عرفت الدارالبيضاء توسعا عمرانيا كبيرا نتيجة ضغط مختلف أنواع الهجرات عليها، واستفحال البناء العشوائي، وعجز السلطات المحلية على التحكم في هذا التوسع العمراني. وقد تمثلت بعض مظاهر هذا العجز في عدم توفير السلطات المحلية لشبكة نقل عصرية وحديثة لتسهيل الربط بين مختلف جهات الدارالبيضاء، حيث أن وسائل النقل العمومي المتوفرة من حافلات، وطاكسيات ( صغيرة وكبيرة) لا تمكن من ضمان سيولة نقلية ناجعة تمكن من إدماج مختلف الأحياء الجديدة أو الهامشية في المنظومة الحضرية للمدينة، كما لا توفر انسيابا في تحرك السكان بين وسط المدينة وأطرافها بسبب بعد المسافة، ومحدودية القدرة الاستيعابية لوسائل النقل المتوفرة، وارتفاع ثمن النقل، وغياب أبسط شروط السلامة والراحة. وأمام هذا الوضع ارتأى المسؤولون بمدينة الدارالبيضاء وأمام صعوبة حل معضلة النقل على صعيد هذه المدينة في وقت يسير الشروع في إنجاز أول خط للترامواي بغية التقليص من مشاكل حركة السير والمساهمة في إدماج أحياء ذات كثافة سكانية كبيرة في محيطها الحضري، بالإضافة إلى المساهمة في إعادة تأهيل وسط المدينة. - التخفيف من أزمة النقل تبرز أهمية هذا المشروع أكثر من خلال الأرقام الخاصة بالنقل الجماعي على صعيد الدارالبيضاء والتي جاءت في دراسة أنجزها مجلس جهة الدارالبيضاء الكبرى أظهرت أن وسائل النقل العمومي لا تشكل سوى30 في المائة من وسائل النقل المستعملة, حيث أن حصة النقل الجماعي عبر الحافلات تراجعت من18 في المائة (1975 ) إلى13 في المائة (2004 ), مقابل ارتفاع نسبة الاعتماد على سيارات الأجرة من1 في المائة (1975 ) إلى15 في المائة (2004 ) ونسبة التنقل سيرا على الأقدام من51 في المائة إلى53 في المائة خلال الفترة نفسها. ووصفت الدراسة شبكة النقل الجماعي بكونها تعاني من نقص عددي وضعف في الجودة علاوة على أنها تتمركز في الطرق الرئيسية وتشكل عبئا ماليا إضافيا على السكان الذين ينفقون15 مليار درهم على النقل سنويا. كما أوضح مصدر من شركة (الدارالبيضاء للنقل) وهي الجهة التي تم إحداثها مؤخرا من أجل الإشراف على إنجاز شبكة للنقل الجماعي ذي المسارات الخاصة, أن "نسبة النقل الحضري لا تتجاوز13 في المائة وأنه لابد من إجراءات استعجالية للرفع من نسبة مستعملي وسائل النقل العمومية لتضاهي المدن الكبرى, التي تصل بها هذه النسبة إلى40 في المائة". بالإضافة إلى ذلك ، فحركة النقل بالدارالبيضاء عادة ما تعرف عدة اختناقات مرورية في ساعات الذروة رغم كل الإصلاحات التي شملت توسيع بعض الشوارع الكبرى للمدينة وإعادة هيكلتها ، و فتح بعض الأنفاق كالنفق الأرضي بشارع الزرقطوني، والنفق الأرضي بشارع إبراهيم الروداني ... مما يشل حركة السير ويفاقم من حدة التلوث بمدينة صناعية وخدماتية بحجم العاصمة الاقتصادية. ولعل هذا الوضع المتفاقم والتي عكسته هذه الأرقام هي التي حثت المسؤولين بالبدء بإحداث خط ترامواي أول بكلفة تصل إلى4 ,6 مليار درهم في إطار شبكة للنقل المكثف بكلفة إجمالية تصل إلى45 مليار درهم, تشمل خمس خطوط ترامواي ، حيث يطمح هذا المشروع, الذي ستساهم الدولة في تمويله (2 ر1 مليار درهم) والمديرية العامة للجماعات المحلية بوزارة الداخلية (5 ,1 مليار درهم), ومجلس المدينة وشركاء آخرين (900 مليون درهم) إلى الرفع من حصة النقل العمومي بالمدينة لتنتقل من13 في المائة إلى21 في المائة . فإنجاز هذا المشروع يساهم بلا شك في التخفيف من أزمة النقل في المدينة التي تنعكس من رداءة وسائل النقل العمومي وتهالك جل الأسطول المتحرك من الحافلات وسيارات الأجرة