يعتقد الكثير من الساسة والمفكرين وأصحاب الرأي أن السبيل الأوحد للخروج من حالة الاستبداد والطغيان هو بناء دولة المؤسسات المرتكزة على النظام الديمقراطي في الحكم الذي يقوم على الدساتير الحرة والانتخابات النزيهة وغيرها من شكلانيات الديمقراطية. غير أن هذا المسعى السياسي المُتمحور حول دولة المؤسسات سرعان ما ينقلب إلى نظم شمولية تصادر الحريات وتلغي الدساتير وتقمع المواطنين. فقد تنبهت الكثير من المدارس الفكرية والسياسية إلى المسألة، خاصة مع قيام الأنظمة النازية والشمولية التي توسلت بالديمقراطية لبلوغ الحكم ثم انقلبت عليها خلال أيام، ليجد المواطن نفسه أمام كماشة الاستبداد باسم «المصلحة العليا للدولة» وإكراهات السياسة الخارجية والأزمات الاقتصادية، فيضحي الحاكم المُنَصب ديمقراطيا مجرد ديكتاتور مُستولٍ على السلطة إلى الأبد، حيث يغلق صناديق الاقتراع التي كانت سببا في وصوله إلى الحكم، ويجعل من المؤسسات مطية لتنفيذ أجنداته السياسية. لذلك تبنى الفكر السياسي (مدرسة فرانكفورد النقدية كنموذج) فكرة المجتمع المدني القادر على لجم قابلية تحول الديمقراطية إلى الاستبداد، فالمجتمع المدني بما هو -بدون الدخول في التفصيلات الأكاديمية- مجموعة من الهيئات والمؤسسات والفعاليات المجتمعية، القائمة على الاستقلالية عن الدولة، والمستندة إلى التطوع والإيمان بالمصير المشترك، والهادفة إلى التأثير على صناعة القرار السياسي والاقتصادي ومراقبة المؤسسات المختلفة للدولة.. نقول إن المجتمع المدني، بهذا التحديد أو بغيره، هو الكفيل بخلق نوع من التوازن بين الدولة والمجتمع، حتى لا تزيغ مؤسسات الدولة عن الطريق الديمقراطي وحتى لا يمسي الحكم بين أيدي من لا يستعمل الديمقراطية إلا مرة واحدة لكي يصل إلى الحكم ثم يوصد الأبواب في وجه غيره. إن المجتمعات لا تتكون من الأغلبية فحسب، ولكن من الأقلية أيضا، وبالتالي ينبغي احترام حقوق هذه الأقليات التي تغني المجتمع بدورها، وألا يسمح لفكرة الأغلبية بأن تطغى على فكرة الأقلية لأن ذلك يغرس بذرة العنف في المستقبل (كارل بوبر). نمهد بذلك للقول بأن مجموعة من التجارب قد برهنت على أن الديمقراطية ليست في مكان حصين ضد الاستبداد، خاصة عندما يوقع المجتمع شيكا على بياض لصالح النظام الحاكم. ونموذج ذلك ما حدث في ألمانيا إبان وصول الحزب النازي إلى الحكم من خلال انتخابات ديمقراطية حرة، إذ عمد هتلر إلى تحويل ألمانيا إلى دولة ديكتاتورية يتحكم فيها الحزب النازي، مع تهميش الشعب ونخبه وقمع المعارضة السياسية وغلق كل الأفواه المنتقدة. لذلك، نُصرّ على القول بأن الديمقراطية لا تعني محاسبة الحاكم عبر صناديق الاقتراع كل أربع أو خمس سنوات فحسب، وإنما هي مراقبة يومية لأفعال الحاكم ومؤسسات الدولة، وهي سلوك مواطني يفرق بين المصلحة العامة والخاصة، ويعلي من شأن القيم النبيلة التي تسهم في خلق جو من التضامن والوعي، فضلا عن تكريس روح الإبداع والمبادرة ونكران الذات من أجل بعث نسق من المؤسسات والاتحادات التي تعمل بصورة منظمة. ولا بد لتحقيق أهداف المجتمع المدني من فضاء عام حر، قادر على استيعاب الفئات المنتظمة مدنيا والنخب السياسية وباقي أفراد الشعب. هذا