لا يزال البعض مصرين على إلصاق تهمة الدعوة إلى الثورات والفتن؛ ببعض العلماء {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} [الأحزاب: 39] وهو الوتر الذي يعزف عليه اليوم بعض المغرضين والجاهلين الذين ساءتهم زيارة الشيخ الدكتور محمد العريفي للمغرب .. وأداء لواجب البيان ودفعا لمحاولات التلبيس أؤكد ما يلي: 1 الثورات وما رافقها من فتن ودماء قضاء وقدر أولا وقبل كل شيء .. وإذا كانت هذه مسلمة إيمانية معروفة؛ فإن ما يتعين بيانه هو أن عامة التقارير والدراسات أكدت بأن ثورات الربيع العربي لا يقف خلفها أشخاص بعينهم، وأن من يفسرها بنظرية المؤامرة؛ فإنه ينسب مخططها للدول الإمبريالية التي يرى أنها دبرت الثورات لصنع خريطة جديدة توسع فيها نطاق هيمنتها .. 2 وبالإضافة إلى تلك المعطيات؛ فإن رصد الأحداث وتتبعها؛ يؤكد بأنه لا يعرف عالم من علماء الإسلام؛ خطط أو نظر أو دعا لأي ثورة من ثورات ما سمي بالربيع العربي .. وبناء عليه فلا يصح اتهامهم بالتحريض على الخروج على ولاة الجور، وأنهم فعلوا ذلك ولم يقدروا المآلات ولم ينظروا بعين الحكمة إلى العواقب؛ فتسببوا في فساد أكبر من فساد حكام الجور .. ونحو ذلك من المزايدات والاتهامات التي يحاول البعض أن يغطوا بها قلة علمهم وضعف فقههم، وعجزهم عن مواكبة الأحداث بمواقف شرعية تتوخى الحق والعدل وتخفيف حجم الفتن والمفاسد .. كما قال شيخ الإسلام: "ليس الفقيه من يعرف الحلال والحرام، ولكن الفقيه من يعرف خير الخيرين وشر الشرين". 3 كل العلماء الذين تكلموا أو اتخذوا مواقف في تلك الثورات؛ فعلوا ذلك -في حدود علمي- بعد اندلاع نيرانها واشتداد فوران بركانها؛ وقيام بعض حكام الجور والاستبداد بمواجهتها بالعنف والبطش وسفك الدم الحرام .. فلما بلغت الأحداث هذه المرحلة؛ كان العلماء بين خيارات: - إما السكوت والغياب وإخلاء الساحة لدعاة الشر والفساد، وتمكين المستبدين من العودة إلى استبدادهم بشكل أكبر وأخطر .. وهذا منكر يتنافى مع ما أوجبه الله عليهم من بيان الحق وتمييزه من الباطل، والسعي لتخفيف الشر وتكثير الخير. - وإما الصدع بالباطل؛ كجعل المبطل محقا والمحق مبطلا، والظالم مظلوما والمظلوم ظالما، وتسمية الأشياء بغير أسماءها، والتلاعب بالأحكام الشرعية؛ كتأكيد حكم تحريم الخروج على ولاة الجور والاستبداد حين يكون الحاكم هو القذافي أو بن علي أو علي صالح .. وتغييب هذا الحكم الشرعي حين يكون الحاكم هو مرسي وجماعة الإخوان! وهذا منكر أعظم من منكر الساكتين الخاذلين .. - وإما الصدع بالحق ونصرة المظلوم، مع الحرص على تخفيف آثار الفتن التي وقعت سلفا، قدر المستطاع؛ وهذا هو الواجب شرعا: قال الإمام النووي رحمه الله: "اختلف العلماء في قتال الفتنة؛ فقالت طائفة: "لا يقاتل في فتن المسلمين وإن دخلوا عليه بيته وطلبوا قتله فلا يجوز له المدافعة عن نفسه لأن الطالب متأول"، وهذا مذهب أبي بكرة الصحابي رضي الله عنه وغيره. وقال ابن عمر وعمران بن الحصين رضي الله عنهم وغيرهما: "لا يدخل فيها، لكن إن قُصِد دفع عن نفسه"، فهذان المذهبان متفقان على ترك الدخول في جميع فتن الإسلام. وقال معظم الصحابة والتابعين وعامة علماء الإسلام: "يجب نصر المحق في الفتن والقيام معه بمقاتلة الباغين؛ كما قال