كان "الرفق في الإسلام" موضوع الخطبة التي ألقيتها يوم الجمعة 14نونبر في المسجد الذي أخطب فيه. حاولت أن أبين خلال الخطبة أهمية خلق الرفق وفضله ومجالاته، مستعينا بنصوص القرآن والسنة وبسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم. وقفت خلال الخطبة كذلك عند التحذير من العنف، مبينا مخاطره وآثاره على الفرد والأسرة والمجتمع وعلى الإنسانية جمعاء، وختمت الخطبة بأفكار واقتراحات يمكن الاستعانة بها في تربية النفس على خلق الرفق الذي ما كان في شيء إلا زانه كما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم. لاقت الخطبة استحسان الحاضرين وسألني بعضهم على انفراد أسئلة تتعلق بكيفية وطرق التخلص من سرعة اللجوء إلى العنف واستعمال القوة التي تميز طبعهم. ظننت أنني بخطبيتي هذه قد ساهمت في نشر ثقافة الرفق واللين بين بني البشر، فأمضيت بقية اليوم أشعر بالسعادة التي يشعر بها أي إنسان يحس أنه أدى عمله بالشكل المطلوب، أو حاول ذلك على الأقل. عدت إلى البيت بعد صلاة العشاء ولا زال ذلك الشعول يغمرني... فتحت التلفاز للاطلاع على آخر الإخبار كالعادة، فإذا بي أمام خبر عاجل:" سماع دوي انفجارات وإطلاق نار في أماكن متعددة من مدينة باريس!" بينما أنا أتابع مستجدات الأخبار وعاجلها الذي يحمل كل لحظة ارتفاعا في عدد القتلى، كان ذهني يسرح في البحث ان أجوبة لأسئلة حرجة جعلتني حبيس مكاني لم أبارحه لساعات، ولم أذق طعم النوم طوال تلك الليلة! ومن بين تلك الأسئلة التي باتت تؤرقني: -أين الرفق الذي تحدثت عنه أثناء خطبتي وظننت أنني سأساهم في نشره، وأنا أرى عدد قتلى الهجوم يتجاوزمائة من الأبرياء؟ -إن كان الفاعلون "مسلمين"، ماذا علي وعلينا فعله؟ هل سندين العمل وندافع ببراءتنا وبراءة الإسلام كالعادة عند وقوع هذه الأحداث ؟ أم ننهج أسلوبا آخر بعيدا عن أسلوب الدفاع لأننا لسنا متهمين، ولا علاقة لنا ولديننا كما نعرفه ونؤمن به بالموضوع؟ -لكن، كيف سيفسر الغربيون من غير المسلمين سكوتنا أو عدم إدانتنا؟...بت الليل كله أفكر في إجابات على هذه الاسئلة، إلا أن السؤال الذي كان أكثر إلحاحا وقلقا هو: -أي أثر ستحمله هذه الهجمات على واقع المسلمين واستقرارهم في الغرب، إذا تأكد أن منفذي الهجمات من "المسلمين"؟. حان وقت صلاة الصبح وأسئلتي لا تزال تراودني. قصدت المسجد كالعادة لأداء الصلاة، دخلت فإذا بقاعة الصلاة خالية من المصلين –على غير العادة- الذين تجمعوا في مكان آخر! استفسرت عن الأمر فأخبروني أن رائحة كريهة تنبعث من المسجد، يصعب معها المكوث بداخله ولو لدقائق، ولعلها رائحة غاز أو بنزين! صلينا الصبح جماعة في مكان غير قاعة الصلاة، وقبل الصلاة وبعدها كان كل الحديث الذي دار بيننا حول ما وقع في باريس وآثاره المحتملة علينا، وما إن كانت الرائحة المنبعثة من المسجد لها علاقة بالموضوع؟ بعد وقت قصير، تأكد فعلا ما كنا نخشاه، إذ تيبن أن الرائحة المنبعثة من المسجد هي رائحة البنزين الذي ألقاه أحدهم ليلا على أحد أبواب المسجد ليشعل النار بعد ذلك بغية إحراق المسجد بالكامل! شاهدنا جميعا آثار الحريق على الباب، كما التقطت كاميرات المراقبة صورا للفاعل الذي كان ملثما. لتبقى القضية الآن بيد الشرطة. وأنا أكتب هذه الأحرف وصلتني رسالة على الواتساب من صديق مفادها أن مسجدا آخر في مدينة مجاورة تعرض أيضا لهجوم. مما ينذر بسلسلة اعتداءات ستطال مسلمي الغرب خلال الفترة القادمة انتقاما لضحايا هجمات باريس! يعجز الإنسان في مثل هذه الظروف وتحت ضغطها أن يقول كل ما يريد. بل قد يعجز حتى عن معرفة وضبط ما يقول. فالكل ينتظر منك أن تقول شيئا، والكل يريد أن تقول ما يرضيه! لكن الله أحق بالرضى وأحق بالمراقبة في مثل هذه الظروف وفي غيرها. لذلك أقول: أولا، للذين يقومون بهذه الأعمال أو يباركونها أو يبررونها: إن الإسلام لا يبيح قتل الأبرياء، ونصوص القرآن والسنة صريحة حيث يقول الله تعالى:( وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين). بأي ذنب يقتل الناس وهم يشاهدون مباراة كرة قدم أومسرحية أوغيرها، بعيدين عن ساحات المعارك آلاف الكيلومترات؟ إن كنتم أبحتم قتلهم انتقاما، فإن الإسلام يحرم أخذ البريء بذنب المسيء. يقول الله تعالى: (ولا تزر وازرة وزر أخرى) ويقول كذلك: ( ولا تكسب كل نفس إلا عليها). وإن كنتم ترونهم محاربين، فإننا نعيش بين أظهرهم، ونرى غير ذلك تماما. لقد رحبوا بنا وآوونا (أعني الأوروبين) وسمحوا لنا ببناء مساجدنا وإقامة شعائرنا بمحض إرادتهم. وحينما تتعرض مساجدنا للتهديد، فإنهم يقفون خلفنا ويحمون مساجدنا! فكيف نصدق أن الأوروبيين يحاربون الإسلام وهم يسمحون له بالتواجد والنمو بين أظهرهم؟. نعم هناك حرب قائمة يبن فئة معينة من "المسلمينن"وبين الغرب. وهذه الفئة لم تعلن الحرب على الغرب فقط ،وإنما أعلنتها على الغرب وعلى المسلمين على حد سواء. كل من لا يرى ما لا يرون فهو عدو محارب يستحق القتل! ثم إن هذا الغرب الذي تستهدفونه، منحكم حق الدخول إلى أرضه والإقامة فيها بعقود أمان، وقدمتم أرضه على أنكم مواطنون مسالمون أو لاجئون هاربون! فإذا بكم تنقلوبن محاربين! أليس هذا من الغدر والخيانة، وقد نهى عنهما لإسلام؟. اسالوا أنفسكم: ماذا قدمتم للإسلام الذي تدعون الدفاع عنه؟ وماذا قدمتم للمسلمين؟ كم من آلاف المسلمين قتلوا على أيديكم؟ وكم من الملايين تركوا أوطانهم وفروا منها بسببكم؟ وكم من أهل السنة تشيعوا أيضا بسبب أعمالكم وفظائعكم؟ انظروا إلى حالة السخط العارمة بين المسلمين على أفعالكم وما يترتب عليها من تبعات تضر بالإسلام والمسلمين، وخاصة في بلاد الغرب! كم من القوانين صدرت وستصدر، وكم من الإجراءات وردود الأفعال ستحصل، كلها ضد الإسلام والمسلمين الذين تدعون الدفاع عنهم! إنكم تريدون جرالعالم إلى أحد أمرين: إما إلى حرب بين المسلمين وبين غير المسلمين، وستكون حربا عالمية لا طاقة للمسلمين بها، لا سياسيا ولا اقتصاديا ولا عسكريا! أو إلى حرب بين عموم المسلمين من جهة، وبينكم من جهة أخرى. وهذا ما سيحصل، وقد بدأ بالفعل! لقد أعلنتم الحرب في البداية على "العدو الكافر المحتل"، ثم اتسعت حربكم لتشمل "الشيعة الروافض"، ثم "الحكام المرتدين" وأخيرا "عموم المسلمين المرتدين كذلك"، فقط لأنهم لا يرون مثل ما ترون. فهل تظنون أنفسكم ستربحون هذه الحرب التي أعلنتموها ضد العالم كله؟. أريد أن تسألوا أنفسكم سؤالا صادقا: ماذا لو استعمل واستحل أعداءكم مثل أساليبكم في القتال؟ ماذا لو أصبح هدفهم فقط إزهاق أكبرعدد من أرواح المسلمين؟ بغض النظر عن سنهم وجنسهم وكونهم يقاتلون أم لا، وإنما يقتلون فقط لأنهم مسلمون، كما تقتلون أنتم الغير فقط لأنهم كفار! كم من آلاف أو ملايين الأرواح سيستطيعون إزهاقها حينئذ في دقائق أو ربما في ثوان، نظرا لقوة أسلحتهم وضعف دفاعاتكم وضعف دفاعات "الأمة "التي تدعون الدفاع عنها؟. إننا نجتمع في المساجد وفي الأعياد والأسواق وفي الحج... وظهورنا مكشوفة، فماذا لو أصبحنا "كلنا" هدفا لأسلحة هذا الغرب الذي أصبح "كله"هدفا لأسلحتكم؟. إنما ترونه من انتصارات لا يرجع أبدا إلى قوتكم، ولكن يرجع إلى أن عدوكم لا يستخدم (في الغالب) مثل أساليبكم! وأخشى إن تماديتم في هذا الغي أن يحصل هذا الأمر، وأن يوجد أو "يصنع" من بين الغربيين من يفكر مثلكم ويقاتل المسلمين كافة كما تقاتلون الغربيين كافة! ثانيا، لفئة كثيرة من المسلمين، والذين أسميهم بالدواعش المقنعين! هؤلاء الذين يعلنون رفضهم الإرهاب والعنف، لكنهم يبررون ما حصل في باريس بطرق غير مباشرة، كوصف فرنسا بالصليبية، وتذكير المسلمين بما فعهلته بهم... أقول لهؤلاء: إنني لم أقف دقيقة صمت "ترحما" على أرواح الضحايا ولم أحمل علم فرنسا وربما لا أحفظ حتى شكله وألوانه. وقد عبرت عن رفضي للهجمات بالطريقة التي تنسجم مع ديني ومبادئي. لكنني أستغرب مما أقرأه وأسمعه عن بعض الناس الذين يعلنون معارضتهم لداعش، لكنهم يتبنون نفس فكرها، وما أكثرهم مع الأسف! إننا لا ننكر ما فعلته فرنسا المستعمرة في مستعمراتها، ومنها دول مسلمة. لكن، نحن الآن تربطنا علاقات دبلوماسية واتفاقيات معها. وإذا كنا نعتبر فرنسا صليبية فلا يجوز ربط أي علاقات دبلوماسية معها! فلنحسم أمرنا إذا، ولننظر ما إن كانت فرنسا عدوا من منظور شرعي أم لا؟ إن كانت فعلا كذلك، فعلى أنظمتنا السياسية قطع العلاقات معها، بل وإعلان الحرب عليها! وعلى كل المسلمين المقيمين هناك الرحيل منها، لأنه لا يجوز لمسلم أن يقيم في بلد صليبي يحارب الإسلام والمسلمين...! والحكم على دولة ما إن كانت محاربة أم لا، ليس لآحاد الناس. إنه أمر في غاية الحساسية، وتترتب عليه إجراءات ومواقف خطيرة. لذلك لا يجوز أن يتكلم فيه إلا أهل العلم بالشرع والواقع والسياسة والمصالح! وإنني أستغرب من بعض الناس الذين بلغوا مرحلة أدنى من الإفلاس المبدئي والعلمي والفكري، فأصبحوا يبنون مواقفهم من فرنسا وغير فرنسا على آراء "جهال نكرات" انتشرت عبر اليوتوب! يسب أصحابها فرنسا والغرب عموما، ثم يعلق عليها هؤلاء بقولهم: "هذا هو الصح"، "هذاهوالمعقول"! أي هذا هو الموقف الذي يجب اتخاذه من فرنسا! أين مؤسساتنا العلمية والسياسية؟ هل كفرتم بهذا كله؟ إذا أصبحتم أنتم من يحدد الدول المحاربة والدول المسالمة، غير عابهين بمواقف المؤسسات الرسمية، فما الفرق بينكم وبين التنظيمات التكفيرية الجهادية إذا؟. ثم لنفرض أن لنا حقوقا على فرنسا، من كلف أولئك المهاجمين بالدفاع عن تلك الحقوق؟ ومن وافق على أن الدفاع يكون بتلك الطريقة، وبقتل الأبرياء؟ وهل يجيز الإسلام الانتقام من الأحفاد بجرم أجدادهم المستعمرين؟ إننا بالتركيزعلى مساوئ فرنسا والغرب بشكل عام في الوقت الراهن، نعطي المهاجمين الحق "المعنوي" في الدفاع عن الأمة وحمل رايتها، وذلك ما يدعون ويريدون! نعم، ارتكب الغرب أخطاء وربما فظائع في حق مسلمين لكن، لا ننسى أن الغرب ما دخل العراق ولا سوريا ولا ليبيا إلا بسببنا نحن، وبطلب من فئات من شعوبنا. ولا زلت أذكر حينما تأخر تدحل الغرب في سوريا، كان الكثيرون يصيحون: لماذا لا يتدخل؟ وحينما تدخل أصبحنا نلومه ونتهمه بحرب صليبية ضد الإسلام! لماذا نعطي هذا الغرب"الصليبي" الفرصة إذا؟ لماذا لا نحل مشاكلنا بأنفسنا؟ بل لماذا نصنع المشاكل أصلا فيما بيننا؟. سيقول البعض إن الغرب هو الذي صنع تلك المشاكل! وأنا اقول: مهما يكن، فنحن مسؤولون لأننا مكنا الآخر من أنفسنا، إما بجهلنا أو سذاجتنا. وفي كلتي الحالتين لا عذر لنا. فإنما رفع القلم عن الصبي والنائم والمجنون! ثالثا، أقول للذين يتساءلون لماذا جرت دموع العالم أنهاراعلى ضحايا باريس، بينما لا يهتم أحد لضحايا المسلمين في لبنانوسوريا...؟: لقد هانت أرواحنا على العالم بعدما هانت علينا! انظروا كم يسقط من القتلى في صفوف المسلمين على أيدي المسلمين! كيف ننتظر من الغرب أن يبكي قتلانا وبنوا جلدتنا "المنتسبون إلى ديننا" يفجرون المساجد والأسواق والمباني بمن فيها وعلى من فيها؟ إن الغرب لن يحترمنا إلا إذا احترمنا أنفسنا. فهل نحترم أنفسنا فعلا؟ هل لنا كرامة في مجتمعاتنا؟ وهل للنفس البشرية قيمة في مجتمعاتنا كما لها قيمة في المجتمعات الغربية؟ لكم واسع النظر...! قد يكون الكلام مرا، لكن لا ننسى أن الحق والدواء في أغلب الأحيان مر! [email protected]