الفضاء العام -الذي أشار إليه كانط، وعرف تطوره وشهرته مع وريث المدرسة النقدية الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس- هو الذي يمكن المجتمع من إبراز مطالبه والتعبير عن تمايزاته، لأن هابرماس يعتبره بمثابة رجع صدى لجميع القضايا المطروحة للنقاش والتي لا يمكن حلها إلا من خلال المجتمع المدني الذي يمكنه من تطوير وعيه الذاتي وإحساسه بكينونته، بمن في ذلك النخب العالمة والفلاسفة والمفكرون والساسة. وعلى المجتمع المدني أن يكون واعيا بمجموعة من المحاذير؛ فهو، من ناحية، مطالب بأن يحصن ذاته من المحاولات الحثيثة التي تسعى إلى إلحاقه بالدولة ومؤسساتها وربطه بالرأسمال عبر سياسة الاحتضان والتقريب وإغداق الأموال والامتيازات، علاوة على محاولات التشتيت والإلهاء؛ ومن ناحية ثانية، يجدر بالمجتمع المدني أن يراقب ويتأكد من بعض التصرفات التي تقدم عليها مؤسسات الدولة ووسائلها الإيديولوجية، كالدور السلبي الذي قد تلعبه المدرسة ووسائل الإعلام ودور العبادة، عندما تتحول إلى أداة في يد السلطة الحاكمة، حيث تعمد هذه الأخيرة إلى أن تمرر من خلالها إيديولوجيتها التي تبث روح السلبية في المجتمع. وعلينا أن نتذكر دائما أن المجتمع المدني سمي مدنيا لأنه يدافع عن قيم المدنية المتمثلة في الحرية، بما في ذلك حرية الاعتقاد والتمييز بين رجال الدين ورجال السياسة، والفصل بين الشأن العام والشأن الخاص. ويجدر بنا التمييز في هذا المجال بين المجتمع المدني والمجتمع الأهلي؛ فقد شاع في وسائل الإعلام دمج كل الحركات والهيئات والفعالية ضمن نسق واحد يطلق عليه، تعسفا، اصطلاحُ «المجتمع المدني»، دون التمييز بين الجمعيات والهيئات التي تستهدف تحقيق المردود المادي والمعنوي لأعضائها، وبين المجتمع المدني الذي من صفاته التطوع والاستقلالية والمواطنية وعدم استهداف الربح المادي؛ فالمجتمع الأهلي لا تتجاوز أهدافه دائرة أعضائه ومنخرطيه، والحال أن الوداديات السكنية والجمعيات الرياضية والتعاونيات الاقتصادية والجمعيات العرقية والدينية التي تميز بين الناس على الأساس العرقي أو الديني، لا يمكن، بأي حال من الأحوال، أن يشملها وصف المجتمع المدني، لأن الأخير لما يتحرك يفعل ذلك من منطلق إنساني محض بغض النظر عن اللون أو العرق أو الدين أو تحقيق الربح المادي، وإنما مبتغاه الأول والأخير هو الإنسان بوصفه كائنا يستحق أن تحترم حقوقه وألا تهضم كرامته. ويمكن التمثيل للمجتمع المدني بالجمعيات الحقوقية غير المرتهنة بالزمان والمكان والإيديولوجيا، والهيئات غير الحكومية الدولية من قبيل «مراسلون بلا حدود» و«أطباء بلا حدود» (بصرف النظر عما يمكن أن يطال بعض هذه الهيئات من اختراق أو توظيف). بناء على ذلك، فما نحن بصدده يتعلق بكون الديمقراطية، بمفهومها العام، قد تسهم في نقل واقع الشعوب من حالة العبودية والاستبداد عن طريق التأسيس لدساتير تضمن الحقوق والحريات وتقيم الفصل بين السلط، وتؤسس لمؤسسات متوازنة قادرة على تنمية الواقع الإنساني من مختلف جوانبه. إلا أن ذلك وحده لن يكفي لضمان استمرار الحكم الديمقراطي ويمكن من تعاقب الأنظمة، بل إن التجارب التاريخية أظهرت أنه حتى الأنظمة التي أعقبت الثورات