أقدم متعهدو الشبكات العمومية الثلاث للاتصالات بالمغرب على توقيف الاستفادة المجانية من خدمات الهاتف عبر بروتوكول الإنترنت (VoIP)، لإرغام المواطنين على المرور حصريا بالشبكات التي يستغلوها وبأسعار مرتفعة. وقد خلف قرار المنع السري والمفاجئ هذا، والذي زكته الوكالة الوطنية للاتصالات السلكية واللاسلكية (ANRT)، استياء عميقا، تبعته حملات تنديد مكثفة على صفحات الجرائد وشبكات التواصل الاجتماعي. إن هذا القرار يطرح تساؤلات عدة حول الدواعي الحقيقية لاتخاذ هذه الطريقة المفاجئة والسرية: قد تكون دواعي أمنية غير معلنة (صعوبة المراقبة الأمنية للمكالمات المنجزة عبر الإنترنيت والتي قد تشكل خطرا على أمن البلاد)، وقد تكون دواعي تجارية تتجلى في أن تقديم هذه الخدمة بدون ترخيص وتقنين قد يكون منافسة غير مشروعة بالنسبة للمتعهدين المرخص لهم والملتزمين بدفاتر تحملات. الجانب القانوني نعتقد أن الوكالة- استنادا إلى القانون 24/96 الجاري به العمل- غير مختصة للنظر في أمر هذه التقنية الجديدة للاتصال التي لا يشملها هذا القانون الذي يحدد اختصاصاتها. ذلك أن هذا الأخير اعتُمد في التسعينات؛ أي في الوقت الذي كانت فيه الإنترنيت في خطواتها الأولى، وفي وقت كانت خدمات الهاتف تتم حصريا على شبكات تبديلية (RTC)، الأمر الذي جعل المشرع يحصر خدمات الهاتف في "الاستغلال لفائدة العموم لكل نقل مباشر وآني للصوت عبر شبكات عامة تبديلية" (الفصل 1 ف14). لكن بعد صدور هذا القانون، قبل أكثر من عقدين، عرفت تقنيات الاتصال ثورات مضطردة فتحت إمكانية تقديم خدمات عدة للاتصالات من بينها خدمات الهاتف، وذلك عبر شبكات بديلة للشبكة التي نظمها القانون السالف الذكر والذي أوكل المشرع آنذاك أمر المراقبة فيه إلى الوكالة (ANRT).هذه النوعية الجديدة من الشبكات الجديدة تعتمد تقنيات جديدة للإرسال تمتاز بصبيب عال وتقنية متطورة تمكن من استغلال أمثل لإمكانيات الشبكة، وذلك بتفكيك الاتصالات إلى رموز قبل إرسالها تم إعادة تجميعها عند التوصل، وهو ما يسمى "تقنية الإرسال بالرزم" (Transmission par paquets)، والتي تختلف عن تلك التي نظمها القانون 24/96 والمتعلقة بالنقل المباشر والآني للصوت من المرسل إلى المرسل إليه، كما سبق ذكره. عند ظهور هذه التقنيات لم تعمد الوكالة الوطنية (ANRT) إلى اقتراح واعتماد قانون جديد وشمولي يأخذ بعين الاعتبار الاستغلال المندمج للشبكات والخدمات التي تتيحها هذه التقنيات الجديدة (خدمات الهاتف، خدمات تلفزية، خدمات الانترنيت، خدمات تراسل المعطيات الخ...) بل تركت الفاعلين المعتمدين يجابهون هذا التطور بإجراءات حمائية مرتجلة لا تراعي دائما الضوابط القانونية. هكذا وعند ظهور أول تطبيقات للهاتف عن طريق الحواسب (Skype)، حاولت شركة اتصالات المغرب منع استعماله في مراكز الإنترنت (Cyber)، التي كانت تخضع للترخيص من طرف هذه الشركة، وطالبت مستغلي هذه المراكز بمراقبة استعمالات