تستعد إسبانيا بعد أيام قليلة لاختيار ممثلي مجلس النواب «Congreso de los diputados» ومن خلالهم رئيس الحكومة القادم، في انتخابات عامة، في سياقات مختلفة عن سابقاتها التي عرفتها البلاد منذ ما يربو عن 30 سنة، إذ تأتي بعد انتخابات جهوية ومحلية في شهر مايو الماضي، سطع خلالها حضور حزبين جديدين هما حزبا «Podemos» "نستطيع"، الذي تأسس في بداية سنة 2014، وحزب «Ciudadanos» "المواطنون"، الذي تأسس سنة 2006، وكلاهما حزبان حديثان صنعهما الشباب وحركتهما الرغبة في خلخلة قواعد اللعبة السياسية التي أدت بالبلاد إلى أزمة، مطبوعة بتفشي الفساد وفضائح الساسة، خصوصا من الحزبين المتناوبين على الحكم منذ 1982. فقد بوأت الانتخابات الجهوية لمايو الماضي حزب "نستطيع" وحزب "المواطنون" المرتبة الثالثة والرابعة على التوالي، إضافة إلى حيازة الأغلبية المطلقة في العديد من البلديات، لينهيا بذلك احتكار الحزبين التقليديين (الحزب الشعبي والحزب الاشتراكي العمالي) للمشهد السياسي، ويفرضا نفسيهما كحزبين بديلين. وشكلت تلك الانتخابات نهاية الثنائية الحزبية في الجهات والبلديات، إذ أخذ الناخبون الإسبان مسافة من الأحزاب التقليدية. وإن كان الحزبان التاريخيان لازالا يتصدران النتائج، إلا أنهما لم يعودا يحتكران تسيير الجهات والبلديات، إذ فسح المجال لأحزاب جديدة لصدارة المشهد الجهوي، ويعود الفضل في ذلك أساسا إلى الدور الحاسم الذي لعبته فئة الشباب. ووفق تحليل قامت به جريدة "إلبايس"، على أساس معطيات الانتخابات الجهوية السابقة، فإن خريطة الانتخابات العامة المرتقبة في العشرين من دجنبر الحالي ستفرز فوزا محدودا للحزب الشعبي، متبوعا بالحزب الاشتراكي، يليه حزب "المواطنون"، ثم حزب "نستطيع". وتشير الجريدة في تحليلها إلى أن الفروق في النتائج ستكون متقاربة بين الأحزاب، إذ إن تشكيل أي حكومة مقبلة سيخضع لمنطق التوافقات والتحالفات. كذلك أكدت استطلاعات الرأي الأخيرة، وخاصة الاستطلاع الذي قامت به مؤسسةMetroscopia ، أن الحزب الحاكم سيتصدر الانتخابات بأقل من 30 بالمائة من الأصوات، أي حوالي 25.3% التي تمثل 109 مقاعد، من حوالي 350 مقعدا مكونة لمجلس النواب، وأن الحزب الاشتراكي العمالي سيحصل على حوالي 89 مقعدا، في حين أن حزب "نستطيع" سيأتي في الرتبة الثالثة بنسبة من الأصوات تقارب %19.1. وسيكون حزب "المواطنون" رابعا بحوالي 60 مقعدا. وفي استطلاع للرأي خاص بالقيادات الحزبية للأحزاب الأربعة التي تحظى بأعلى تقدير من طرف الناخبين، قامت به مؤسسة SIGMA ، حصل زعيم حزب "المواطنون" الشاب Albert Rivera على الرتبة الأولى؛ فيما حل ثانيا Pedro Sanchez زعيم الحزب الاشتراكي العمالي، وجاء رئيس الحكومة الحالي Mariano Rajoy رابعا. وإن صحت نتائج استطلاعات الرأي، فإن ذلك سيشكل خسارة للحزبين الكبيرين، بالنظر إلى النتائج المهمة التي حصلا عليها في الانتخابات العامة السابقة، إذ حصل الحزب الشعبي على أغلبية المقاعد ب186 مقعدا بمجلس النواب في الانتخابات العامة لسنة 2011. ويرى المراقبون أن صعود الحزبين الجديدين سيكون على حساب الحزبين التقليديين، فحزب "نستطيع" سيستفيد كثيرا من أصوات فئة كانت تصوت في السابق للحزب "الاشتراكي العمالي"؛ في المقابل فإن حزب "المواطنون" ذا الشعبية الكبيرة في منطقة كاتالونيا، والذي يسوق نفسه على أنه حزب وسط، سيحاول أن ينهل من أصوات الحزب اليميني الشعبي . وتمر هذه الانتخابات في جو من الاتهامات المتبادلة بين الأحزاب المتنافسة، فقد هوجم الحزبان الرئيسان بالرغبة في الإبقاء على الثنائية الحزبية والهيمنة على المشهد الحزبي، في مقابل اتهام الأحزاب الصاعدة بمحاولة الإضرار بالأحزاب التقليدية؛ وتجلى