انحرفت عن المسار الديمقراطي. والتاريخ يسجل أن ثوار فرنسا أعدموا، ومنهم «روبيس بيير» عندما حاول السيطرة على دواليب الحكم وشرع في قمع المعارضة. كما أن التجربة الفرنسية تمكننا من استجلاء المحاولة اليائسة التي اقترفتها الكنيسة لما شجعت التمرد على حكم الثورة رغبة منها في استرجاع ما أخذه منها الثوار، وهو ما جلب عليها (أي الكنيسة) غضب الشعب الفرنسي، ونجم عنه كره الشعب لكل ما يمت بصلة إلى الكنسية. وفي هذه الظروف، اشتهرت مقولة «اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قس»، وهو ما يفسر العلاقة المتشنجة والمستمرة بين المجتمع المدني الفرنسي والرموز الدينية إلى يومنا هذا. ويقودنا ذلك إلى التركيز على قيام مجتمع مدني حقيقي يراقب الديمقراطيات الوليدة أو التي في طور التشكل في بعض البلدان. مجتمع قادر على النهوض بمجموعة من الانتظارات والأعباء الملقاة على عاتقه، ويمكن أن نكتفي بذكر بعضها: تأطير المواطنين وفق رؤية حقوقية مبنية على وعي تام بالواجبات قبل الحقوق؛ التشجيع على تنظيم المواطنين ضمن هيئات مجتمعية ومدنية قوية يطبعها التطوع ونكران الذات والتجانس وإعلاء القيم النبيلة وتكريس الفضيلة؛ خلق فكر وواقع يتركز على مبدأ المواطنة بما هي سلوك حياتي يومي ملؤه المبادرة الحرة وتقبل الآخر ونبذ التمايزات الطبقية والعرقية والدينية، لأن من أهداف المجتمع المدني توطين مبادئ الديمقراطية في ممارسة الفرد والجماعة معا؛ مقاومة أشكال الاستعمار التي تحاول سلطات الدولة فرضها على المجتمع المدني، بما في ذلك مقاومة الإغراء المادي ومحاولات إلهاء المواطنين عن قضاياهم الأساسية؛ التركيز على قيم الحضارة والمدنية والتغيير السلمي ونبذ العنف؛ كشف تحويل مؤسسات الدولة إلى أدوات إيديولوجية في يد النظام السياسي، ومن ثم مراقبة أي انحراف تقوم به المدرسة ودُور العبادة والإعلام العمومي (تفصيل ذلك نجده لدى: ألتوسير، غرامشي، دوبري)؛ العمل على مجابهة كل الأشكال المناهضة للديمقراطية أو التي تحاول التوسل بشكلانيات الديمقراطية من أجل الوصول إلى الحكم والانقلاب على المضمون الديمقراطي؛ بث الروح النقدية، لأن النقد هو المحرك الذي يبقي المجتمع في حالة غليان فكري ويقظة عقلية (كارل بوبر: في الحرية والديمقراطية)؛ الحرص على بناء الدولة المدنية المُكَرسَة وفق احترام القوانين والفصل بين السلط وضمان الحريات، يقول سبينوزا: «حرية الفكر غير قابلة للتحويل مهما فعل الطغاة»؛ وتبقى أهم الانتظارات المرجوة من المجتمع المدني هي النضال من أجل عالم تسوده المساواة وينمحي فيه التمايز الطبقي الصارخ. إن ما تطرقنا إليه سلفا لن يتأتى إلا بوجود إرادة قوية لدى المواطن من أجل التغيير، وإحساس تام بالمسؤولية وتجاوز السلبية، والخروج من وضع الرعية صوب المواطنية، وتطليق العبودية المختارة التي أحاط المواطن معصميه بسوارها، وتجنب الأنانية والمصالح الضيقة، وهجران حزب الأغلبية الصامتة، لأن الأخيرة هي أصل الداء. ومن هنا، وجب التنبيه إلى أن دفاعنا عن المجتمع المدني لا نهدف من خلاله إلى إلغاء السياسة، بما هي فعل نبيل يستهدف الصالح العام، وإنما نهدف إلى مجابهة الاحتراف السياسي. باحث في العلوم السياسية