من يحاول أن يرسم صورة للمغرب، فقط عبر ما ينشر ويذاع على شبكة الانترنيت، سيخيل إليه حتما أن بعض الاسماء قادرة على تحريك ملايين بإشارة من أصابعها، بل قد يظن -من فرط الصوت العالي- أن هؤلاء قادرون على الزحف على كل المواقع ، بما أنهم تفوقوا على الأحنف ابن قيس رضي الله عنه الذي كان إن غضب؛ غضب لغضبه مائة ألف -فقط- من تميم، لا يدرون فيم غضب.. لكن من يعيش على الأرض ويتابع تفاصيل الأمور كما هي في الواقع، لا يحتاج إلى من يؤكد له بأن حرفة هذه الفئة من الخطباء والكتبة هي "الجعجعة" التي لا يرجى من ورائها طحن ولا طحين.. يعترف المؤرخون للسياسة وشؤونها، ان الديموقراطية هي النظام الأقل سوء الذي اهتدت إليه البشرية لتدبير تجمعاتها، ولهذا تخضع الدساتير للتعديل باستمرار، حتى في الدول العريقة في هذا المجال..لكن ما يضمن استمرار البناء الديموقراطي، هو احترام بعض الابجديات التي من دونها لا يبقى هناك مجال للحديث عن ديموقراطية ولا هم يحزنون. من هذه الأبجديات أن الأغلبية تحكم والاقلية تعارض، وتبعا لذلك إذا انعكست هذه الآلية، فأصبحت الأقلية هي التي تقرر والأغلبية في الهامش، فإننا نكون -في أفضل الأحوال- قد انتقلنا من الديموقراطية إلى الأوليغارشية.. والدليل على ما تقدم، هو أن بعض الانتخابات والاستفتاءات وحتى القوانين والتشريعات في دول أوروبا الغربية، مرت بفارق بسيط في الأصوات، 50 وبضعة أعشار مقابل 49 وعدة أعشار أيضا.. فطوي الملف، وخضعت الأقلية -وهي هناك تمثل النصف تقريبا- لمنطق الديموقراطية العددية.. وفي قصة قانون "الزواج للجميع" بفرنسا درس لمن أراد فهم هذا المبدإ بشكل عملي. بطبيعة الحال، المغرب لا يمكن أن يخضع لهذه المبادئ الكونية، لأن الميزان عندنا مختل منذ البداية، وهناك دائما تخريجة "جديدة" لتبرير الخروج على المناهج الديموقراطية.. لا داعي للتوقف عند بعض الملفات الكبيرة المتعلقة بالثوابت الوطنية، لأن ذلك يحتاج إلى تفاصيل كثيرة، ولكن يكفي تقديم مثال بسيط لتوضيح المراد. فكما كان متوقعا، أثارت مسودة القانون الجنائي الكثير من ردود الأفعال المتشنجة. لكن ردود الفعل تلك، ليست مبنية على دراسة علمية أنجزها متخصصون في هذا الشأن، بل إن نفس الأسماء التي تكتب في التاريخ والجغرافيا والدين والفلسفة والطب وغزو الفضاء والفلكلور والطبخ.. هي التي ملأت الفضاء بالضجيج، وبطبيعة الحال فإن أقصر حائط للتسلل إلى هذا المجال القانوني الحساس هو ادعاء أنه مستمد من "الشريعة الإسلامية"، وهي عبارة كافية لتجنيد الشرق والغرب ضد مسودة مازالت مطروحة للنقاش، وذلك للقفز على سؤال المضمون والاختصاص..والانشغال بالمعارك الشكلية الفارغة. معركة طاحنة مازالت مستمرة منذ أسابيع حول هذه المسودة، ولكن الغائب -بل المغيب- الأكبر هو الشعب. لو كان المغرب دولة ديموقراطية، لهان الحسم في هذه المسألة بناء على الآليات الديموقراطية المتعارف عليها.. لكن أصحاب الصوت العالي لا يعترفون بالانتخابات ولا بالمؤسسات ولا بالدستور.. فهم فوق كل هذا، بل يصدرون مداخلاتهم ومقالاتهم وتصريحاته بأفعال من قبيل "يجب.. وينبغي..".. ولا أحد يدري من أين جاؤوا بكل هذه "السلطة" التي يحاولون من خلالها فرض آرائهم وأفكارهم ومعتقداتهم.. علما أنهم لا يملون من احتكار الديموقراطية