دخل السيد 'الرايس" إلى قاعة الامتحان كئيبا. كانت القاعة فارغة.. طاولات، كراسي، مكتب مهترئ خلفه معلم بئيس، تبدو عليه مخلفات التقويمات الهيكلية والبرامج الإصلاحية المتعاقبة. جال السيد "الرايس" بعينيه المذعورتين ماسحا تلك الطلاسم والصور البالية، ..اخترق نظره النافذة الوحيدة، تراءت له الأزقة والدروب وبقايا حقول. تمنى لو يقفز إلى الخارج، ويطلق ساقيه للريح، كما فعل منذ خمسين عاما، بعد أن اقتيد إلى الفصل مجبرا، ففر بعد ساعتين ولم يعد أبدا. كان الفرار مقبولا.. كان طفلا نكرة، منبوذا، مكانه الطبيعي دفء الشوارع ومتاهات الأزقة الضيقة، وزاده المعرفي الوحيد حلقات الساحة الكبرى.. كان الفرار متعة وتحديا لجمود المدرسة وواجباتها ورتابتها.. أما اليوم فلا مجال للفرار. أيفِرُّ وقد أصبح، في غفلة من الزمن، ومن العيون المتربصة أو المراقبة، واحدا من زمرة الأعيان، ورمزا من رموز السلطة والثراء؟. هل يتخلى عن طموحه وعجرفته ويجتاز امتحان الشهادة الابتدائية إذعانا للقانون، وهو الذي أدمن احتقار القوانين، وتسخير حاملي الشهادات؟.. لم يكن يتصور أن أن توقظه ورقة صغيرة من أوهامه وإحساسه المفرط بالذات، وتجعله حديث السمار والحاسدين والحاقدين.. من كان يصدق أن شهادة تافهة تقف في وجه من تنحني أمامه الرقاب، وتبسط الموائد، وتُحل ألغاز الصفقات ودهاليز الإدارات ..لكن ولحسن حظه أو لتهافت النصوص، اقتصر الأمر على المجالس المحلية، ولم تمتد تلك الشهادة اللعينة لتزعج قيلولاته الحصينة تحت قبة البرلمان، أو تحد من نفوذه في الهياكل الحزبية، مادام سخيا بماله وصوته ونفوذه؟. ومع ذلك لا يمكن للسيد "الرايس" بأي حال من الأحوال أن يتنحى عن رئاسة الجماعة بعد التضحيات الجسام. لا مفر إذن من المغامرة والعودة مكرها إلى طاولات المدرسة، واجتياز الامتحان والحصول على الشهادة الملعونة. جلس السيد "الرايس" ممتعضا، وعيناه الصغيىرتان تخترقان النظارتين السميكتين في هلع بحثا عن منقذ أو إغاثة أو بديل. مكث دقائق طويلة، خانقة، يحملق في الأوراق الغريبة المتناثرة على الطاولة، ويعيد النظر في ما يتراقص داخلها من طلاسم وألغاز. بدا له القلم المسدّد إلى وجهه صاروخا مدمرا.. ارتفع ضغطه الدموي، وارتعدت فصائله، وأوشك على الانهيار.. في الزاوية المقابلة جلس المعلم "العساس" متربصا، يتحين الفرصة لينقضّ، وينتزع ما يسد به ثُقبا من ثقوبه المعيشية الغائرة. مر أمام عينيه شريط من الكوابيس المزعجة: الثلاجة الفارغة، فواتير الماء والكهرباء، الديون المتراكمة، صراخ الطفل الرضيع، مواويل زوجته التي لا تنتهي، أحلام ورغبات دفينة.. لا مجال للتراجع أو الإنصات إلى الضمير والشعارات البالية. هذه فرصة لا تعوض، والسيد "الرايس" كما يعرفه لا يقاوم إلحاح المصلحة. كبرت الفكرة في رأسه، دفعته إلى الحركة، اقترب أكثر فأكثر بخطى ثابتة.. وقف، سلط نظره الثاقب على الأوراق الزرقاء المطلة من جيب الرايس قصدا.. وقع في المصيدة. ابتسم العساس، ابتسم الرايس، وانطلقت الأنامل تملأ بياض ورقة التحرير.. انتشر الخبر كالبرق في سماء الجماعة وترابها " الرايس نجح، الرايس نجح"، اجتمع الرجال والنساء والأطفال، وجاء شبان غلاظ شداد يجملون الرايس على الأكتاف، رفعت الأعلام، وضربت الخيام، ونحرت الذبائح، واشتعلت الجماعة فرحا. وبعد أن هدأت الأهازيج وانطفأت الزغاريد، وجفت الحناجر من كثرة الصياح والأمداح، وقف السيد "الرايس" فوق الأكتاف، يطاول السماء، وأخذ يهذي بخلطة خطابية، ظل يراكم كلماتها، لا يعرف لها معنى ولا سياقا، إلا أنها تصدر عن أصحاب الشهادات. وبعد أن بسمل وحوقل، تابع بصوت مبحوح " باسم الديموقراطية والثيوقراطية والبيداغوجية والديماغوجية، والعدالة الاجتماعية، والشفافية والنزاهة والموضوعية، والحكامة الجيدة، والهشاشة والإقصاء والتنمية، والشهادة الابتدائية، والاشتراكية والتشاركية والشراكة والشركة المشتركة، والعدل والإنصاف، والأمراض والأوبئة، والتخطيط والتدبير والتقويم والدكتوراة والباكلوريا، أشهد أني حصلت على الشهادة بجدارة واستحواذ، واشهد أنني السيد الرايس، وديما ديما رايس، وحتى بعد الموت، ولن تخيفني الامتحانات. ".. استمر السيد الرايس في هذيانه لا يعي ما يقول، واستمرت الجماهير تهتف بحياته في هستيرية منقطعة النظير. وبعد أن انفض الحفل، وانصرف الجميع، واختلى السيد الرايس بنفسه، أخذ يستعيد اللحظات العصيبة من يومه الطويل، ويهنئ نفسه على النجاح المسروق، ساخرا من عبثية القرار وصاحب القرار. رن الهاتف، رفع السماعة، وجاءه القرار الأخير: " لا وقت للنوم بعد اليوم، عليك أن تقوم بإعداد مخطط للتنمية.. لا تنماطل. أنت الآن فاعل أساسي في التنمية.. قم فدبِّر، فأنت الآن من حمَلَة الشهادات.