أثار خطاب 9 مارس 2011 لصاحب الجلالة محمد السادس الكثير من ردود الأفعال المتباينة والتي يمكن أن نقسّمها إلى قسمين: قسم صادر عن صفّ الموالين لمنهج الإصلاح الفوقي والذين تفاجؤا في الحقيقة بمضمون الخطاب بحكم أنه جاء في سياق جوابي على حركية الشارع. وقسم صادر عن صفّ المعارضين لذات المنهج أي الجذريين الذين تعزّزوا بحركة جماهيرية جديدة تتقن فن التواصل المعلوماتي. وهي حركة 20 فبراير التي يتشكل جلّ أعضائها من الشباب. لكن مطالب الحركة وأسلوب خطابها لا يحيدان عن مطالب وأسلوب خطاب بعض الفصائل الممانعة القديمة الشيء الذي يصعب معه التمييز أو الفصل بينهما. ولعلّ غزارة النقاش الحالي المندرج في هذا السياق تبيّن بالملموس أن الخطاب الملكي اكتسى أهمية سياسية كبرى ممّا أعطاه صبغة الأخذ بزمام المبادرة في هذا الوقت بالضبط أي بين مرحلتين دقيقتين من تاريخنا أو بالأحرى حاضرنا. مرحلة التعبير (20 فبراير) ومرحلة التصعيد (20 مارس). نعم، أعتقد أن جلالته قد أدرك ،بحسّه الذكي البارز، أن الشعب كان ينتظر منه تجاوبا مباشرا دون الحاجة إلى وسائط أو مؤسسات تمثيلية.إذ يمكن أن نقول بصيغة أخرى إن الشعب أراد تأسيس ميثاق اجتماعي جديد يربط الحاكم بالمحكوم بعد اختناق طويل ومزمن. وهنا تكمن أهمية الخطاب الملكي بالذات. ولكن يبقى السؤال مطروحا: هل يمكن لخطاب مبني على أسس سياسية ودستورية عامة أن يتجسّد على أرض الواقع بنخب ومؤسسات كانت وما تزال مسؤولة بشكل مباشر أو غير مباشر عن إجهاض كل المحاولات السابقة للإصلاح أو السير في طريق محاربة الفساد والمفسدين؟ أليس من حقنا أن نسأل عن الرجال والنساء الذين سيتكلفون بتطبيق مضامين الخطاب ابتداء من وضع القوانين وانتهاء بتطبيقها؟ إن الدارسين الذين يهتمون بالعلوم السياسية يعلمون أن بناء أي نظام ديمقراطي يحتاج إلى مرحلتين. مرحلة أولى توضع فيها اللبنات الأساسية للبناء من خلال وضع رؤية إستراتيجية واضحة تتفق عليها جميع الشرائح الاجتماعية أو "الطبقات الاجتماعية" التي تدخل في نطاقها وهو ما يستدعي ضمان تمثيلية تلك الشرائح في صياغة الرؤية التي نريد أن نسير وفقها. ومرحلة ثانية ترتبط بالتدبير السياسي للمشروع المجتمعي والذي يقتضي طبعا وجود أحزاب حقيقية تعبّر عن إرادة الشعب وتتنافس من أجل أن تنتج نخبا قادرة على تحمّل المسؤولية في التدبير مع إعمال مبادئ الكفاءة والنزاهة والمحاسبة. في خطاب جلالة الملك عدنا إلى المرحلة الأولى أي إلى مرحلة البناء. لأن المرحلة الثانية لم يعد لها مبرّر للوجود في غياب رؤية واضحة تحكمها وتحكم بقاءها. فهو يعيدنا إلى نقطة الصفر وإن بمنظور خاص. إذ لا يمكن إلغاء الجانب الذاتي في كل معادلة تفكيرية. في خضم هذا المشهد السياسي المتحرك، أرى أنه من الأنسب افتراض حسن النية في المبادرة الملكية لا لشيء سوى لأن البراغماتية المطلوبة في كل فعل سياسي تقتضي ذلك، كما أنها تقتضي استغلال الفرص التي يمكن أن تفيدنا في العمل على تجسيدها بدلا من التيه في كلام زائد لا يسمن ولا يغني من جوع. لكن تجسيد الميثاق الذي اقترحه جلالة الملك يوم 9 مارس وتطبيقه على أرض الواقع لا يمكن أن يكون دون القيام بمبادرات موازية تصب في اتجاه إبعاد كل النخب الفاسدة أو السلبية التي أدت بنا إلى استعمال منطق