المقدم التي تعضد مختلف الاستنتاجات التي أوردتها: *من حيث الشكل : • ففي تصدير الكتاب الأول الخاص بالتصور العام للجهوية أقرت اللجنة المكلفة بمنطق الاستشارة الشكلية ونفت عن عملها صفة الجهد الحقيقي وطابع الإبداع وجعلت منه فقط عملا ميكانيكيا يتوخى فقط انجاز ترجمة تقنية للتوجيهات الملكية. وقد جاء بالحرف: "وقد جعلتها اللجنة الاستشارية للجهوية –يعني التوجيهات الملكية- مصدر إلهام لها فمن تحليل مضامينها المتبصر انطلقت وعلى التفكير المسترسل في أبعادها اعتمدت وبتبني مراميها التزمت ساعية لبلورتها في جملة من المقترحات الواضحة الملموسة قدر الإمكان". إن هذا يجعلنا نتساءل عن حقيقة الاستشارات التي أجريت مع الفاعلين وقد نفهم من ذلك أنها كانت فقط شكلية وبروتوكولية. وانه مع الأسف تعزز لدي هذا التوجه خصوصا بعد اطلاعي على مجموعة من الأوراق و المقترحات المقدمة من طرف هيأت سياسية وجمعوية بخصوص الجهوية ولاحظت تغييب الكثير من الأفكار المهمة وعدم أخذها بعين الاعتبار في المقترح الذي خرجت به علينا اللجنة الاستشارية ومن ذلك أسجل: -مقترح اعتماد تقسيم عادل يتوخى توزيع عادل للثروات بين الجهات ومقترح الإبقاء فقط في الوصاية على المراقبة البعدية الخاصة بالمشروعية دون الخاصة بالملائمة وهي مقترحات تقدم بها حزب الاستقلال الذي يرأس الحكومة. - مقترح جعل مراقبة أعمال المجلس الجهوي تحت مراقبة المجلس الدستوري فقط وفتح إمكانية استشارة مواطني الجهة بنظام –Votation- وفق النمط السويسري أو كما اقترح ذلك حزب التقدم والاشتراكية من موقع الأغلبية الحكومية. - مقترح تمتيع الجهات بنسبة 30 في المائة من الضرائب الوطنية المحصلة في الجهة كما تقدم به حزب العدالة والتنمية من موقع المعارضة. - مقترح الجهوية الفدرالية بحكومات محلية ذات صلاحيات واسعة ومقترح استحضار المقومات التاريخية كالأعراف المحلية في مجال التسيير وهي مقترحات تقدم بها التنسيق الوطني للجمعيات الامازيغية. ومقترحات أخرى عديدة تم التقدم بها إلى اللجنة الاستشارية من مختلف الحساسيات ولم يظهر لها اثر في الوثيقة المعروضة. * في مسالة الوصاية : • حاول المشروع التأكيد على انه سيتم التخلي عن الوصاية بمفهومها الكلاسيكي ولكن القراءة الدقيقة لمضامينه تبين أن التغيير مس فقط الألفاظ والمصطلحات فتم تبديل مصطلح الوصاية بمصطلحات اخف وقعا من قبيل مصطلحات الإشراف والمراقبة المرنة. إن الوصاية سواء منها المرتبطة بالشرعية أو المرتبطة بالملائمة تمثل أداة حقيقية للتحكم ومظهراً من مظاهر الحكم البيروقراطي، وما جاء به هذا المشروع لا أظن أنه استجاب حتى للمطالب القديمة المتمخضة مثلا عن المناظرات الوطنية حول الجماعات المحلية وعلى رأسها مطالب : • إحلال الرقابة المقربة محل الوصاية المركزية. • تخفيض آجال المصادقة والتأشير. • تعميم إلزامية تعليل قرارات الوصاية. وعند تحليل المقتضيات الجديدة نجد أن اليات الوصاية تم ترسيخها في إطار إعادة تنظيم الأدوار داخل نفس المشهد.وهكذا فبعد أن تحدث المشروع عن المراقبة المرنة عاد ليؤكد على أن حتى هذه المرونة لن تأتي إلا بشكل تدريجي: "يتم تدريجيا جعل المراقبة من طرف الدولة أكثر مرونة على أن يقترن ذلك بتطوير القدرةعلى التدبير الجهوي وبالمؤشرات الملائمة للشفافية وللأداء الجيد".-من الكتاب الأول، باب "آفاق تفعيل المشروع"-، فالمؤشرات المذكورة تبقى مبهمة وإن تم تحديدها فستكون أداة تمكن من الإبقاء على الوصاية وتبريرها ووسيلة لفتح المجال أمام الانتقائية السياسية في التعامل مع المجالس الجهوية. إن المشروع الجديد اقترح تراتبية جديدة لهذا الإشراف أو المراقبة المرنة (الوصاية باللفظ القديم) بحيث ستتمركز باتجاه تصاعدي.