الصغيرة وسيارات الأجرة (شبه الكبيرة )، وبطء حركة السير، وغياب شروط التنقل المريح واللائق ، والتلوث …فالقدرة الاستيعابية لمقطورات الترامواي ، وسرعة تحركها ، وتوفرها على مختلف شروط التنقل المريح و الكريم وغير الملوث ، سيساهم بلا شك في التخفيف من أزمة النقل من خلال ربطه بين مختلف أحياء المدينة سواء كانت شعبية أو متوسطة أو راقية بمختلف مرافق المدينة وشوارعها وساحاتها العمومية . وقد انطلق أول خط من شبكة الترمواي ، من مقاطعات سيدي مومن، التي توجد بها كثافة سكانية تصل إلى 300 ألف نسمة، وبالضبط قرب المركب الرياضي الجديد بالمنطقة، المزمع إنشاؤه في غضون السنوات المقبلة، مروراً بمقاطعات سيدي البرنوصي، ومولاي رشيد والحي المحمدي (كريان سنطرال)، ثم محطة القطار (كزا فوياجور)، لخلق الانسجام بين جميع وسائل النقل بالعاصمة الاقتصادية، وصولا إلى الأحياء التاريخية بوسط المدينة، بساحة الأممالمتحدة، من خلال شارع محمد الخامس الشيء الذي أرجع الحيوية لقلب المدينة من خلال إضفاء رونق جديد على هذا الشارع التاريخي ، حيث تم تبيض كل واجهات الدور والشقق ذات الطابع الأوربي المتميز ، وسمح ببعث الحيوية الترويجية والتجارية التي فقدها لسنين بعدما تحول جزء من نشاطه التجاري إلى حي المعاريف. وسيواصل خط "الترامواي" طريقه في اتجاه الجهة الغربية للدار البيضاء، عبر شارع الحسن الثاني، ثم شارع عبد المومن، وعند شارع أنوال، لينقسم الخط إلى خطين، خط سيتجه نحو الحي الحسني والقطب الحضري أنفا، أما الخط الثاني فسيتجه نحو مجمع الكليات، وذلك لكثرة الطلب على وسائل النقل بالمنطقة.في المرحلة الأولى من إنجاز المشروع، التي ستمتد على طول 28 كيلو مترا، لن يتجاوز زمن الرحلة من سيدي مومن، إلى وسط المدينة، 25 دقيقة، بحيث قسمت مراحل إنجاز المشروع على أربع مراحل، التي ستكون على المدى البعيد، إذ أن المرحلة الثانية ستربط بين سيدي البرنوصي ومقاطعات الفداء مرس السلطان، على طول 19 كيلومترا.وستربط المرحلة الثالثة بين سيدي عثمان والفداء مرس السلطان، وصولا إلى قلب المدينة، على طول 14 كيلومترا، أما المرحلة الرابعة والأخيرة من المشروع فستربط بين مقاطعات سباتة وعين الشق وصولا إلى ليساسفة، على طول 15 كيلومتراً) . بالإضافة إلى ذلك ، فإن استعمال الترمواي سيقلص من المدة المستغرقة ، إذ من المتوقع ألا يتجاوز زمن الرحلة من سيدي مومن، إلى وسط المدينة 25 دقيقة . - إدماج الأحياء الهامشية في المجال الحضري عرفت الدارالبيضاء بسبب الهجرة ، ميلاد العديد من الأحياء الشعبية الطرفية التي تبعد عن وسط المدينة بعدة كيلومترات الشيء الذي أدى ليس فقط إلى عدم انسجام عمراني ، بل أيضا إلى تباين في المنظومة الفكرية والثقافية والسلوكية لسكان الدارالبيضاء، فأصبحت الدارالبيضاء عبارة عن (دار بيضات متعددة )لا من ناحية السلوك أ واللغة المستعملة ، أو العقلية ، أو النمط المعيشي . ولعل تفجيرات الدارالبيضاء ليلة 16 ماي 2003 ، قد جسدت هذا الخلل الحضري الذي تعاني منه مدينة الدارالبيضاء. فهذه التفجيرات لم تعكس فقط فكرا متطرفا، بل عكست أيضا الفجوة الفكرية والثقافية التي تفصل بين وسط المدينة وأطرافها، حيث أن إقدام شبان من حي طرفي على تفجير مجموعة من البنايات داخل وسط المدينة يحمل حقدا وكرها لسكان هامش لا يحسون بأي انتماء نفسي أو فكري أو مادي لهذه المدينة ، ويعتبرون أنفسهم خارج هذا المجال الحضري المشترك ، فهم كمن يعيشون (انفصاما مجاليا) يدفعهم إلى تخريب جزء من مدينة عاشوا وترعرعوا فيها تحت تبريرات دينية مختلفة