وشعاراتها.. ولو كان هؤلاء ديموقراطيين فعلا، لطلبوا عرض المسودة المشار إليها -وكل الأمور الأخرى المختلف بشأنها- على استفتاء شعبي، أي لاحتكموا إلى الشعب باعتبار أنه صاحب الحق الأصيل في اختيار ما يناسبه من تشريعات.. وأترك للقارئ الكريم توقع النتيجة التي قد يؤدي إليها استفتاء من هذا القبيل.. ولهذا فإن اصحاب الصوت العالي بادروا مبكرا إلى الحجر على الشعب بدعوى انه لم يرتق بعد إلى مستوى الوعي الذي يؤهله لممارسة حقوقه السياسية.. وبطبيعة الحال لن يقبل هؤلاء أن يتم تذكيرهم بأحد المبادئ الاساسية في الديموقراطية والمتمثل في تساوي صوت إنشتاين مع صوت المواطن الذي يعبد البقر والآخر الذي لا يتقن كتابة اسمه.. إن أصحاب الصوت العالي لا يعطون أنفسهم فقط صلاحية إصدار الأوامر والتعليمات للشعب ومؤسساته الدستورية، بل يعلنون أنهم ليسوا في حاجة إلى انتخابات ولا إلى الحصول على ثقة هذا الشعب، وبالتالي يبدو أن المغرب اخترع طريقة جديدة..للحكم.. فهناك دستور -رغم كل ما يمكن ان يقال عنه- ومؤسسات دستورية وانتخابات وبرلمان وحكومة -رغم كل ما يمكن أن يقال في حقها-.. لكن كل ذلك لا يساوي شيئا.. وبالمقابل هناك فئات وجمعيات من حقها فرض رأيها عبر الصراخ والعويل واستدرار الدعم الخارجي.. الذي لا يتأخر طبعا، خاصة حين يكون نافذة للإجهاز على أي أمل في النهضة الفعلية وتحصين استقلالية القرار الوطني.. شخصيا، لم أفهم سر الضجة التي تثار حاليا حول بعض مواد مسودة القانون الجنائي (العلاقات الجنسية غير الشرعية، الإفطار العلني في رمضان..) وخاصة المادة 219 التي تتعلق بتجريم ازدراء الأديان، وهي قضية ناقشتها الأممالمتحدة لخطورتها، بل إن كثيرا من المفكرين الغربيين أصبحوا يثيرون هذا الموضوع، بعدما تحول إلى وقود للحركات المتطرفة، بل حتى في فرنسا التي تعتبر الإسلام خطرا وجوديا، بدأت بعض الأصوات تنبه إلى خطورة الاستمرار في الاستهتار بمشاعر المسلمين لأنها سبب رئيسي في التحاق آلاف الشباب الفرنسي بداعش.. هذه الأصوات اصبحت تتطرق علنا لمفارقة مسكوت عنها تتمثل في كون القضاء والإعلام والنخبة السياسية والفكرية تعتبر السخرية من الإسلام "حرية تعبير"، بينما انتقاد العدوان على غزة مثلا، يصنف تلقائيا ضمن خانة "معاداة السامية".. شيء من هذا القبيل يحدث في المغرب، حيث على الأغلبية الساحقة أن تخضع لابتزاز أقلية لا وجود لها أصلا سوى على شبكة الأنترنيت.. وأي منطق هذا الذي يجيز لفئة معدودة ومحدودة أن تتحدى شعبا بأكمله وتقول "نعم" لازدراء الدين و(ليس الأديان)؟ أصحاب الصوت العالي لهم تفسير هنا أيضا، يتمثل في كون المغاربة "منافقين" لأنهم يخالفون الدين في كل شيء ويدافعون عنه في نفس الوقت.. أليست هذه محاكم تفتيش؟ ولا يخفى الهدف الحقيقي من وراء هذا النوع من الضجيج المفتعل حول مسائل بعينها.. فما يريده هؤلاء هو حرب أهلية على اسس عرقية أو دينية، وهو ما يؤسسون له منذ مدة ويدفعون في اتجاهه ليل نهار.. لقد ساهموا في تكوين أجيال من المتطرفين الذين ينظرون فقط "اللحظة المناسبة" للبدء في تنزيل فلسفة التطهير العرقي والطائفي التي تشبعوا بها.. وأكبر ما يسعون إليه بعد ذلك، هو الدفع نحو فوضى غير خلاقة يصعب التكهن بمآلاتها.. لأن المهم عندهم هو إشعال الحرائق.. لقد حملت