الليلة الأخيرة قبل الامتحان.. يستلقي «أيمن» على فراشه. يتوسل الراحة استعدادا لمعركة الغد. يحاول. يغمض عينيه المُصرَّتين على التحديق في الظلام. يستجدي النوم. تستعرض شاشة جفنيه شريط رحلته نحو «الباك». يستعرض سنة دراسية طويلة، مملة، مرهقة، عيد المدرسة البئيس، تهديدات الأب، مخاوف الأم، هواجس وتشجيعات الأساتذة. يكبر التحدي. يدع كل شيء جانبا. يؤجل حياته العادية. ينفر من الآخرين. يهجر صديقته، رفقاء الحي، مباريات نهاية الأسبوع، الحوارات الفايسبوكية، أفلام العنف. كل شيء قابل للتأجيل، بل ما قيمة كل هذه الأشياء بدون «باك»؟. ما قيمة الإنسان بدون هذه الشهادة العظيمة، على الأقل في عيون الحكومة المحترمة؟ كلهم تافهون: أبوه، أمه، ملايين الأطفال الذين غادروا المدرسة طوعا أو كرها، آلاف المسؤولين والسياسيين والبرلمانيين، رجال الأعمال، أصحاب القرار الذين لا يتحمل سجلهم أكثر من شهادة الحياة. من لا «باك» له لا قيمة له. «الباك» قيمة القيم، معيار التفوق، باب الترقي الاجتماعي. لكن، ماذا عن جيوش العاطلين من حملة «الباك» و«الليسانس» و«الماستر» والدكتوراه متعددة الاختصاصات. ألا قيمة لهم؟ سؤال لا يثير فضول أيمن، سؤال لا يطرحه إلا المشوشون، أعداء الاستقرار. يكبر طموح أيْمن. يختار مواجهة قدره. «الباك» قدر محتوم. الباك مصير. لكن هل يستطيع كسب الرهان، إثبات الذات بين الأقران، تحقيق حلم الأبوين المجهض؟ يزعجه السؤال. يكتشف أنه يجهل قدراته الذاتية، لا يملك غير الحماس والرغبة الجامحة، لا يملك القدرة على التحليل، على تحديد الأولويات في اتخاذ القرارات. وما كان له ليكون. لم يُبنَ من أجل هذه الغايات. لم يُمدرس ليفكر أو يحلل أو يمتلك شخصية أو رأيا أو موقفا. بُني ليستظهر، ليعيد ويجتر ويكرر، ليحرس الثوابت، ويعيد إنتاج البنيات العتيقة. الطريق طويلة، شاقة. تتطلب خبرة واسعة في اجتياز الامتحانات لا عهد له بها. يتسرب إليه الإحساس بالعجز. يكتشف أن ما راكمه عبر السنين الطويلة من معارف وتجارب لا ينفع في مثل هذه الحروب. يتردد. يفكر في التراجع. لا، مستحيل، كارثة عائلية، عار كبير أن يتراجع. عليه الذهاب إلى النهاية. ليس أمامه إلا أن يستعد جيدا، أن يسهر الليالي الطوال، أن يكتسب المهارات الملائمة. يقترضها؟ يقتنيها؟ يرهنها؟ يسرقها؟ لا فرق. كل الطرق تؤدي إلى «الباك». لكن كيف يكتسب في ظرف سنة ما عجز عن اكتسابه طوال سنين الدراسة؟ لا شيء مستحيل. تتراقص أمامه الحلول. يكتشف السوق السوداء.. سوق تعج بالخبراء والسماسرة والمهربين وتجار الامتحانات. يدخل السوق. ينبهر. تتبدى أمامه الحقائق صادمة. يكتشف عروضا متنوعة ل«الباك».. نعم، «الباك» أنواع تختلف باختلاف الزبائن والمواقع الاجتماعية والقدرة الشرائية. هناك «باك» تحمل السمة التجارية «مقبول»، وهي لحفظ ماء الوجه، تقبل عليها الفئة العريضة من الزبناء، وتسمح لحامليها بالتكدس سنتين على الأكثر في مدرجات الكليات، ثم ينسحبون بمحض إرادتهم ليذوبوا في عالم الضياع الفسيح. يسمح هذا النوع من «الباك» للسلطات التعليمية بالتباهي بنسبة الناجحين، وإفراغ الكراسي لاستيعاب الأجيال الموالية؛ يسمح للآباء بتبرئة الذات وتجنب انتقادات ونظرات الجيران؛ يمنح حامله صفة العاطل المتعلم، المتمتع بحق الإقصاء الذاتي.. شهادة