لا شك أن دستور 2011 ولد في ظل الحراك العربي الذي عرفته دول عربية عديدة, في خطوة اعتبرت تاريخية للانتقال الى دولة المؤسسات , و ارواء ضمأ اغلبية الشعب المغربي المتعطش للتغيير البناء , الذي يساهم في تحسين الظروف المعيشية للمواطن المغربي. ومن النسمات التي هبت على الدستور المغربي الارتقاء بالقضاء الى سلطة مستقلة و فك اي ارتباط له مع السلطة التنفيذية يمكن أن يشكل مدخلا للتأثير عليه, كنتيجة متلازمة لما عرفه القضاء طيلة العقود الماضية من عبث السياسيين به , و الذي كان فيه وزير العدل الفلك الذي يدور حوله القضاء و يتراس المجلس الأعلى للقضاء نيابة عن الملك . ومن بين أهم المقتضيات الجديدة التي جاء بها الدستور هو حق القضاة في تأسيس الجمعيات , وهو اعتراف للقضاة بحرية التعبير والمساهمة العلنية في بناء الوطن, هذا الحق الذي عبر بشأنه وزير العدل في أكثر من مناسبة عن اسفه وعدم رضاه عن تقريره لفائدة القضاة , ليدشن عقبها حربا اعلامية على القضاة واستغلال حالات معزولة اعلاميا بغرض تشويه صورة القضاة أمام الرأي العام, وتصويرهم بأنهم أساس كل شرور الوطن, و الحال أن القضاء المغربي لم يتمتع الى غاية يومه بالاستقلال التام عن السلطة التنفيذية ليكون محل مساءلة عن الماضي القريب. و لقد كان الهدف من هذه الحرب الاعلامية الى غاية يومه حسب الظاهر من توقيتها, هو محاولة استمالة سخط المواطنين على القضاة لتمرير مشاريع القوانين المتعلقة بالسلطة القضائية في جنح الظلام , رغم ما تضمنته من مقتضيات خطيرة أقل ما يقال عنها انها انتكاسة تشريعية تهدم في العمق استقلالية القاضي التي اتى بها الدستور في محاولة للالتفاف عليه , تحت شعار تشاركية وهمية يتبرأ منها جميع الفاعلين في الحقل القضائي باستثناء وزارة العدل , فأدخلت على آخر مسودة مقتضى عجيب و غريب لم تشهد له لا الدول المتقدمة أو النامية أو المتخلفة مثيلا, و لم يكن ضمن المسودات الأولى المتتالية الصادرة عن وزارة العدل , تحت مسمى الفصل 89 من النظام الأساسي للقضاة ليصير رقمه أمام غرفة العدل و التشريع 96 و بعد ذلك البرلمان تحت رقم 97 , و الذي يتوعد القضاة بمساءلة تأديبية عند ارتكاب خطأ مسطري أو موضوعي, موجب للتوقيف حالا مع الاحالة على المجلس الأعلى للسلطة القضائية , في ضرب صارخ لقواعد المحاكمة العادلة التي من بين أسسها حق التقاضي على درجتين , تمكن المتقاضي من حق الطعن أمام محكمة أعلى درجة للنظر في ما يمكن أن يكون قد شاب الحكم خطأ مسطري أو موضوعي, و خرق للفصل 125 من الدستور الذي استوجب في الأحكام أن تكون معللة و صدرت في جلسة علنية , و الذي لم ينص على الزامية خلوها من خطا محتمل , و في خرق كذلك للطبيعة البشرية للقضاة الغير المنزهين عن الخطأ . و لقد كان التبرير الوحيد المقدم لسن هذا الفصل هو ربط المسؤولية بالمحاسبة , وهو حق أريد به باطل للعلل أعلاه , و لكون تطبيق هذا المبدأ لا يتعلق اطلاقا بالأحكام المشوبة بالخطأ التي يمكن تصويبها من قبل محكمة اعلى درجة , و لا يمكن مقارنته بباقي انواع الخطأ كالطبي الذي يلحق أدى بالمريض لا يمكن معه تداركه , أو خطأ المهندس الذي ينتج عنه وفيات في حالة انهيار مبنى أو غش فيه لا يمكن اصلاحه . لذلك فان من شأن تطبيق هذه المادة الخطيرة وأد الاجتهاد القضائي في مهده و التأسيس لقضاء مرعوب و متدبدب , يفقد معه القاضي اي مقوم للاستقلالية المنشودة . و ليست المادة اعلاه وحدها ما تلقى معارضة شديدة من قبل القضاة , فهناك الانتداب القضائي الذي هو الان بيد وزير العدل حصريا, والذي نقله بمقتضى مشروع النظام الأساسي للقضاة الى المسؤولين القضائيين, وما لذلك من فتح لمنافذ التأثير المحتمل على القضاة عوض جعله حصرا على المجلس الأعلى للسلطة القضائية للبت فيه كمؤسسة دستورية , ضدا على الدستور الذي اسس للعمل المؤسساتي حماية للقضاة من التعسف المحتمل تعرضهم له بمناسبة ادائهم لمهامهم. و لا يعتبر ذلك تشكيكا في المسؤولين القضائيين الذين نكن لهم كل التقدير و الاحترام باعتبارهم قضاة و زملاء لنا قبل كل شيء, لكن ينبغي التأسيس