ليل طويل، رتيب. دقائق بطيئة خانقة. ثوانٍ.. أنفاس متعبة متقطعة. صمت رهيب. عينا السيد النايب المحترم جدا جدا، جاحظة. جفونه مشرعة. يحاول عبثا إغلاقها. يبتلعه ظلام الغرفة البهيم. يبحث عن النوم. يتوسل إلى فراشه الحريري. يغري جسده بنعومة الفراش. يتقلب., يتقلب. يقفز جالسا. يتسلل من تحت الغطاء الناعم. تتقلب زوجته نحو الجهة الأخرى من السرير. تجر الغطاء. تمتم بكلام غير مفهوم.. يتلمس طريقه في الظلام نحو الشرفة. يطل على الحديقة. يجيل النظر في الفضاء الناعس، في ظلال الأنوار الخافتة. يأخذ نفسا عميقا. يتلمس السكينة في العالم النائم. يظل العالم ساكنا. تدغدغه أحلام البسطاء. يعود السيد النايب إلى هواجسه. يتناهى إلى مسمعه شخير الزوجة العابث. تتراقص الصور أمام عينيه.. تستعرضها مخيلته المتعبة. كما سجلتها. تستحضر طلعة السيد رئيس الحزب المبجل جدا جدا. تستحضر حلقة رهبان الحزب من حوله متأبطين ملفات بالية. تستحضر الذاكرة المتعبة جوقة النواب البرلمانيين المحترمين جدا جدا. ترصدهم يتملون بطلعة السيد الرئيس البهية. يتوسلون تزكياته الغالية. تقف الذاكرة البالية عند اللحظة الحاسمة. لحظة توزيع التزكيات. يتذكر السيد النايب شفتي السيد الرئيس. تنطبقان. تنفرجان. تلتقط كلماته المتطايرة مع لعابه الرشاش: " عليك أيها السيد النايب أن تعود مرة ثانية إلى القرية التي أنجبتك. القرية التي رفعتك إلى المجتمع الراقي. جعلتك عينا من الأعيان. نصبتك نائبا محترما جدا جدا..كلامي لا يقبل أي تأويل أو تماطل" ينهي السيد الرئيس عباراته المقدسة. يطأطئ رهبان الحزب رؤسهم بالموافقة. لا مجال لمناقشة قرارات السيد الرئيس. يعرف السيد النايب درجة اعتزاز السيد الرئيس بالذات، من نشوة توزيع التزكيات. يصمت. يحني رأسه موافقة وانصياعا. يصحو السيد النايب من غفوته الاسترجاعية. يستجمع قواه العقلية. يقرر المغامرة. عليه أن يركب الطريق إلى القرية. تغادر سيارته السوداء رباعية الدفع المدينة النائمة. تتراءى بجانب السائق حقيبة جلدية سوداء مشحونة بالأوراق الزرقاء. تتسلط عيناه على الطريق المعبدة. تسبقه ذاكرته نحو القرية النائية. تأتيه الصور من بعيد. تنط في رأسه المشغول أشباح شباب القرية. زغاريد النسوة فرحة بفوزه الانتخابي الأخير. يتذكر سماسرته. مدراء حملاته. تتوارد إلى ذهنه خطاباته العصماء، وعوده، أكاذيبه، خداع الأوراق الزرقاء. تتسابق الأسئلة في رأسه. ماذا عساه يقول بعد هذا الغياب الطويل؟ ماذا يقول للشباب الموعودين بفرص الشغل؟ هل سيعيد وعوده من جديد؟ من سيصدقه؟ هل سيجد حديقته الانتخابية كما تركها مفروشة بالانتظارات، بالأحلام والأماني، بأغاني التنمية المستديمة؟. من يضمن له سلامته؟ من يملك القدرة على محو ذاكرة القرية المنسية؟ من يقنع الأهالي بصدق سريرته، بحسن نواياه، باستعداده الدائم لخدمة القرية وتنميتها؟ يطل على القرية. يتسرب الخوف إلى دواخله. يتصور الأسوأ. يتخيل مشهدا رهيبا. تترآى له جحافل القرويين. يحملون سيوفا، هراوى، مناجل. يصرخون. يتوعدون. يهاجمون السيارة السوداء. يحاصرونها كالذباب. تمتد السواعد عبر النوافذ. تنتشل الجثة السمينة. تنهشها الأظافر الجائعة. يصيح السيد النايب. يصرخ. يتوسل. يستغيث. تتراجع الأظافر. يسود الصمت. يتلمس السيد النايب جسده المكتنز. يتحسس وجهه. يسترجع أنفاسه. مجرد كابوس مزعج. هواجس الخوف من المجهول. اقتناع داخلي ببشاعة ما ارتكبته في حق قريته. ترجمة لما رآه في الطريق من إهمال، من تهميش وإقصاء. لا شيء يبرر هروبه، نسيانه لقريته سوى انتظار الانتقام. يقرر العودة من حيث أتي. يتردد. تستمر السيارة السوداء في السير نحو القرية، تتحدى الحفر والأحجار. يطلق بوقها عاليا. تطل الرؤوس من الأكواخ، من المقهى العتيق، من نوافذ البيوت العشوائية. يدخل القرية دخول الأبطال. تتحرك الأجساد الخائرة نحو السيارة. تتطلع العيون نحو السائق. تتأمل ملامحه. وجه معروف. ملامح قديمة فقدت علامات البؤس وتجاعيد الحرمان. يتأمل السيد النايب الوجوه من حوله. يتذكرها بعد جهد كبير. وجوه قديمة يعرفها. أشباح مغبرة. يتفرس السيد النايب في تعابير الوجوه. يقيس ترهل الأجساد. يشعر بالاطمئنان. يقرر الانقضاض. يفتح الباب. يترجل. ترتسم على وجهه المحنك ابتسامة عريضة. تبادله الأشباح الابتسام. يحمل محفظته الجلدية السوداء. يتجه في خيلاء نحو المقهى البئيس. يتبعه سماسرته ومدراء حملاته الأقدمون. تنطلق عبارات الترحيب والتمجيد. تنقشع مخاوف السيد النايب. يبدأ في النطق بأسماء الحاضرين. يسأل عن الغائبين. تحيط به جوقة الفضولين والجائعين. يفتح حقيبته الجلدية. تطل الأوراق البنكية الزرقاء. تجحظ العيون. تفغر الأفواه. يسيل اللعاب. يشيع الخبر بين الشعاب والهضاب. تأتي الوفود مهللة. تتم المقايضة: تفرغ الحقيبة السوداء. تشحن بالأصوات. تزين السيارة السوداء بالورود. يحمل السيد النايب على الأكتاف. تصحبه الزغاريد والأغاريد والهتافات إلى فرسه الأسود. يمتطيه. ينطلق في رحلة العودة.. تعود القرية إلى غياهب النسيان.