الشارع من أجل المناداة بإسقاطها. أقصد ما معناه أن الحكومة الحالية لم يعد لها دور سياسي تقوم به. فوظيفتها اليوم هي وظيفة إدارية محضة تقتصر على تصريف الأعمال وملء الفراغ في انتظار ما ستؤول إليه الاستحقاقات القادمة. والبرلمان كذلك أصبح اليوم متجاوزا بعد اعتراف جلالة الملك بنفسه بفشله في تحقيق دور الرقابة والمحاسبة المنوطة به. من هذا المنطلق أرى أنه من الواجب تفعيل إرادتنا للإصلاح بشكل فعلي لا شفاهي من خلال: 1- إلغاء الصفة التنفيذية من الحكومة الحالية وتقليص عدد أعضائها مع الاحتفاظ بمجموعة صغيرة منها كلجنة مكلّفة بتصريف الأعمال داخل أهم القطاعات الحيوية إلى غاية انتخاب حكومة مسؤولة أمام الشعب. 2- تعليق نشاط البرلمان بغرفتيه إعمالا لمنطق الفعالية وحسن التدبير(يمكن استغلال أجور البرلمانيين المخصّصة لما تبقى من ولايتهم وكذا التعويضات والمنح في ما هو أجدى بالنسبة للبلاد والعباد). 3- تفعيل دور القضاء في محاكمة جميع المسؤولين الذين تبت تورطهم في عمليات الفساد المعلن عنها في المجلس الأعلى للحسابات وغيره من المؤسسات المكلفة بتتبع الميزانية العامة. 4- الإفراج عن جميع المعتقلين السياسيين والمدنيين البريئين الذين تمّ اعتقالهم بشكل يخلّ بمبادئ المحاكمة العادلة وكذا بمقتضيات المسطرة القضائية دون إثبات ما انتسب إليهم. وما هي إلا بعض من الإجراءات السهلة الممتنعة التي ستثبت لا محالة إرادة التغيير عند أولي الأمر في هذا البلد. بعد ذلك يأتي دورنا نحن المواطنون في تفعيل دور المؤسسات التمثيلية وإعادة الثقة للأحزاب السياسية دون الحاجة إلى اجترار مفاهيم الفوضى الخلاقة والعنف الثوري البعيدين عن ثقافتنا. ولا أعتقد أن المجتمع المغربي في أغلبيته قادر على إفراز مثل هذه المفاهيم إلاّ إذا تم جرّه إليها بالاستمرار في نهج سياسات وممارسات مشينة بالديمقراطية والحلول السلمية. ولا يخفى على أحد أن ما وقع من تدخل أمني يوم 13 مارس بالدارالبيضاء يصبّ في هذا الاتجاه الذي يفقدنا الثقة في المستقبل وفي حسن نية الجهات العليا للسير في تطبيق ما ورد في خطاب 9 مارس التاريخي. بعد ذلك كلّه، نستطيع أن نتحدث عن مسؤولياتنا كمواطنين في مواكبة الإصلاحات التي نطالب بتحقيقها. ولابد أن نكون صريحين مع أنفسنا في هذا الباب. فالمجال لم يعد مبيحا للاستمرار في ترسيخ ثقافة الولاء الأعمى التي تلغي ثقافة الإبداع والكفاءة، كما لم يعد مسموحا إعمال المصلحة الخاصة قبل العامة أو دونها. نحن اليوم مطالبون بأن نكون ديمقراطيين لأن الديمقراطية لا تمنح وإنما تتجسّد على أرض الواقع، والديمقراطية تقتضي قبول الآخر مادام الآخر ديمقراطيا. وكلمة الفصل أولا وأخيرا هي الصندوق. وكم أخاف أن تعود تلك الممارسات الخبيثة التي عشنا على وتيرتها في كل الانتخابات السابقة حيث كان الناس في مدننا يقفون صفوفا من أجل الحصول على مبالغ زهيدة مقابلا لذممهم. إنها مسؤوليتنا جميعا لذلك يجب علينا أن نتحمّلها جميعا. وختاما أقول إن الإصلاح لن يكون سهلا ولا قصيرا في الأمد لأن جيوب مقاومة التغيير لن تقف مكتوفة الأيدي كما أن استرجاع ثقة الشعب في المؤسسات لن يكون بين اليوم والغد. لذلك فإن الحذر مطلوب اليوم والسلم مطلوب بإلحاح والتواصل فيما بيننا مطلوب بشكل أكثر إلحاحا.