ترضي جميع الأطراف. لا يتلاءم هذا العرض وطموحات أيمن. يتفحص النوع الثاني الحامل للعلامة التجارية «مستحسن».. شهادة تمكن حاملها من حجز موقعه في قاعات الانتظار المختنقة. تفقد قيمتها مع ارتفاع أعداد المنتظرين وضيق لوائح الانتظار. عرض مقبول. في المعرض «باك» آخر لا تسمح به إمكانيات أيمن.. «باك النخبة» ذو المعدل العالي، ثمنه كبير ونفعه كثير.. باك محجوز. مكتوبة عليه أسماء أصحاب الحظوظ الوفيرة لاحتلال مقاعد الأقسام التحضيرية والمدارس العليا.. مقاعد مختومة بالشمع الأحمر، لا يدخلها أمثال أيمن. يكتفي أيمن بهذه الجولة. يُعرض عن الجناح المخصص ل»باكات» البعثات الأجنبية. يقرر أن يجد له مقعدا في قاعات الانتظار. يقتنع الأب. ترضخ الأم. يركب أيمن المغامرة. ينطلق العداد. تنطلق المسابقات الماراثونية.. حصص دراسية عمومية، مدارس ليلية خصوصية، دروس منزلية خاصة، طلاسم، جداول، خلاصات ملخصة. تستهويه السلع المعروضة. ليست في السوق تربية، ليس في السوق تكوين أو تطوير للذات والمهارات. في السوق، يجد الزبناء كل الأسئلة والإجابات السابقة، كل الحيل والأساليب والثغرات. على الزبون فقط أن يحسن التسوق، ويختار الماركات الجيدة. امتحانات الباكلوريا في منظور خبراء السوق لا تعدو أن تكون تكرارات مبتذلة، يسهل التنبؤ بنوع أسئلتها واستباق أجوبتها دون حاجة إلى الغش أو إلى معارف أو تكوينات مجردة تعوق جودة الأداء. يتقلب أيمن في فراشه. يتذكر المغامرة بكل تفاصيلها. تتعبه الذكرى. يستسلم للنوم. تتجاذبه الكوابيس «الباكوية» المُرهبة. تتصارع في مخيلته السينات والصادات واللوغاريتمات، وقواعد العروض، وسنن غسل الميت، ومياه دلتا النيل، ومعاهدة فرساي، واقتصاد اليابان. يقاوم. يقاوم. يتقلب في فراشه. يغفو. يتراءى له أبوه في صورة وحش متعدد الرؤوس. يسمع صراخه المسعور. تتراءى له أمه باكية منتحبة منزوية في مطبخها. تتلاحق أمامه مشاهد حصار مركز الامتحانات، البوليس، العساكر، العربات المصفحة، كلاب الحراسة، أجهزة المراقبة. يشاهد الوزير في لباسه العسكري الميداني، عبر الشاشة الكبرى المنصوبة داخل ساحة المركز، يطوف بمروحيته على المراكز والقنوات التلفزية، يتوعد ويتهدد الغشاشين والنصابين ومهربي الأسئلة وأعداء الوطن. يتقلب أيمن. يشاهد السيوف، المواجهات العنيفة، الدماء، الاعتقالات، الزنازين. يرتعب. يفكر في الهرب. يقفز من النافذة. يتسرب كالجرذان من سراديب المركز. يجد نفسه راكضا في شوارع المدينة. يراوغ السيارات المجنونة. يقف أمام باب المؤسسة. ينظر إلى الحشد الجماهيري حوله. يتعرف على بعض الوجوه. يرفع رأسه إلى أعلى، إلى سبورة النتائج. يستعرض الأرقام. رقمه غير موجود. يتسمر في مكانه. غير عابئ بما حوله من مشاهد عبثية. ينسحب الحشد. يمكث أمام السبورة وحيدا. يستعيد الأرقام. يرفض الحقيقة. يحتج. يصرخ. يصرخ. يتعالى صراخه. يفتح عينيه. يجد أمه جالسة إلى جانب فراشه مرعوبة. يصرخ وكأنه لازال في حلمه. «ماما. ماما. اسقطت أماما». تبتسم الأم باكية. تضمه إلى حضنها الدافئ. تهدهده بوداعة: «لا أو ليدي. راك غير تتحلم». يسترخي أيمن في حضن أمه. يستولي على الأم إحساس رهيب. تداعب خصلات شعره المبتلة عرقا. تبتهل. تتمنى لو تكون ظروف الامتحان عادية، هادئة، أرحم من إرهاب الكوابيس.