تعالى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي}[الحجرات/9] الآية، وهذا هو الصحيح. وتُتَأول أحاديث (اعتزال الفتن) على من لم يظهر له المحق، أو على طائفتين ظالمتين لا تأويل لواحدة منهما. ولو كان كما قال الأولون لظهر الفساد واستطال أهل البغي والمبطلون والله أعلم"اه ومن الحق الذي بينه العلماء المصلحون: 1 أن الأصل حرمة الخروج على ولاة الأمر؛ والمشروعية استثناء في الفقه الإسلامي وبهذا الاستثناء أفتت دار الإفتاء في ليبيا؛ لما دعت لمواجهة بطش القذافي بالسلاح دفاعا عن النفس والعرض .. وهذا من سبل مقاومة الفتنة، وليس دعوة إلى الفتنة .. والمفاسد واردة في كل الأحوال؛ فالمطلوب هو تقدير ما يكون به تقليل حجمها وتخفيف آثارها السلبية على المستوى القريب ورفعها كلية على المستوى البعيد .. ولا شك أن من مظاهر الفوضى العلمية والبلبلة الفكرية؛ أن نرى طالب علم شبعان متكأ على أريكة المناسبات والأعراس؛ يتجشأ ألوان الطعام الشهي، ويطيب لحيته بالطيب الفاخر -وهذا حلال لمن كسبه بطريق مشروع-؛ وفي حال السراء هذه يقوم ليهاجم عالما فقيها من حجم العلامة الغرياني ويعتبره من دعاة الفتنة .. مع أنه لا يدانيه علما ولا فقها ولا اطلاعا على واقع بلده ومعرفة بخباياه! 2 وفي المقابل: هناك دول يتأكد فيها الحكم الأصلي (تحريم الخروج)؛ لعدم قيام المقتضي الشرعي المبيح للخروج، بل الحكم الأصلي يتأكد فيها لاعتبارات يعرفها أهل الفتوى؛ ومثال ذلك: الواقع المغربي الذي لا مجال لمقارنته بواقع دول الثورات .. كما أن تأكد الحكم ينطبق على الرئيس مرسي في مصر؛ بكل المعايير الشرعية والديمقراطية .. وهنا يظهر اتباع الهوى عند بعض هؤلاء؛ حيث ينتفضون لإنكار مظاهرات المظلومين والمقهورين، ويعتبرونها خروجا وفتنة، ولا يقولون الشيء ذاته عن خروج السيسي على ولي أمره الشرعي! 3 الأنظمة العربية الظالمة المستأثرة المستبدة هي المتسبب الأول في اندلاع الثورات وفتنها وبناء عليه؛ فإن حل الأزمة السياسية في بلاد الثورات يبدأ برفع مظالم تلك الأنظمة، وإرجاع الحقوق لأصحابها؛ مصداقا لقول الله تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} فهذا من الحق الذي يجب على العالم أن يبينه ويدعو إليه؛ وعجبا لمن ينكر هذا الحق ويستدل بحديث: "ولو أكل مالك وجلد ظهرك". وهذا من مظاهر التعالم وتطاول أنصاف المتعلمين الذين يستدلون بجزء من أدلة الباب ويغضون الطرف أو يجهلون أجزاء لا يكتمل الحكم الشرعي إلا بها؛ مما يجعلهم يحرفون أحكام الله ويظهرونها بخلاف ما هي عليه؛ ومن أجل تفادي هذه الزلة نص العلماء على حرمة الإفتاء في مسألة لمن لم يعرف ما يتعلق بها من أصول وإجماع واختلاف، ولا يكفي أن يكون حافظا لبعض نصوصها .. 4 هناك دول وصلت فيها الثورات والفتن إلى نقطة اللاعودة؛ وليس لشعوبها خيار سوى المضي في الثورة؛ لأن النظام سيعمل على الانتقام منهم واستئصالهم في كل الأحوال؛ ولو وضعوا السلاح لكان تمكنه منهم أكبر وأشد مما لو قاوموه .. وما مثل من يلوم هؤلاء إلا كمثل من رأى رجلا يتنزه في حديقة الحيوانات؛ فهاجمه أسد اخترق الحاجز .. فجعل الأول يلومه ويقول له: لماذا اقتربت من الأسد؟! وكان الواجب أن يقفز على ظهر الأسد ويلتف على عنقه بقوة، ويتحمل شيئا من الأذى تخفيفا لاحتمال وقوع