كالتكفير والجهاد . ولا يقتصر هذا الشعور بالانفصام المجالي على هذه الشريحة بل يطال كل الفئات التي تعيش على أطراف مدينة الدارالبيضاء ، الشيء الذي يظهر من خلال الأعمال التخريبية التي تقوم بها بعض جماهير الشباب من محبي الوداد والرجاء عندما يحجون لمشاهدة بعض المباريات في ملعب محمد الخامس ، حيث يعمدون إلى تخريب كل الممتلكات التي تصادفهم في طريقهم من تكسير زجاج الحافلات ، وسيارات الأجرة ، والسيارات الخاصة التي تتحرك وسط المدينة . من هنا ، فإن إنجاز مشروع الترامواي التي سيربط بين مختلف أحياء الدارالبيضاء قد يخفف من الشعور بهذا الانفصام المجالي المستشري خاصة بين سكان الأحياء الهامشية ، كما أنه سيقوي من شعور الانتماء بين سكان الدارالبيضاء سواء من خلال الربط المجالي أو من خلال التواصل المجالي. - فعلى مستوى الربط المجالي، من المنتظر أن يمر الترمواي بأغلب المجمعات السكنية للدار البيضاء، حيث سينطلق من مقاطعات سيدي مومن، مرورا بمقاطعات سيدي البرنوصي، ومولاي رشيد والحي المحمدي (كريان سنطرال)، ثم محطة القطار (كزا فوياجور)، ، وصولا إلى الأحياء التاريخية بوسط المدينة، بساحة الأممالمتحدة، من خلال شارع محمد الخامس، مما سيسمح لهذه الساكنة الطرفية بالاندماج بشكل كبير في وسط المنظومة المجالية للدارالبيضاء الكبرى. - أما على مستوى التواصل المجالي ، فإن الترامواي, الذي, سيمكن من نقل أزيد من200 ألف راكب يوميا ، في بداية اشتغال خطه. الأول ، سيجعل شرائح مختلفة من سكان الدارالبيضاء يلتقون يوميا في أوقات محددة وفي مجالات مشتركة كمحطات الترمواي وعرباته ، مما سيكرس وشائج الشعور بالانتماء إلى نفس المدينة . فالتنقل اليومي لسكان المدينة بين أطراف هذه المدينة المتباعدة الأطراف بالترامواي سيسهل من عملية التلاقي اليومي بين سكان المدينة بمختلف مشاربهم وعقلياتهم مما سيقرب من الفجوة الثقافية والفكرية وحتى النفسية التي تسود حاليا بين سكان هذه المدينة والتي ترجع بالأساس ليس فقط للتباعد المجالي بين سكان مختلف أحياء المدينة ، بل بالأساس إلى الأفكار المسبقة التي يكونها سكان الأحياء القديمة للمدينة (درب السلطان ، المدينة القديمة ، الحبوس ، عين الشق ...) حول سكان الأحياء الطرفية والهامشية التي عادة ما ترتبط بضعف التمدن ، والهجرة ، والسلوكات غير اللائقة ، واللغة الخشنة والعنف في الوقت الذي يكون سكان هذه الأحياء الهامشية صورة سلبية أخرى حول سكان هذه الأحياء العتيقة تتمثل في الاكتظاظ السكني ، والتلوث ، والغرور أو الإحساس بالتفوق متولد عن الشعور بالتأصل و التجذر في المدينة . وبالتالي ، فإن التنقل اليومي لسكان مختلف هذه الأحياء و تلاقيهم في وسيلة نقل عمومية مشتركة ستقلص بلا شك من مختلف هذه الأفكار المسبقة والنمطية و ستساهم في خلق نقاشات وتعارفات يومية ستساهم في التعارف المتبادل وتكرس من الإحساس من الانتماء المشترك لنفس المدينة. - إعادة تأهيل وسط المدينة تشهد مدينة الدارالبيضاء ، في الآونة الأخيرة عدة أوراش تهدف إلى إعادة تأهيل هذه المدينة ، حيث تم الشروع في إعادة تصميم بعض الشوارع الكبرى ( كشارع أنفا ، والمسيرة ، والزرقطوني...) وإعادة بناء المحطة السككية للميناء ، و إعادة توسيع كورنيش عين الذئاب وتجميله ، و الشروع في إنجاز المارينا إلى غير ذلك من الأوراش. لكن في الوقت الذي يتم فيه الاهتمام بإنجاز هذه المشاريع، هناك إهمال شبه تام لوسط المدينة بشوارعها ومحلاتها التجارية ومقاهيها و فنادقها .