وهكذا فالمجلس الجهوي وفق التصور الجديد يتصدر الجماعات الترابية الأخرى بحيث يجب أن تنسجم مخططات وبرامج تلك الجماعات مع التصور المعتمد من لدن مجلس الجهة وهو التصور الذي تلزمه بدوره مصادقة الدولة. بعبارة أخرى فستبقى مراقبة ووصاية الدولة جارية بشكل مباشر على برامج ومخططات الجهة، وبشكل غير مباشر وعبر المجلس الجهوي على مخططات باقي الجماعات الترابية. وقد جاء في باب: "صدارة المجلس الجهوي في مجال التنمية المندمجة-الكتاب الأول": "تعد مجالس العمالات والأقاليم ومجالس الجماعات مخططاتها وبرامجها ومشاريع تنميتها الذاتية في انسجام مع التصور الذي يتبناه مجلس الجهة وتصادق عليه الدولة". في كل الأحوال تبقى الوصاية ثابتة في هذا المشروع وقد تكون أداة لمواجهة كل مفاجأة سياسية تسفر عليها انتخابات المجالس الجهوية أما تحقيق المرونة في الإشراف والمراقبة فيبقى مبهما، مرة يتم ربطه بدرجة تطور القدرة على التدبير وفق مؤشرات لم تحدد ومرة يتم تحديده في تقليص آجال جواب السلطة المختصة. * في مجال الاختصاصات : • تبقى اختصاصات المجالس الجهوية محدودة بحيث تم توجيهها إلى الجوانب التقنية المرتبطة بالتخطيط والبرمجة مع إبقاء حقل الإستراتيجيات الإجمالية بيد الدولة.-باب: أنماط التدبير، الكتاب الأول-.أما نقل هذه الاختصاصات فلن يتم بشكل أوتوماتيكي وإنما على أساس تفاوضي وتعاقدي بين الحكومة والمجالس الجهوية وذلك بشكل تدريجي دون أن تحدد شروط ومقتضيات واضحة لهذا التعاقد. كما أن بعض الاختصاصات الواضحة وعلى رأسها وضع مخطط التنمية الجهوية وأيضا التصميم الجهوي لإعداد التراب فيتم تقييدها بإلزامية موافقة الدولة على تفعيلها (الفقرة 5-2 الكتاب الأول). كما أنه أيضا تم تعويم هذه الاختصاصات في إطار بيروقراطية زائدة تتميز بكثرة المتدخلين وتعدد الإجراءات مما سيؤدي إلى صعوبة التوافق والتنسيق والى تداخل الأدوار وعدم وضوحها، وهنا يتم تسجيل: - مسألة الإبقاء على الوصاية المركزية التي تمكن الطرف المركزي من الإشراف والمراقبة. - توسيع تركيبة المجلس الجهوي لتضم أعضاء استشاريين وحتى إن لم تكن لهم صفة تقريرية مما سيحد من درجة التدبير السياسي للمجالس الجهوية. - جعل تنفيذ المشاريع من اختصاص طرف آخر يتمثل في الوكالات الجهوية التي ستلعب تلعب دور الطرف التقنوقراطي المنفذ.وهذا قد يضخم من دور السلطة التقنية على حساب السلطة السياسية. • أما في مجال القطاعات العمومية فتبقى مهام التوجيه والتصور تحتكرها الإدارة المركزية ويتم فقط وبشكل تدريجي تفويض المهام التدبيرية والإجرائية للمصالح الخارجية (الفقرة (32-3)) مما يتنافى مع مبدأ احترام الخصوصيات الجهوية ويستبعد إمكانية إقرار حقيقي لتصورات محلية خاصة بالقطاعات العمومية.ويتنافى أيضا مع مبدأ "أخذ البعد الترابي بعين الاعتبار في السياسات العمومية" الذي تم إقراره ضمن قيم الثبات ومقاصد الرقي الممهدة لتصور الجهوية ضمن الكتاب الأول.ثم أن عملية تصريف الإستراتيجيات العمومية تراتبيا ستتم بإشراك الإدارة على مستوى الجهة أما المجلس الجهوي فيستشار فقط في ذلك. وهذا ما ورد بشكل واضح في الفقرة (423) من الكتاب الأول. • الإبقاء على الدور المركزي للولاة والعمال والمتمثل في كونهم المخاطبين المباشرين باسم الدولة بامتياز في علاقات المجالس المنتخبة بمجموع الإدارات العمومية (فقرة"2" من فصل: تنسيق الإدارة العمومية في الجهة).