الخلود اصطلاحا هو الحياة الأبدية، أي الحياة المُستقلة عن الزمن، أو بمعنى آخر أن يكون للخالد بداية و لا تكون له نهاية. و لأن الخلود الفيزيائي مستحيل بالنسبة للكائنات الحية، و الإنسان تحديدا، فقد عملت الحضارات على تخليد ذكرى عظمائها و قادتها عن طريق بناء الأضرحة و رفع التماثيل و غير ذلك من أساليب التمجيد. فالخلود، إذن ،حُلُم راود البشر الفاني منذ أن وعى محدودية حياته و حتمية الموت الكامن له في مُنعطفات الحياة (الحيوان لا يعي حتمية الموت).لذلك أنتج الخيال البشري أساطير عدة حول آلهة خالدين أو أبطال أسطوريين لا ينال منهم الموت و يتمتعون بالقدرة على تجديد الحياة في أجسادهم. كما أن الخيال دفع الإنسان، في سعيه إلى الخلود، إلى البحث عن «إكسير الحياة» الدواء السحري الضامن للخلود، أو تخيل «عين الحياة» التي إذا شرب منها الكائن أصبح خالدا. بيد أن كل هذه التهويمات لم تكن تتعد الأساطير و لا تجاوزت عتبة الخيال. فالقاعدة العلمية تقول أن كل كائن يولد و يتغذى و يتناسل ينبغي أن يشيخ ثم يموت. إلا أن العلم نفسه يكشف لنا الاستثناء الواقعي لهذه القاعدة. فهناك حيوانات ?بيننا- تولد و تتغذى و تتناسل لكنها لا تموت، و لعل أهم هذه الحيوانات «الخالدة» هو حيوان «تيولا» (اختصار الإسم العلمي «تيورتبسايس نيوترايكولا») و هو نوع من أنواع قناديل البحر لا يتعدى طوله نصف سنتمتر. فحسب دراسات و أبحاث علمية فإن هذا الحيوان يتميز بخلوده، أي قدرته على البقاء على قيد الحياة إلى ما لا نهاية، بيد أن هذا الخلود خلود بيولوجي ليس إلا، و هو نفس الخلود الذي تتمتع به الخلايا السرطانية ، بحيث أن «الأبوبتوز» (المصطلح العربي هو «الاستماتة» أي الوفاة الطبيعية للخلايا أو الموت المُبرمج و هي عملية متعمدة تفكك فيها الخلية عند الهرم نفسها بنفسها) تتوقف و بذلك تصبح الخلية السرطانية معفاة من الشيخوخة. بيد أن قنديل البحر ليست معفاة من الشيخوخة، فهي تشيخ كمثيلاتها من الحيوانات و الكائنات الحية، إلا أنها تتميز عنهم بقدرتها على استعادة شبابها، ففيما تمر الكائنات بمراحل الطفولة فالشباب ثم النضج قبل أن تنزل في سلم الحياة إلى مرحلة الكهولة فالشيخوخة ثم الموت، فإن قنديل البحر هذا باستطاعته بعد أن يبلغ قمة نضوجه الجنسي و يتناسل و يشيخ أن يعود إلى مرحلة الطفولة، و ذلك بشكل لانهائي...نظريا. نظريا، لأن «خلوده» هذا و استرجاعه الدائم لشبابه لا يحول بينه و بين الموت عن طريق حادثة أو مرض أو يمنع مفترسيه من الحيوانات البحرية الأخرى من التهامه و التمتع به كغذاء لذيذ. و بسبب هذه الميزة الاستثنائية فقد شكل حيوان «تيولا» موضوع فضول و بحث العلماء البيولوجيين و علماء الجينات، الذين انكبوا على دراسة الأسباب التي تمنح قنديل البحر هذا، القدرة على تشبيب جسمه و الاستفادة منها لتطبيقها على الكائنات الأخرى و خاصة منها الإنسان .غير أن هذا «الخلود» يقلق الباحثين، لأن من شأنه أن يجعل من هذا الحيوان الصغير ذائع الانتشار في مختلف مياه كوكبنا الأرضي، و قد لوحظ بالفعل تكاثر أفراد هذا الحيوان،الذي يعيش في الأعماق، سنة بعد سنة، إلا أنه لحسن حظنا، فإذا كان مُعفى من الموت البيولوجي إلا أنه مُعرض، كما رأينا، للموت بطرق أخرى مصداقا لقول المتنبي الشاعر العربي الكبير، «تعددت الأسباب و الموت واحد». و لا زال العلماء حائرين فيما إذا كانت عملية التشبيب تتم بقرار من قنديل البحر نفسه، الذي يتكون جسمه من 95 بالمائة ماء و ليس له دماغ و لا نظام هضمي، أم تتم نتيجة لتوفر بيئة خاصة تعمل على تحريكه. هذا الكائن المدهش هو أحد أنواع قناديل البحر، و هو قادر على تجديد خلايا جسمه كلها باستمرار، و هذه القدرة تتوفر عليها بعض الحيوانات الأخرى التي تستطيع تجديد بعض أطرافها المبتورة (مثل السحلاة القادرة على تجديد ذيلها المقطوع و مثل فرس البحر أيضا) بفضل عملية بيولوجية تسمى «ترانسديفورنسياسيون» (قدرة الخلايا على التحول من وظيفة لأخرى)، إلا أن هذا الكائن العجيب يستطيع تجديد أعضاء جسمه بالكامل. لذلك فمن شأن تقدم العلماء و الباحثين في إماطة اللثام عن الأسرار التي لا زال يختزنها هذا الكائن، أن يساعد البشرية على التقدم بخطى عملاقة في مجال الطب و الصحة، إذ قد يساعد على تجديد نمو الأطراف المبتورة أو تجديد خلايا الأعضاء المتخصصة, و المساهمة في تحقيق حلم البشرية القديم أي تجاوز جدار الموت و التمتع بالخلود، غير أن هناك من يرى بأنه إذا كان هذا ممكنا بالنسبة لهذا الحيوان العتيق و الصغير فإن حلم تحويله إلى حيوانات فقارية أرقى مثل الإنسان لا زال بعيد المنال.