فعلى الرغم من التوسع الكبير الذي عرفه وسط المدينة ، حيث أصبحت تخترقه عدة شوارع كبرى ( شارع المقاومة ، و شارع باريس ، وشارع الجيش الملكي و شارع الموحدين ) ، و ترتفع فيه عدة مؤسسات فندقية عالمية ( إبيس ، ريجنسي ، شيراتون ... ) ومؤسسات بنكية ، بالإضافة إلى برج الأطلس الذي يحتضن مقر عدة مؤسسات إعلامية ، وخدماتية ، ... ويطل على أهم المراكز التجارية للعاصمة الاقتصادية كالميناء و ( درب عمر ) ، فما زال هذا الفضاء يعاني من نقص كبير في التجهيزات والبنى التحتية : فالإنارة العمومية ما زال لم يتم تجديدها ولم يتم تغييرها بشكل يتلاءم والطبيعة العمرانية والهندسية والوظيفية لهذا الفضاء. بالإضافة إلى ذلك ، يعاني هذا الفضاء من اختراقه من طرف العديد من سيارات الأجرة الكبيرة التي تنقل العديد من سكان الأحياء الطرفية كالبرنوصي ، و سيدي عثمان ، وحي الفلاح ، وحي عادل ... لتحط بهم الرحال داخل ساحة الأمير مولاي عبدالله ، أو بين أزقة شارع محمد الخامس ، أو قرب فندق ريجنسي بما يرافق ذلك من اكتظاظ ، واحتكاك ، وتسيب. وبالتالي ، فإن خط الترمواي الذي اخترق شارع محمد الخامس قد ساهم بلا شك في إعادة تأهيل هذا الفضاء من خلال إعادة تجديد بنياته التحتية ، أو من خلال تنظيم التنقل بين جنباته ، أو من خلال تجميله. فقد شرع ، بالموازاة مع وضع سكة الترمواي بتحويل الشبكات تحت الأرضية ، الخاصة بالماء الصالح للشرب، والكهرباء، والهاتف، والألياف البصرية . كما واكبت هذه الأشغال مشاريع جانبية أخرى، من تخصيص فضاء خاص للراجلين بشارع محمد الخامس، وإيجاد دينامية جديدة للتجارة بوسط المدينة، وتأهيل المجال العمومي على طول ممرات الترامواي، وإعادة تأهيل الساحات العمومية، وخلق ممرات خضراء جديدة، وإعادة هيكلة شبكة النقل الحضري، بتنظيم شبكة الحافلات، وإعادة النظر في شبكة تاكسي الأجرة . لكن لضمان تجول آمن ومطمئن لمرتادي هذا الفضاء البيضاوي العريق والسماح لهم بالتحرك بكل حرية واطمئنان بين جنباته ومحلاته من الضروري العمل على توسيع أ رصفة وسط المدينة واتخاذ إجراءات لمنع مرور السيارات الخاصة و سيارات الأجرة ( خاصة ما يسمى بالكبرى ) في أزقة هذا الفضاء و تبليط كل الأزقة التي تخترق ساحة الأمير مولاي عبدالله ، وشارع إدريس الحريزي ، وكذا الأزقة المؤدية إلى شارع محمد الخامس ، مما سيسمح بأن يتوفر وسط أكبر مدينة في المغرب على رصيف يليق بحجمه وذلك على غرار بعض المدن العملاقة كاسطنبول ، أو شنغاي . ولعل توسيع مثل هذا الرصيف سيسمح بتدشين حركة تجارية واقتصادية وترفيهية في هذا الفضاء ، إذ أن هذا التوسيع ، سيسمح بفتح عدة محلات تجارية ومؤسسات مالية وبنكية ، كما سيحول هذا الفضاء إلى قبلة سياحية وترفيهية من خلال فتح العديد من المقاهي أوالمطاعم وأماكن ترفيهية مما سيعزز موقع المدينة كقطب ترفيهي ضخم خاصة بعدما توفير وسيلة نقل ملائمة يمكن استعمالها من قبل جميع الفئات الاجتماعية . وفي انتظار إنجاز باقي خطوط شبكة الترامواي بالدارالبيضاء, تكبر انتظارات ساكنة المدينة في أن تساهم هذه هذه الشبكة في إنقاذ القلب الاقتصادي للمملكة من اختناقات حركة السير ، وإكراهات الامتداد العمراني الواسع ليعود لهذه المدينة ألقها وإشعاعها الثقافي ، والاقتصادي ، والحضاري. فمشروع الترمواي ، لا يمكن أن يعتبر مشروعا تقنيا فقط ، بل هو مشروع شمولي يرتبط برؤية تنموية تطمح إلى أن تعيد للعاصمة الاقتصادية للمملكة موقعها كقاطرة للاقتصاد الوطني ، وكوجهة تعكس البعد الحضاري والمعماري المغربي الأصيل المنفتح على المعاصرة, وأيضا كفضاء حضري منسجم قادر على تحقيق التوازن بين الهوامش والمركز .