وهو إبقاء على الدور المحوري لمسؤولي وزارة الداخلية وعلى تأثيرهم سواء على القطاعات العمومية أو على المجالس المنتخبة. وفي نفس المقام تمت الإشارة باستحياء إلى ضرورة تحديد مسؤوليات الولاة والعمال وضرورة صون المسؤولية القانونية والسياسية للوزراء المعنيين (كأنه اعتراف بكون هذه المسؤوليات مهددة وغير مصانة!!). إنه تصور مع الأسف لا يناسب تطلعات التغيير الحقيقي وتصحيحه يستوجب ارتقاء دستوريا حاسما يمكن من تجاوز إشكال تعاظم دور الإدارة الترابية على حساب المؤسسات المنتخبة . * في موضوع التقطيع الجهوي: • فيما يخص التقطيع الجهوي فأكثر ما أثار انتباهي هو ذلك الاعتراف بكون الاختيار ذهب عن قصد إلى إقامة جهات تؤخذ فيها بعين الاعتبار الإكراهات والتحديات البيئية (الشساعة، الكثافة السكانية الضعيفة، الأراضي الشبه صحراوية ذات الواحات), مع تبرير ذلك بالرغبة في إبراز حاجياتها حتى تحظى بتضامن وطني. (فقرة "ز" من باب: الخطوط العريضة للجهوية المتقدمة). إن هذا الوصف ينطبق تماما على الجهة (8) " درعة-تافيلالت " وهذا اعتراف واضح بكونها منذ البداية وجدت لتكون نموذجا للإكراهات ومحل تجريب لإمكانية نجاح مبادرة التضامن الوطني وكأنها جنين ولد معاقا فيبقى تابعا للآخر وعالة عليه وفاقداً لكل مقومات الاستقلالية والتطور الذاتي. وحتى آليات التضامن المذكور تبقى غير واضحة وما ذكر منها يظهر غير كافٍ من قبيل صندوق التضامن بين الجهات الذي سيتم فيه ضخ %10 من الموارد الجديدة المرصودة من طرف الدولة لكل جهة.وأيضا من قبيل صندوق التأهيل الاجتماعي للجهات والذي ستتم الاستفادة منه وفق معايير لم تحدد بعد. وذلك على مدى ولايتبين فقط وهذا التحديد تم تبريره بضرورة تفادي ترسيخ منطق الإتكالية والاعتماد على الإعانات الدائمة (الفقرة"3" من الباب (8) الخاص بصندوق التأهيل الاجتماعي للجهات). وهذا في نظري تبرير فيه حيف للجهات التي خلقت أصلا وهي تحمل بذور ومواصفات القصور التي تفرض عليها إلزاما وضعية الإتكالية. وبشكل عام فمعايير التقسيم وأحكامه في التصور المعتمد يكتنفها قدر كبير من التردد والغموض وضعف الحجة المقدمة للإقناع بها، مما تجلى في عدم وضوح المقاييس المعتمدة من جهة وطغيان الهاجس الجيوستراتيجي خصوصا في التقسيم الخاص بالمناطق الحدودية وتضخم الهاجس السياسي عندما يتعلق الأمر بالمناطق ذات البعد الهوياتي، وهذه مجموعة من الملاحظات تعضد هذا الطرح: – الإفصاح على كون المصالح والتطلعات تبرز في مسألة التقطيع (الفقرة"131"-الكتاب الأول) وهذا إشارة ضمنية إلى ما ذهبنا إليه في البداية من إمكانية تأثير اصحاب المصالح على التقطيع الجهوي. – الإفصاح عن التهرب من استخدام المعايير الأكاديمية في التقطيع وذلك بحجة خصوصيات المملكة التي كانت ولاتزال قائمة على بنية ترابية موحدة، وعلى درجة عالية من الاندماج كما ورد في الفقرة(331) من نفس الكتاب. – لكن تم نقض هذا المبدأ (مبدأ الاندماج) في فقرة لاحقة (432) عند الحديث عن وجود التباين الجلي الذي يفصل بين مجالين ترابيين وذلك بقصد إيجاد استثناء يمكن من وضع تقسيم خارج على القاعدة في المناطق الواقعة جنوب "إفني-تازة". – ولدعم حجية هذا الاستثناء حاولت اللجنة إبراز دواعي التراجع عن مبدأ التكامل الذي كان وجيها في تقطيع (1971) والذي جعل لكل جهة نصيبا من مختلف مظاهر الجغرافية (السهل-الجبل-الساحل...). -الفقرة 431-الكتاب الأول-. – تحديد المعايير المعتمدة في التقسيم في: الفعالية والتراكم والتجانس والوظيفية والقرب والتناسب والتوازن، ويتضح من تحليل بسيط أنها استعملت بشكل انتقائي ولم تحترم بالشكل