لقواعد قانونية صلبة تحمي استقلالية القاضي و عدم الرهان على ضمير المسؤول وحده , و التجربة العملية افرزت في كثير من الأحيان العديد من التجاوزات بخصوص الانتداب . و ما يقال عن الانتداب ينطبق على تنقيط القضاة , فعوض اعتماد نظام تنقيط مهني و شفاف يحمي القضاة من تعسفات بعض المسؤولين القضائيين , ابقى على نظام تنقيط اقل ما يقال عنه أنه متخلف , و لعل حالة قضاة محكمة الناظور خير شاهد على ذلك . و ما يجب الاعتراف به أن ظهير 1974 كان متقدما بشكل كبير على مشروع التنظيم القضائي لسنة 2015 فيما يخص تنظيم الجمعيات العامة داخل المحاكم , ففي الوقت الذي نص الظهير على أنه تجري عملية توزيع الشعب على القضاة داخل المحكمة بالاستناد الى مبدأ التصويت و ليس التعيين الذي فرض على القضاة من قبل المسؤولين القضائيين عمليا , أطل علينا المشروع ببدعة ترسخ لهيمنة المسؤول القضائي الذي سيشرف مع المكتب المؤقت على اعداد جدول الجمعية العمومية على القضاة يتضمن توزيع الشعب على القضاة و الذي لا يمكن رفضه الا بنسبة يستحيل تحصيلها تتمثل في ثلثي اعضاء الجمعية العامة للمحكمة , و هو ما يشكل تكريسا للهيمنة و فتح الباب للتحكم و اسناد شعب بحسب مزاجية المسؤول خصوصا بالنسبة لشعب معينة , مع تسجيل غياب سن اي جمعية عمومية بالنسبة لمحكمة النقض . و ما يجعل مشروع النظام الأساسي مشروعا هجينا و متفردا عن بقية مشاريع العالم, هو ابقاء مشروع النظام الأساسي لسنة 2015 على ظهير 1974 في ما يخص المدة الديناصورية لترقية قضاة الدرجة الثالثة , و هو ما ليس له اي مبرر واقعي أو قانوني غير حرمانهم من تقليص مدة الترقية المنصوص عليها في المشروع , و تراجع المشروع عن درجات الترقية المحدثة لفائدة قضاة الدرجة الاستثنائية الذين سيظلون حبيسين لمدة طويلة في نفس الدرجة دون أدنى تحفيز , فلا اصلاح منشود مع تقشف مشهود , فمصطلحات التقشف و الميزانية الى غير ذلك هو ما يواجه به القضاء دائما على الرغم من العدد القليل للقضاة مقارنة بقطاعات أخرى . و لقد كان الدستور واضحا و دقيقا في تحديد تركيبة المجلس الأعلى للسلطة القضائية, فاخرج بمقتضاه وزير العدل من تركيبته لوضع حد للتداخل في الاختصاصات بين السلط , الا أن المشروع حاول مرة اخرى ان يعيد وزير العدل لحضور جلسات المجلس الأعلى للسلطة القضائية بناء على طلبه و الذي بالمناسبة لا يمكن رفضه , في اصرار من قبل وزارة العدل و الحريات على التدخل في شؤون مؤسسة قضائية دستورية حسم مسبقا في تركيبتها. و ما يلاحظ مؤخرا هو جعل تأديب القضاة جزأ من الحملة الانتخابية و كإنجاز سياسي في كل مناسبة اعلامية , و حتى من طرف السيد رئيس الحكومة مع احترامنا لشخصه , و الحال أن التأديب هو من اختصاص مؤسسة قضائية هو المجلس الأعلى للقضاء ينوب فيه وزير العدل حاليا عن الملك فقط . لذلك فان مهندس مشاريع القوانين المتعلقة بالسلطة القضائية غلب عليه الهاجس الأمني, لمحاولة حصار القضاة و حراكهم المتواصل, مما فقد معه بوصلة التنزيل الحقيقي للمقتضيات الدستورية, و اصبح الأمر شبيها بما يصطلح عليه بتهريب التشريع , مع التذكير بأن الأمثلة المقدمة على فساد الفلسفة التي بني عليها المشروع ما هي الا على سبيل المثال لا الحصر . ان ما ينبغي استحضاره عند التشريع للقضاء أنه رسالة و سلطة ليست كباقي السلط, لذلك فلا سياسة مع القضاء , فالسياسة اذا دخلت القضاء افسدته , و نصيحتي المتواضعة أن يستحضر كل من أعضاء السلطة التنفيذية و السلطة التشريعية ضميرهم المهني و الأخلاقي و الانساني , لكونهم لا يشرعون للقضاة بل للعدل , فلا يمكن للقاضي أن يكون عادلا اذا لم تكن القوانين التنظيمية في جوهرها عادلة , و لا تنسوا أنكم قد تلجؤون الى العدالة في دعوى معينة أو طعن معين , لذلك فلا تشكوا اعطابه , و لا يضرنكم حكمه طالما لم تنصفوه عندما سنحت لكم الفرصة, ولا تزرعوا الألغام في القضاء فتنفجر في خطوات وطننا , فلا تقدم أو تنمية بدون قضاء قوي و عادل , يشعر فيه قضاته بالعدل أولا قبل أن يمنحوه لإخوانهم المواطنين . * عضو المكتب التنفيذي لنادي قضاة المغرب