هذه حكاية ابراهيم جاريفي حارس المرحاض بدرب السجن أو الحبس، الذي يعيش الدرجة الصفر لفقر له لون وطعم ورائحة، فقد الابن الاول ثم الثاني ومهدد وباقي أفراد عائلته بالموت على أنقاض درب الحبس! "فبراير.كوم" تأخذكم مع الزميل محمد دهنون إلى سراديب المعاناة في المدينة القديمة بآسفي. في صباح من صباحات آسفي الغارقة في روتينيتها، وصل الخبر الأول إلى سمع ابراهيم جاريفي الأب الذي يشتغل حارسا و"مسؤولا" عن ثقب يسمونه مرحاضا عموميا بباب الشعبة: لقد صدم القطار المتوجه من الميناء إلى المركب الكيماوي الإبن الصغير اسماعيل .. كانت الصدمة قوية، لم يتردد التدخل الطبي في بتر رجلي الصغير اسماعيل أو القرد البشري كما كان يسمونه أقرانه في المدينة القديمة لآسفي.. "بيجّو" القرد البشري الذي كان يجوب المرسى صباحا.. يضاحكه الرّياس ( قباطنة مراكب الصيد التقليدي) ..وينفحونه خبزا أو سمكا مشويا ويطلبون منه الابتعاد.. لكن كان لإسماعيل دائما رأي آخر. الانسلال بين الأرجل وصناديق السردين لعبته المفضلة التي يتقنها بامتياز. كان الصغير مهتما فقط بما ستطحنه فكاه ويتذوقه لسانه الأبيض والخارج من فمه على الدوام .. كما كنا نراه .. بيجو أيضا تعايش مع إعاقته وحَوّل الركض والجري إلى يديه وكتفيه.. بسرعة غريبة وطراوة ملحوظة في جسمه الصغير .. كان يخترق كل الأماكن والثقوب الصعبة في مرسى آسفي وقصر بحرها البرتغالي .. وكان لا يأبه ل"صاحب دعوتو" كما يقال .. أي القطار الذي بتر رجليه وتسبب في إعاقته الدائمة.. رحمه الله .. لقد كان يقلده ويرفع عقيرته بالصياح كلما مرت الماشينة ذاهبة أو عائدة .. في ضحك وابتسامة وأسنان بيضاء وعيون بلهاء مفتوحة على المجهول. عندما يتحدث الرسميون عن محاربة الهشاشة والإقصاء الاجتماعي، يضحك الفقر ساخرا من الكلام الرسمي! الواقع أقوى بكثير من التصريحات والأرقام، والحالات الإنسانية التي تعيش تحت عتبة الفقر أكبر علامة وبصمة على فشل السياسات العمومية في إدماج المهمشين والمقصيين. مناسبة هذا الكلام مرتبطة بحال أسرة فقيرة في المدينة العتيقة بآسفي، تحالف عليها الزمن وضيق ذات الحال والمرض والنحس أيضا، ليحيل حياتها وحياة الأب والأم والأبناء إلى جحيم يومي .. يبدأ بالجوع وينتهي عند المستشفى ثم المقبرة ..!
"بابراهيم "حاكم" المرحاض.. أب بيجو أو اسماعيل الذي يمشي على يديه. هو حارس المرحاض والسيارات الذي لم يتسن له نيل أي حظ من التعلم، أما زوجته فتقتات وتتسول بضع سردينات في الميناء بشكل يومي وتبيع الأكياس البلاستيكية أو كما تعرف ب"مولات الميكا" طامعة في دريهمات تغلق بها الأفواه التي تنتظرها في الخربة الموجودة في درب الحبس بنفس المدينة القديمة، التي يتحدثون اليوم عن هيكلتها وإعادة ترميم معالمها التاريخية.. والتي قدمت في مشاريع وماكيطات وأموالا مرصودة واعدة للملك محمد السادس في إحدى زياراته إلى المدينة .. لم يظهر منها لحدود اليوم سوى أخشاب وشمسيات وبضعة مصابيح وحيطان مكشوطة بالتوفنا والتراب الأصفر وأحجار مرصوفة في بعض الأزقة.. هذه الأسرة التي رزئت في وفاة إسماعيل الذي صدمه القطار بعد إصابته مرة ثانية بحمى شديدة .. لم يمهلها الحزن والموت وقتا طويلا، وعاد ليداهم ابنا آخر أصغر من الفقيد الأول.. هو عبد الرحيم الصغير ذي الوجه الطفولي المألوف لدى بحارة آسفي الذي كان يأتي إلى المرسى .. لا يسرق ولا يشتم.. بوجه أسمر بشوش يطلب فقط ما يأكل .. هو الآخر رحل إلى دار البقاء! بدأت مأساة رحيله المبكر بصديد بسيط في قدمه.. ليحال على المركز الاستشفائي الجامعي ابن رشد، ومن هناك نقل جثة هامدة إلى مقبرة آسفي.