المطلوب في تقطيع الجهات المتواجدة جنوب الخط المذكور وعلى رأسها جهة *درعة -تافيلالت*، وهكذا: • عندما لم تتمكن اللجنة من إيجاد منطق مقنع بخصوص معايير تحديد مجال هذه الجهة لجأت إلى المنطق السهل مؤكدة على أنها عمدت إلى ذلك التقسيم عن قصد مع الاتكاء على حجة خلق جهات ذات حاجات بارزة من أجل استنهاض تضامن وطني لفائدتها (وقد سبق التفصيل في هذه النقطة). • مبدأ الفعالية بالطبع لم يحترم في هذه الجهة وجهات مماثلة وهو المبدأ المرتبط بمسألة الحجم (المساحة وعدد السكان). فخصوصيات هذه الجهة في هذا المجال تفقدها التوازن مع الجهات الأخرى وبالتالي فإن الرغبة المعبر عنها من طرف الجميع -كما ورد في الفقرة (332)- بخصوص التقليص من عدد الجهات كان على حساب الجهة المذكورة. • فيما يخص مبدأ التراكم فكما ورد في الفقرة (23-3) فإن التقطيع الجهوي المقترح استند على الشبكة الإقليمية الحالية ضمانا للتراكم وهنا يطرح السؤال بالنسبة للجهات التي لم تحض في السابق بإمكانيات بناء هذا التراكم فلم تكن عواصم سلطانية ولا موانئ ساحلية ولا عواصم جهوية وليست لها امتيازات سابقة فيما يسمى بالبرامج والأوراش الكبرى وبالتالي فإن تراكمها سينطلق من جديد قريبا من الصفر إن لم أقل الصفر لأنها فقدت وفق هذا التقسيم وبشكل فجائي نتائج ما راكمته لفائدة المراكز الكبرى التي كانت تابعة لها في التقسيم السابق وكانت معظم مؤهلاتها ومواردها تنساب في اتجاه تلك المراكز ولعقود طويلة. • كما أنه اعتبارا لقاعدتي الوظيفية والتجانس فإنه تم إقرار وضع قواعد استثنائية ومعايير مزدوجة في إطار هذا التقسيم، فبالنسبة للمناطق شمال خط -إفني/تازة- فتم إعمال هاجس الوظيفية المرتبطة بالقطبية الحضارية (الفقرة: 32-5) أما في المناطق جنوب هذا الخط فتم اعتماد تعامل خاص معها من زاوية تحقيق الانسجام وتجديد كيانات جهوية متميزة من تلقاء ذاتها (فقرة 6/32)، وهذا يضرب عرض الحائط المبدأ الأساسي المعتبر بوحدة الأمة وتجانسها الكلي المصرح به سابقا. وحتى هذا المنطق تبرز لنا من داخله تناقضات واضحة وأسئلة مشروعة من قبيل السؤال عن وضعية بعض المناطق كطاطا مثلا، هل تم في هذه الحالة أخذ هذا المنطق بعين الاعتبار، ولماذا أيضا تم الاحتفاظ بخيار إعادة توزيع مناطق معينة بين جهة الشرق ودرعة تافيلالت رغم أن هذا الخيار يتنافى مع مبدأ التراكم المؤسس على قاعدة استمرارية التقسيم الإقليمي الحالي. • الإعمال القوي للمنظور الجيوستراتيجي في المناطق الحدودية وهو منظور قد يكون استعماله بمثابة "فيتو" حقيقي في وجه باقي المعايير وضد كل الانشغالات المرتبطة بالتنمية والديمقراطية . • بالنسبة لمعيار الاتصال والقرب فيظهر أن جهة درعة تافيلالت بعيدة كل البعد عن المؤشر المعتمد في الفقرة (32-7) والمتمثل في قياس سهولة الاتصال بمسافة تتراوح بين 200 و250 كلم، فهي جهة مترامية الأطراف وتمتد على شريط يراوح طوله الألف كيلومتر. في الأخير وبالنظر إلى مجمل هذه الملاحظات نخشى أن يفتقد هذا المشروع لصفة الوجاهة التي أكدت عليها اللجنة الاستشارية والتي تمثل الضمانة الأساسية لنجاحه مستقبلا لأن إحساس المواطنين بضعف وجاهته سيساهم في تعميق فقدان الثقة، وقد يؤدي لا قدر الله إلى الفشل في ربح رهان اللحظة التاريخية التي تمر بها بلادنا كما قد تؤثر هذه الثقة على مجريات إقرار المشروع الأكبر المتمثل في الورش الدستوري المفتوح. واني إذ أطرح هذه التساؤلات و الملاحظات أرجو أن أكون قد ساهمت في فتح نقاش عميق وصريح بخصوص مشروع الجهوية المقترح في أفق استدراك ما يمكن استدراكه .