الزبناء للحواسيب ومنعهم من استخدامها في الاتصالات الهاتفية، وذلك تحت طائلة سحب رخص الاستغلال. لكن هذه المحاولات باءت بالفشل بعد أن ظهرت برمجيات أخرى تمكن من إجراء المكالمات من الحواسيب إلى الهواتف الجوالة ثم بين الهواتف الجوالة مباشرة (Peer to Peer)، مما دفع بالفاعلين إلى التغاضي عن الأمر لعدة سنوات إلى أن تم المنع مؤخرا، وبصورة مفاجئة وسرية. هذا السلوك الانفعالي، المتمثل في اللجوء سريا إلى المنع دون مراعاة حقوق المواطنين في الاتصال والتواصل، يطبع رد فعل اتصالات المغرب في كل مرة تظهر فيها خدمة جديدة تنافسها، وفي كل مرة كانت الوكالة (l'ANRT) تجد لها فتوى في إطار قانون متجاوز كان يرتكز على ضمان الهيمنة على السوق واحتكار الشبكة وتقديم خدمات الهاتف الثابت لشركة فتية، خاصة كانت الدولة تملك أغلبية رأس مالها. وقد حاولت هاته الشركة مرة أخرى منع استعمال تطبيق Google Earth بدعوى أنه يمكن من تحديد أماكن المواقع الإستراتيجية لأمن الوطن، لكن تم العدول عن هذا المنع بعد إثارة انتباه المسؤولين إلى أن فيه خرقا لاتفاقية التبادل التجاري الحر مع الولاياتالمتحدة. قانون متجاوَز لا يمكن الاستمرار بالعمل بقانون قديم ينظم استغلال قطاع تقني عرف ويعرف تطورا مضطردا، أصبح معه بالإمكان تقديم خدمات مندمجة عبر شبكات جد متطورة لم يتصورها المشرع قبل 20 سنة خلت عندما نظم سوق الاتصالات المقدمة أساسا عبر الكابلات، وعندما كان هاجس السلطات آنذاك (مدير المكتب الوطني للاتصالات كان في الوقت نفسه وزيرا وهو حاليا مدير عام شركة اتصالات المغرب) هو حماية الفاعل التاريخي الذي كانت الدولة تملك أغلبية رأس ماله، وكذلك عندما حدد اختصاصات سلطة التقنين والمراقبة في هذا الإطار. إن الثورة التي عرفها هذا القطاع تحتم سن إطار قانوني مناسب، وهو الأمر الذي فطن له المشرع الأوروبي عندما أقدم على إعادة النظر في مجموع الإطار القانوني القديم حتى يتسنى له تأطير التقنيات الجديدة للاتصال. وقد تم هذا بمقاربة شمولية مكنت من اعتماد إطار قانوني مندمج يميز بين خدمات الاتصال "الالكترونية" وخدمات "الاتصال السمعي البصري"، وهو القانون الذي أسمته اللجنة الأوروبية المختصة "رزمة الاتصالات" (Paquet télécom)، قانون يعيد تعريف الشبكات والخدمات المقدمة والنظام القانوني لكل منها، ويعيد توزيع الاختصاصات بين هيئات تقنين الاتصالات الإلكترونية وهيئات تقنين الاتصال السمعي البصري بما فيها الإنترنيت. المنافسة غير المشروعة لا شك أن تقديم خدمات الهاتف للعموم مجانا عبر الإنترنيت، وبدون تنظيم، يفوت على متعهدي الشبكات العمومية للاتصالات قسطا مهما من المداخل، الأمر الذي يصبح له وقع أكثر تعقيدا عندما يعمد مقدمو هذه الخدمات إلى استقبال المكالمات الدولية عبر بروتوكول الإنترنت وتمريره أبعد من ذلك عبر الشبكة الوطنية التي يستغلها المتعهدون المرخص لهم. وهكذا يحصلون على مدا خيل كبيرة (بتسعيرة المكالمة