هذا في الاتهام الذي وجهه "Pedro Sanchez"، الأمين العام للحزب الاشتراكي العمالي، إلى حزبي "نستطيع" و"المواطنون"، باستهداف حزبه من خلال حديثي زعيميهما عن كون الحزب الاشتراكي العمالي خارج السباق، ولا يمكنه اللحاق بالحزب الشعبي. وخلال المناظرة التلفزية الوحيدة التي جمعت بين زعيمي الحزبين التقليديين ليلة الاثنين الماضي، استغل المرشح الاشتراكي للرئاسة فضائح الفساد والرشوة التي مست شخصيات وازنة في الحزب الشعبي الحاكم ليحرج خصمه رئيس الحكومة الحالي "ماريانو راخوي"، الذي دافع بدوره عن حصيلة ولايته الأولى، متهما رئيس الحكومة الاشتراكي السابق "زاباتيرو" بكونه وراء الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي عرفتها البلاد. وإذا كانت كل استطلاعات الرأي تؤشر على فوز محدود للحزب الشعبي، فإن ذلك مرده على الأقل إلى النتائج الاقتصادية الجيدة التي أصبحت مؤشراتها تظهر بعد سنوات عجاف، فمعدل نمو الناتج الإجمالي الخام ل2015 يراوح 3 بالمائة؛ كذلك مؤشرات النمو تبقى إيجابية بالنسبة للسنوات المقبلة، وفي السنة نفسها تم إحداث حوالي 600 ألف منصب شغل. ويتعهد الحزب في برنامجه الانتخابي بإحداث أزيد من مليوني منصب شغل في السنوات المقبلة، وهي ورقة يدافع بها عن إنجازاته. في مقابل ذلك فإن الأحزاب الصاعدة اقترحت برامج قوية تمس تخليق الحياة العامة ومحاربة الفساد، وبرامج تخص الشق السياسي الاقتصادي والاجتماعي، والتي تجد صدى لها لدى شرائح كثيرة. فقد تعهد حزب "نستطيع" بتعديل دستوري يمس عمق التنظيم الترابي الإسباني والاختصاصات المالية للوحدات الترابية، بالإضافة إلى الرفع من الحد الأدنى للأجور وحماية الملاك من مسطرة الإفراغ التي تتهدد العديد من العائلات، بسبب تخبطها تحت ثقل القروض البنكية. في مقابل ذلك يتعهد حزب "المواطنون" بجعل كل عقود العمل غير محدودة. ويظل المشروع الانفصالي بكاتالونيا إشكالا رئيسيا وتحديا للأحزاب الأربعة، لكن هناك إجماعا رغم اختلاف الرؤى على الحفاظ على وحدة الدولة، وإن كان الحزب اليميني الشعبي الأكثر تشددا، وإعادة انتخابه على رأس الحكومة لن يكون من شأنها تحريك الملف، بل من المنتظر أن يواصل سياسة الحزم ضد مطالب استقلال منطقة كاتالونيا، في مقابل وعود ومرونة أكبر للحزب الاشتراكي، الذي وعد في لقاءات الحملة الانتخابية بنقل مقر مجلس الشيوخ إلى مدينة برشلونة، عاصمة جهة كاتالونيا، وكذلك تعديل الدستور من أجل إقامة نظام فدرالي بصلاحيات أكبر للجهات، خصوصا في ما يتعلق بالشق المالي. وفي ما يتعلق بالسياسة الخارجية، وخاصة منها العلاقات مع المغرب وقضية الصحراء، فإنه من غير المتوقع على الأقل في الأمد القريب حدوث متغيرات، رغم أن حزب "نستطيع"، ومن خلال تصريحات زعيمه، أبدى غير ما مرة دعمه لأطروحات جبهة البوليساريو. وحتى إذا كان لحزب "بوديموس" أي حضور في الحكومة الائتلافية المقبلة، فإنه من المستبعد أن يكون لذلك تأثير فعلي على تغير التعاطي مع القضية الأولى للمغرب، لعدة اعتبارات، أولها الأولوية للشأن الداخلي سياسيا أو اقتصاديا كان، ثانيا تشبيك المصالح بين المغرب وإسبانيا، والتي أضحت مصيرية للجانبين، دون أن ننسى التعاون الأمني الذي أضحى أساسيا بالنسبة للجارة الشمالية، والذي بفضله تم تفكيك العديد من الخلايا الإرهابية. وبناء على ما سبق، فإن الانتخابات العامة ستحدث تحولا مهما في المشهد الحزبي الإسباني، وستكون إعلانا رسميا عن نهاية الثنائية الحزبية وظهور أقطاب أخرى تعكس التغيرات العميقة التي تعرفها بنية المجتمع الإسباني، والتي شكل حزبا "نستطيع" و"المواطنون" أحد تجلياتها. *دكتوراه الدولة في القانون الدستوري من جامعة فالنسيا | مهتم بالشأن الإسباني