الشهور الماضية الكثير من المؤشرات التي لا تغيب خطورتها عمن يحملون هم العيش المشترك. ففي أكثر من مدينة ولأكثر من سبب تدخل الشعب بتلقائية ل"معاقبة" مواطنين بسبب ملابسهم أو ميولهم الجنسية أو تحديهم للأخلاق العامة والنظام العام وانتهاك حرمة بعض المقدسات.. كما اندلعت مواجهات دامية بين فصائل طلابية على خلفيات إثنية وقبلية.. خلفت ضحايا كثرا.. العقلاء رأوا في تلك الحوادث "المعزولة" و"المتفرقة" خطرا قادما ينبغي استباقه بفرض سلطة القانون، أما اصحاب الصوت العالي فهي بالنسبة لهم فرصة لإشعال مزيد من النيران، وبالتالي على "الدولة" أن تبقى على الحياد، إلى حين استعار النار.. ولهذا ركز هؤلاء على حق الشاذ في أن يكون شاذا، بدل أن يطالبوه بمراعاة مشاعر الأغلبية الساحقة.. هذه هي النتيجة التي يريد هؤلاء الوصول إليها، أي نار موقدة تأتي على الأخضر واليابس حتى يتمكنوا من نظم مرثياتهم على أنقاض ما تبقى من الوطن .. وإذا كان هؤلاء يمثلون أغلبية كما يقولون، وديموقراطيين فعلا كما يدعون، فلماذا لا يخوضون الانتخابات ويشرعوا القوانين التي يريدون، هم و"الأغلبية" التي تدعمهم؟ أغلب الظن أن هؤلاء مصرون على صناعة الدواعش لأنهم يمنحونهم "قبلة" الحياة، ويضمنون لهم الاستمرار في الاختباء وراء شعارات الحداثة الزائفة التي أصبحت مرادفا فقط لشرب الخمر والزنى واللواط والمس بمقومات الهوية وثوابت الأمة... وعلى فرض أن هؤلاء يحملون فعلا مشروعا قابلا للدفاع عنه، فلماذا لا يراعون مقتضى أحوال المخاطبين؟ ولماذا لا يحترمون مستويات النقاش، فهناك كلام ينبغي أن يطرح بداية في الدوائر الضيقة للنخبة، وعندما يختمر بالشكل الكافي يمكن نقله على جرعات إلى دوائر أوسع؟ وما الذي يتوقعونه من إلقاء قنابلهم الصوتية في وجه الجميع سوى ردود الفعل المتشنجة؟ باختصار، لابد أن يكون هناك أولا نقاش أفقي يدور على مستوى النخب الحقيقية التي تسعى لمصلحة بلدها وتتعاطى مع الواقع بكل تفاعلاته، يعقبه نقاش عمودي بين النخبة والقواعد للتواصل والتوضيح... وليس للإملاء وإعطاء التعليمات.. إن القانون لا يفتش في القلوب ولا يحاكم النوايا ..فمن دخل داره مع "جاريته" فهو آمن، ومن دخل حانته فهو آمن، ومن دخل دار أبي لهب للصلاة لهبل فهو آمن... لكن أن ينزل البعض إلى الشارع لتبادل القبل أو لانتهاك حرمة رمضان.. ثم يتحدث أصحاب الصوت العالي عن "حرية التعبير" و"حرية الاعتقاد" فهذه مصادرة لدور الدولة بمفهومها العصري بما هي ضامنة لتطبيق القانون الذي شرعته مؤسسات منتخبة من طرف الأغلبية.. إن من واجب الغيورين على مصير الوطن قرع الأجراس بقوة للتنبيه إلى مخاطر الطريق الذي يحاول هؤلاء جر البلاد والعباد نحوها.. أي إلى مواجهات بخلفيات طائفية وعرقية وإيديولوجية ستكون مدمرة، لن يتم قطع الطريق أمامها، إلا عبر الحسم النهائي في الخيار الديموقراطي الحقيقي، البعيد عن تقنيتي "التوافق" و"التشارك" اللتان أثبت الواقع أنهما أكبر خطر على الاستقرار، وأنهما مدخل للعرقلة ولتسلل جهات -أجنبية ومحلية-، لها أجنداتها الخاصة.. ولمن يسخرون من "نظرية المؤامرة" يكفي التساؤل هل هي صدفة أن ينشط التبشير والموساد والتطبيع في نفس المناطق التي ينحدر منها كثير من أصحاب الصوت العالي؟ https://www.facebook.com/my.bahtat