يقف السيد الرايس أمام باب المدرسة الحديدي الصدئ. يقشعر جسده. يتهيب من الدخول. يدفع رجليه. يتدحرج جسده القصير داخل المدرسة. يستقبله مدير قديم، بئيس، باهت الملامح. يبتسم في شحوب. يأخذإلى داخل القاعة. يدخل 'الرايس" متوجسا. يجيل النظر في ما حوله. القاعة فارغة. مخيفة. طاولات، كراسي، مكتب مهترئ ..معلم بئيس، ضحية من ضحايا الإصلاحات الهيكلية المتعاقبة. تستمر العينان المذعورتان في مسح جدران القاعة. صور بالية، رسوم، طلاسم. تخترق العينان النافذة الوحيدة المفتوحة.. تسرح في الزقاق الطويل. تنتهي إلى بقايا حقول ممتدة. يفكر في الهروب. في القفز من النافذة. في التلاشي في الأفق البعيد. يتذكر هروبه الأول. تمر أمام عينيه صورته قبل خمسة عقود. يتذكر كيف اقتيد إلى الفصل. كيف نط من النافذة. كيف ابتلعه المجهول. يتساءل عما يمنعه من تكرار نفس التجربة. تعجبه الفكرة. يعجز جسده المترهل عن تحقيقها. يتراجع عنها. يبتسم ساخرا من طفولته القديمة. يشير إليه المعلم بالجلوس. يجلس. ينظر إلى المعلم في هلع. مصيره، مصير الرئاسة، مصير الجماعة، مستقبلها بين يدي هذا البئيس. الشهادة الابتدائية أو لاشيء. تضيع الرئاسة. يضيع الجاه، الموقع، التحكم في العباد والرقاب. ينقم على أصحاب هذا القرار المجحف. لا مفر. لا وقت للاحتجاج. يراقبه المعلم في صمت مريب. يلحظ توتره، انكماشه، ذعره. يتذكر. يقارن. يستحضر صولته وجبروته. يعلم أن الرايس في ورطة. عليه أن يحصل على الشهادة مهما كان الثمن. يبتسم. تلمع عيناه. تخطر له فكرة ماكرة. يبتسم مجددا. يتقدم المعلم نحو الرايس. يضع على طاولته أوراقا، لوازم الكتابة. يتراجع إلى مكتبه. يسيطر الهلع على السيد الرايس. تدور عيناه الصغيرتان خلف زجاجتي النظارة السميكتين. تبحثان عن منفذ. عن منقذ. عن مغيث. يجمد "الرايس" دقائق طويلة، خانقة، يحملق في الأوراق الغريبة المتناثرة. ينظر. ينظر. تتراقص داخلها الطلاسم. تتموج الألغاز. يتحداه القلم. يبدو صاروخا مدمرا. مخيفا. يرتعش. يسخن. يبرد. يرتفع ضغطه الدموي. ترتعد فرائصه. يحاول الوقوف. يعجز. تدور به القاعة. تدور وتدور. يستسلم. ينهار. يُسلم رأسه للأوراق المتناثرة. يقف المعلم "العساس" متربصا. يفحص حركات الرايس بدقة. يستعرض حالته المزرية. شريطا من الكوابيس المزعجة: ثلاجة فارغة، فواتير الماء والكهرباء، ديون متراكمة، صراخ الطفل الرضيع، مواويل زوجته التي لا تنتهي، أحلام مؤجلة. رغبات دفينة. تطل عليه الأوراق الزرقاء من خلف سترة الرايس. تتراقص أمامه الحلول. يقف متوثبا. يتقدم بخطى حذرة نحو الرايس. تكبر فكرة الانقضاض. فرصة لا تعوض. السيد "الرايس" لا يقاوم إلحاح المصلحة. يسلط نظره الثاقب على الأوراق الزرقاء مجددا. يرمقه الرايس. يبتسم في مكر. يطلب من السيد الرايس البدء في تحرير ورقته. يحجم الرايس عن الحركة. يفهم المعلم. يبادر. تمتد يده اليسرى نحو الأوراق الزرقاء. تنطلق الأنامل البيضاء في مداعبة بياض ورقة التحرير.. ينجح السيد الرايس بتفوق. يشيع الخبر في سماء الجماعة وترابها، يستعد السكان للاحتفال. تضرب الخيام. ترفع الأعلام. تضرب الخيام. تنحر الذبائح. تشتعل بناية الجماعة فرحا... تهدأ الأهازيج..تخبو الزغاريد. تجف الحناجر. يطل السيد الرايس من شرفة البناية. تطاول قامته القزمية السماء. يعم الصمت. ينطلق صوت الرايس المبحوح: " أشهد، أنا الواقف أعلاه، باسم الديموقراطية والثيوقراطية والبيداغوجية والديماغوجية، والعدالة الاجتماعية، والشفافية والنزاهة والموضوعية، والحكامة الجيدة، والهشاشة والإقصاء والتنمية، والشهادة الابتدائية، والاشتراكية والتشاركية والشراكة والشركة المشتركة، والعدل والإنصاف، والأمراض والأوبئة، والتخطيط والتدبير والتقويم والدكتوراة والباكلوريا، وكل الكلمات التي سمعتها في حياتي السياسية الطويلة، أني استحوذت على الشهادة الابتدائية بإمكانياتي الذاتية، وأني سأحصل على كل الشواهد التي تجعلني أخلد فوق رقابكم إلى الأبد. أنا الرايس. ديما ديما رايس.. " تنطلق الحناجر الخرساء: " يحيا الرايس.. يحيا الرايس" يستمر السيد الرايس في هذيانه، تستمر الجماهير في الصراخ والنباح. ينفض الحفل. يخلو الايس إلى نفسه. يستعيد لحظات إنجازه. يهنئ نفسه. يسخر من المشرع وأصحاب القرار. يستعد للنوم. يرن الهاتف، يرفع السماعة، يسمع صوتا آمرا " لا وقت للنوم. قم فدبر. فأنت الآن من حمَلَة الشهادات". يضع السماعة. يبتسم. يستعرض صور البؤساء.. عشاق الأوراق الزرقاء.