السلطة التي تكره الفقراء.. با إبراهيم الفقير المعدم وبدزينة من الأولاد وبيت آيل للسقوط ووضع اجتماعي مزري وقاتل يقف اليوم أمام سلطة آسفي وبلدية آسفي .. راسل كل المسؤولين من أجل تسجيله في لوائح الذين سيستفيدون من السكن الاجتماعي والتعويض عن "المغادرة الطوعية" لمنازل المدينة القديمة في إطار مشروع الهيكلة العظيم ..!..لكن كل هؤلاء كان لهم رأي اخر هو التجاهل المعيب والمقيت.. الولوج إلى المدينة القديمة له أبواب عدة .. لكن كل تلك الأبواب تفضي إلى التهميش والعدوانية والبطالة والانحراف والتوترات، التي تطبع تفاصيل عيش وحياة هذه المدينة العتيقة بآسفي التاريخية .. في درب الحبس حيث يوجد منزل با براهيم الذي وصلناه عبر تعرجات يعرفها ويحفظها أبناء المدينة، هو حفرة حقيقية بدون أي شروط للعيش، أثاث يشبه الأثاث .. وحياة تشبه الحياة..والخلاصة..وضعية لا تشتهيها لعدوك.
..وتستمر المعاناة بدرب الحبس
العساس الفقير الذي تعرفه كل اسفي ومدينتها القديمة بفضل "حكمه" الذي طال لسنوات على مرحاض عمومي يوجد في خاصرة تل الخزف التاريخي، زارنا أكثر من مرة وطلب منا كصحافة نشر معاناته بأدب جم وهدوء مدهش.. خصوصا عندما ينخرط في سرد معاناته مع الموت والمرض والجوع .. غريب أمر بعض البشر ..وقوي صبرهم أيضا!! "راني كتبت لكلشي ، الوالي والرايس ديال البلدية .. حتى شي واحد ما جاوبني، غير تا نقدر وصافي، عايشين بوالو والحمد لله، دابا باغي غير فين نتسترو مع ولادنا، ولينا خايفين تطيح علينا الدار في أي وقت .. الله يرحم الوالدين إلى ما كولوها ليهم". ذاك جزء من كلام طويل قاله الرجل وصرح به وأمدنا برزمة من شكايات زارت مكاتب المسؤولين ودواوينهم، لكن يبدو أنها استقرت بالأدراج الباردة، أما مسلسل حديثه عن موت ابنيه والإهمال الذي لاقاه في المستشفيات فيصلح كسيناريو في فيلم درامي حقيقي. حالة با ابراهيم وأسرته لا تتطلب الكثير من الفلسفة والفهم .. والكلام الكبير والفارغ والتحجج بالمساطر والقوانين والإشكالات العقارية.. حالة هذا الفقير تتطلب الحسم وقليلا من الإنسانية .. غدا سيسقط ما تبقى من سقوف خربة با ابراهيم، وبدل أن يفرح بسكن جديد لسلالته .. ربما سيموت من يموت وسيعوق من تبقى من أبنائه وبناته.. فقط لأن السلطة وأجهزتها لا تحب الفقراء والمعدمين..!..