موت الأول .. وإصابتهما بجراح أخف فسادا من موت أحدهما .. فإن لم يفعل فلا أقل من أن يبادر للإتيان بالحارس المسلح .. أما الجبان والأحمق؛ فيصرخ في وجه الضحية؛ ويقول له: "هذا جزاء من يحوم حول الأسود، كان عليك أن تكتفي بمشاهدة البط والإوز وتأكل من لحمها الطيب اللذيذ كما أفعل أنا"! مع أن أكل حيوانات الحديقة ممنوع قانونا .. لكن بعض الدعاة وأشباه العلماء لا يتورعون من أكل ما لا يحل لهم (كما هو حال علماء السوء في مصر الذين يأكلون الفتات الذي يلقيه لهم العسكر الظالم المستبد في مقابل إفتاء جنوده بمشروعية قتل المعارضين له). إن حال بعض الدعاة والوعاظ مع الشعب السوري الجريح والعلماء الداعين لنصرته؛ أشبه ما يكون بحال الرجل الثاني في الحديقة؛ يحملونهم مسؤولية المأساة التي لا حيلة لهم فيها، ولا حول ولا قوة! إن وصول الوضع السوري إلى نقطة اللارجعة؛ جعل عامة العلماء والفقهاء يفتون بوجوب دعم الثوار ونصرتهم ضد الطاغية المعتدي؛ وهو موقف الشيخ العريفي .. بل هو الموقف الرسمي لدولته (السعودية) ولهيئة كبار علماءها .. وهو موقف دول الخليج التي هي أكثر الدول تأثرا بالواقع السوري وإفرازاته .. بل هو موقف كل أحرار العالم وشرفاءه من المسلمين وغير المسلمين، ومن العلماء وغير العلماء .. وقد عقدت لذلك مؤتمرات دولية؛ كان أحدها عندنا في المغرب. فما ذنب الشيخ العريفي؟ ولماذا يلام دون مئات العلماء والسياسيين والمثقفين وعموم المهتمين؟؟ إن الشيعة المغاربة الذين يهاجمونه اليوم، ويتهمونه بالإرهاب بسبب موقفه؛ يغالطون ويلبسون .. وهنا يحق لنا أن نطالبهم بتوضيح موقفهم من جرائم النظام السوري وداعميه؛ وفي مقدمتهم إيران وروسيا: فإن قالوا: نحن مع إيران وروسيا في دعمهما للنظام؛ فقد كشفوا خبثهم وركونهم إلى الذين ظلموا .. وإن قالوا: نحن مع الشعب السوري ووجوب دعمه ونصرته حتى يتحرر من طغيان وبطش النظام؛ فقد وافقوا الشيخ العريفي! وَمِمَّا يتعين إنكاره في هذا السياق: الموقف المخزي لبعض الشيوخ والدعاة الساكتين عن واجب الدعوة والتحريض على نصرة الفلسطينيين في جهادهم لليهود؛ وهذا السكوت في نظري أخبث من سكوت كثير من الأنظمة السياسية التي خذلت المقاومة الفلسطينية .. وهؤلاء هم أنفسهم الذين يصطادون في الماء العكر؛ ويحاولون تحميل مسؤولية فتن الثورات للعلماء الربانيين والدعاة الصادقين؛ من أمثال: العريفي والطريفي من السعودية، وبكار والعرعور من سوريا، وحسان والحويني من مصر، والصادق الغرياني في ليبيا، والريسوني ورفوش في المغرب، والددو في موريتانيا .. وليت شعري؛ كيف يجرأ المتعالمون على وصف أمثال تلك القامات العلمية بالتهييج والتحريض على الفتن؛ مع أنهم ما أوجدوا ثورة ولا أمروا بفتنة، وإنما أدوا واجبهم في بيان كيفية التعامل مع ما وقع من فتن تجعل الحليم حيرانا؛ بما يقلل الشر ويخفف من حجم آثار الفتن .. وهنا يظهر علم العالم وفقهه ودوره الحيوي في الأمة؛ خلافا لأشباه العلماء الذين يتكئون على أرائكهم، ويتخفون وراء حواسيبهم؛ لتوزيع التهم الجاهزة الظالمة على عباد الله الصالحين المصلحين، الذين يبذلون جهودا مشكورة لتخفيف معاناة المضطهدين، والدعوة للضرب على أيدي الظالمين المجرمين .. {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21]