تحذو الانسان منذ غابر الأزمنة رغبة في تخليد نفسه بطريقة أو بأخرى. و بالرغم من أن سر الخلود استعصى عليه في مختلف العصور فإن الانسان استطاع أن يصرف الخلود في أشكال أخرى مختلفة تجعله يخلد عبر إبداعاته و ليس بجسده، بداية برسومات و نحوتات إنسان الكهوف و مرورا بأهرامات و تماثيل و محنطات الفراعنة و كتابات الفينيقيين و الأسود المجنحة عند البابليين و الآشوريين و معابد الاغريق و الفرس و الرومان و رسالات و ألواح الأنبياء و مدونات هوميروس و هيرودوت و تماثيل بوذا و سور الصين العظيم..... فكر الانسان في ترك أثر يذكر الناس من بعده به كتعويض عن فقدان الخلود بموت لا بد منه في حياة دنيوية قصيرة بالتوازي مع فكرة الحياة الأخرى و نعيم جنة أو جحيم جهنم.. تطور الانسان و اتخذ الخلود عنده اشكالا شتى.. فترك معالم حضارات تعاقبت و قامت كل واحدة على انقاض سالفتها، في كل الميادين.. تطور العلم و تعمق فهم الانسان للطبيعة و الكون من حوله.. و من أجمل الآثار التي خلدت اصحابها عند بني الانسان هي التحف المعمارية التي صمدت مئات بل آلاف السنين، فتجعلنا اليوم نتلفظ و نذكر أسماء خوفو و خفرع و منقرع و توت عنخ آمون و نبوخذنصر الثاني و داريوس و النبي ابراهيم و سليمان القانوني و لويس الرابع عشر و بني الاحمر و نابليون بونابرت و نيقولا الثاني و الملكة فيكتوريا و امبراطور الصين تشين شي هوانغ و عبد الرحمن الداخل و فاطمة الزهراء الفهرية و شاه جهان و حكام الإنكا و أبا عبد الله الأحمر.... و كمثال على مراودة فكرة الخلود لذهن الانسان منذ سالف الأزمان ملحمة جلجامش العظيمة حيث سعى في طياتها الملك جلجامش الى الخلود عن طريق تقفي أثر أوتنابشتم أو النبي نوح الذي لم يبح لأحد من قبل بسر خلوده الذي جعله يعمر مئات السنين (في الكتب السماوية 950 عاما)، فالتقاه و طلب منه إدلاءه بسر خلوده، فطلب منه أن يظل صاحيا 6 أيام و 7 ليال، فيفشل في الاختبار، و يترجاه أن يمنحه فرصة اختبار أخرى فتدله زوجة نوح على عشبة سحرية في بحيرة، يصل إليها و بينما هو يغتسل في النهر، تسللت أفعى (الحيوان الذي اقترن بالشر في أساطير الأولين و كتب الأنبياء..) و تناولت العشبة السحرية، فيرجع جلجامش بخفي حنين إلى عاصمته أوروك و الحسرة تلتهم فؤاده.. وفي طريق العودة يشاهد السور العظيم الذي بناه حول أوروك فيفكر في قرارة نفسه أن عملا ضخما كهذا السور هو أفضل طريقة ليخلد اسمه، و هكذا اهتدى أخيرا إلى الخلود عن طريق عمله وليس جسده. مناسبة هذا السرد الذي انسدل في ذهني اللحظة هو مطالعتي لمقال يتحدث عن غرناطة الاندلس، و كيف ان عبد الله الصغير سلم مفاتيح غرناطة و الحمراء لكي لا تخربها ايسابيل لا كاثوليكا.. و هي وجهة نظر تستحق الاعتبار و تتطابق مع ما سار إليه العديد من المؤرخين الذين عزوا تجنب محمد بن عبد الكريم الخطابي لمهاجمة مليلية بعد ملحمة انوال لرغبة منه في حفظها من دمار البنيان و ازهاق الارواح.. و حتى الاستسلام الذي يصور غالبا على أنه جبن و هوان قد يكون له تبرير معقول أحيانا كما تحدث عنه أبو فراس الحمداني في قصيدته المشهورة: وقال أصيحابي: الفرار أو الرّدى؟ *** فقلت : هما أمران أحلاهما مرّ ولكنني أمضي لما لا يعيبني *** وحسبك من أمرين خيرهما الأسر عندما يكون الاستسلام لحقن الدماء و حماية المستضعفين أو تضحية بالنفس لأجل الآخرين فطعمه أفضل من انتصار يتغذى على دماء الضحايا و أشلاء الضعفاء. و المثير في الأمر، أنه يحلو لنا -بني الانسان- تجميل الحوادث التاريخية طمعا في تخليدها. ؤ اذا كنا اليوم قادرين على تخليد لحظة ما عبر سلفيات و فيديوهات بالصوت و الصورة و ليس فقط عن طريق كتابة مذكرات او كتب سيرة ذاتية و إنشاء قصور و صروح.. فانه في العصور الخالية كنا دائما نضفي محسنات و مبالغات جميلة لتخلد القصة بشكل افضل كما هو الحال في قصة خطبة البحر من ورائكم والعدوُّ أمامكم المنسوبة للقائد الامازيغي طارق بن زياد و تفاحة نيوتن و قصة والدة الزغبي عبد الله الصغير التي مفادها أنها خاطبت ابنها بعد أن سلم مفاتيح غرناطة إلى ملكة قشتالة و زوجها ملك أراغون: " ابكِ كالنساء على ملكٍ لم تحافظ عليه كالرجال " ، لإضفاء هالة اكبر على سيطرة القشتاليين و الأراغونيين على آخر معاقل المسلمين في الاندلس، من طرف أحد مؤرخي القشتاليين.. و الحقيقة ان قصة تسليمه لمفاتيحها حقنا للدماء و حفظا لجوهرته الفريدة الخالدة قصر الحمراء قد تبدو اكثر انصافا لشخصية هذا الأمير الذي في نهاية المطاف لم يكن ليستطيع وقف الزحف و لا فك الحصار على غرناطته و حمرائها بعد أن خذله كل من استنجد بهم.. فيا ليت دكتاتوريي العرب و العجم في هذا الزمان يتعظون أن تسليمهم للمفاتيح قد يكون طريقا للخلود أكثر منه التشبت بكرسي على أنقاض الشعوب و أشلاء الأطفال. صحيح أن ملوك إيبيريا انقلبوا على المسلمين و اليهود و أذاقوهم سوء العذاب فيما، لكن ذلك كان تحصيل حاصل، و على الأقل لم يخربوا جوهرة المعمار العربي الأمازيغي الإسلامي، قصر الحمراء، الذي يعد اليوم أكثر الأماكن السياحية في اسبانيا زيارة و اكتظاظا على مدار السنة، يزوره 8 آلاف سائح يوميا و زهاء مليونين و نصف من السياح سنويا. أحد أسرار الخلود يكمن في اتخاذ القرارت الصحيحة في الأوقات الصحيحة..