الدولية) في حين يحولون مبالغ هزيلة لمتعهدي الشبكات العمومية باحتساب المكالمات الدولية بتسعيرة المكالمات المحلية. إن عدم الوضوح في الإطار القانوني الجاري به العمل جعل العديد من القضايا التي رفعها المتعهدون ضد مقدمي الخدمات الهاتفية الدولية عبر الإنترنيت أمام القضاء تخلق صعوبة كبيرة لدى المحاكم في تصنيف هذه المخالفات، حيت كانت تصنفها تارة "جرائم قرصنة المكالمات" (اتصالات المغرب ضد عدة من أعوانها التجاريين بالدار البيضاء)، وتارة "تحويل خطوط الهاتف"، وتارة أخرى "جرائم الولوج غير المرخص به لأبناك المعطيات المحمية" (قضية كريم الزاز ومن معه الجارية أمام المحاكم). وكانت الوكالة الوطنية (ARNT) تثير في كل مرة أمام المحاكم إجبارية استعمال شبكة المتعهدين المرخص لهم لتمرير مجموع الاتصالات بما فيها المكالمات الهاتفية عبر بروتوكول الانترنيت، في حين يفرض القانون هذا الأمر عند تقديم "الخدمات ذات القيمة المضافة"(؟). كنا في كل مرة ننتظر من الوكالة أن تثير أنظار القضاة إلى أن الأمر يتعلق في الحقيقة بتقديم خدمات الهاتف للعموم دون الحصول على ترخيص مسبق والالتزام بشروط دفتر التحملات كما هو منصوص عليه في القانون 96/24، وهو الأمر الذي يكون منافسة غير مشروعة، بالإضافة إلى كونه يمثل مخالفة جسيمة للقانون 24/96 الذي يفرض لها المشرع عقوبات وغرامات ثقيلة لما يشكله الأمر من خطورة على أمن البلاد. يجب التذكير أن أمر النظر في المنافسة غير المشروعة يرجع اختصاص النظر فيه إلى المجلس الوطني للمنافسة لا للوكالة، وذلك بعد إحداث هذا المجلس ودسترته وتوسيع اختصاصاته، وهو الاختصاص الذي تتمسك به الوكالة في ما يخض الاتصالات، ونذكر في هذا الشأن، وعلى سبيل الاستئناس، أنه بين سنتي 2004 و2005 توصلت وكالات تقنين الاتصالات في دول الاتحاد الأوروبي بشكايات متعددة من طرف متعهدي شبكات الاتصالات حول المنافسة غير المشروعة التي تمثلها هذه التقنية الجديدة في الاتصالات. وقد قرر ائتلاف وكالات التقنين والمراقبة في هذه الدول (ERG)عرض المشكل على مجلس المنافسة الذي خلص إلى أن تمرير المكالمات الهاتفية عبر الإنترنيت يعد فعلا منافسة غير متكافئة. ومع ذلك أوصت سلطات التقنين والمراقبة- بدل المنع- بالعمل على إعادة التوازن الذي تقتضيه المنافسة المشروعة دون اعتماد حواجز قانونية من شأنها أن تعرقل توسع استعمال هذه الخدمات في صالح المواطن. هذا ما كنا ننتظره من الوكالة الوطنية ANRT، أي بدل الاستناد إلى بنود متجاوزة لمساندة متعهدي الشبكات العامة في منع المواطنين من الاستفادة من هذه الخدمات الجديدة، كان من الأنسب النظر في الأمر كمنافسة غير مشروعة، وبالتالي إحالته على مجلس المنافسة للنظر في مشروعية تقديم هذه خدمات للعموم دون ترخيص أو التزام. *مدير مكاتب جوريس نت JURISnet خبير دولي في قانون التقنيات الجديدة للإعلام والاتصال مدير الشؤون القانونية سابقا لدى اتصالات المغرب