بسم الله الرحمان الرحيم إن المتتبع للثورات الشعبية التي اندلعت في بعض الدول العربية،وأطاحت لحد الآن بحاكمين اثنين من عتاة الفراعنة المستبدين(وآخرون على الطريق)،سيلاحظ الحضور القوي للعلماء سواء في جانب المطالبين بالحفاظ على الأوضاع القائمة باستدعاء الفقه السياسي التقليدي الطارئ الذي يقول بالطاعة المطلقة للحاكم مهما ظلم وجار وتعدى حدود الشرع والطبع والمنطق،أم في جانب طلاب العدل والحرية والكرامة باستدعاء الفقه السياسي الأصلي الأصيل الذي يشترط قيام الحكم على أسس العدل والشورى،ولقد أثمر التحام علماء هذا الجانب بثورات الشباب انتصار الثورتين التونسية والمصرية، وأبان عن تهافت الفقه السياسي التقليدي وتهافت البناء النظري لرموزه التي أصبحت في نظر الكثير من الشباب رموزا للخيانة. أية وظيفة للعلماء؟ العلم حقيقة هو علم يآيات الله في الأنفس والآفاق،فنعلم أن الله تعالى علم آدم الأسماء كلها،والمعرفة تنتقل بالسند والتلقين،بواسطة أشخاص/نماذج يتمثلون الفكرة ليكونوا أقدر على توصيلها،في تاريخ البشرية مثل الأنبياء بحق وعن جدارة واستحقاق وبتكليف إلهي تلك النماذج الهادية،التي لم تكن منقطعة عن الشعب والناس،ولم تجعل من نفسها نخبة منعزلة في أبراجها العاجية،وكان كل واحد منها ذا قلب مع الله،ويد تعمل في البيئة الملوثة تصلحها،وهكذا تصدى موسى عليه السلام للاستبداد والتأله السياسي فوقف في وجه وفرعون وحليفه الاقتصادي قارون،وتصدى قبله لوط عليه السلام للتفسخ الأخلاقي والمثلية الجنسية،وتصدى شعيب للفساد الاقتصادي وتطفيف المكيال والميزان،ورد عليه مخالفوه برد فحواه:ما شأن دينك بانتقاد أوضاعنا الاقتصادية،وحكى الرحمان قولهم فقال:"قالوا ياشعيب أصلواتك تامرك أن نترك ما يعبد آباِؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء"[1] أي اتركنا ولبراليتنا المتوحشة ،وجميع الأنبياء كانوا يرمون إلى تعبيد الناس لرب العالمين وحده،وإزالة الطواغيت التي تحول دون ذلك سواء كانت في عالم الضمير أم في عالم الواقع، بعد الأنبياء خلفهم في مهمة التمثل والبيان والتبليغ العلماء،والحديث واضح في هذا الباب "العلماء ورثة الأنبياء" ،وهؤلاء أيضا مدعوون إلى الالتحام بقضايا شعوبهم كالأنبياء تماما، وعدم إقامة أي اعتبار لأي شيء آخر غير تبليغ الشريعة وحقائق الإيمان بإخلاص وصفاء ونقاء،وتعليمها للناس،من منطلق الواجب لا بمنطق الأستاذية والشفوف على الأقران.وهم المسؤولون عن حماية الدين من التزييف والتحريف تكليفا شرعيا بمقتضى الحديث الشريف:"يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين،وتأويل الجاهلين،وانتحال المبطلين".ولا شك أن العلم الشرعي كثيرا ما واجه أخطار الحَرفية والتحريف والانحراف،وهم أولو الأمر حقيقة (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم)[2]،فأولو الأمر هم العلماء الآمرون بالعدل،وهم الحكام العاملون بالعدل،ولا حظ في الاسم للمنحرفين من الجانبين. مسار الاستقلال والتبعية إلا أن الوضعية الاعتبارية للعلماء لم تكن على وزان واحد، ولكنها مرت بعدة تطورات؛ففي البداية كان النبي – عليه الصلاة والسلام- مؤيدا بالوحي ،وكان له مطلق التصرف إما بالإمامة أو بالقضاء وفض الخصومات أو بالتبليغ عن ربه عز وجل وللإمام القرافي المالكي في "فروقه" تفصيل جيد في وجوه هذه التصرفات،كما كان يقوم بمهام التربية التي تخرج علماء الصحابة،وكان كل واحد منهم يتميز باجتهاده الخاص وشخصيته المستقلة في إطار الاحترام الواجب لإخوة الدين،ولم يجعل منهم نماذج"منمطة" ولا نسخا مكررة،ولا كان يُقصر الفتوى على شخصه وهو نبي،بل يرسل معاذ بن جبل إلى اليمن ويمنحه كامل الحرية للاجتهاد إذا أعوزه الدليل الشرعي من كتاب أو سنة،وهكذا استمر أمر العلماء بفقه للواقع ودراية للواجب في الواقع، ونور يمشون به في الناس. وبعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم خلفه في الحكم علماء مجتهدون كبار من الصحابة تصدوا لمهمة الحكم، فأضفت عليهم الأمة صفة الرشد فسموا خلفاء راشدين لأنهم أولا لم يصادروا حق الأمة في اختيار وانتخاب من يسوسها،ولم يحتوشوا الأموال ولم يراكموا ترواث أو ينفردوا بامتيازات تجارية دون باقي الناس،ولم يكونوا بمنأى عن النصح والانتقاد والتوجيه،بل كانوا هم الساعين إلى ترسيخ تقاليد لمشاركة الناس في الشأن العام،وإلا ما معنى قول أحدهم:" إذا أحسنت فأعينوني،وإذا أسأت فقوموني" ،ولم تكن خطاباتهم مقدسة بل كانت موضع نقاشات وتعليقات عمومية ،ألم تنهض امرأة لأحدهم من آخر الصف لتعترض على عزمه تحديد الصداق،وخلد التاريخ إذعانه للحق فقال"أخطأ عمر وأصابت امرأة" فكان عملاقا بحق حتى في خطئه،وكانوا يحسنون التعامل مع المعارضات،ويتقنون تدبير الاختلاف،فعلي الإمام – كرم الله وجهه- إزاء معارضة كفرته ضمن لها حرية التعبير ما لم تحمل السلاح،وضمن لها الرزق والمعاش ولم يصادر أموالها،ولم يحرمها من ارتياد مساجد الله،ولما سئل عن تكفيرها قال :"من الكفر فروا" يعني الخوارج،ثم حدثت بعدُ أعظم بدعة في التاريخ السياسي الإسلامي ألا وهي بدعة توريث الحكم،بعد الانقلاب على الخلافة الراشدة،وغدا الحاكم يقول للناس:أيها الناس لا يوجد من بينكم من هو جدير بالحكم إلا ابني أو أخي أو ابن عشيرتي،فكانت ردة سياسية تستوجب المواجهة بدون تردد،كما واجه أبو بكر رضي الله عنه الردة الدينية،وتكثفت الضغوط المادية والمعنوية على العلماء ليعطوا بيمينهم رغبة أو رهبة بيعة قسرية إكراهية للمتغلبين من الحكام،وتضخمت فنون القول في فروع الأحكام وضمرت في الفقه السياسي والدستوري وحقوق العباد،وأصبح الدين في خدمة الدولة وليس العكس،وإذا نهض العلماء للمطالبة باسترجاع وضعيتهم الاعتبارية منذ ذلك الحين إلى اليوم مستدلين بحديث"العلماء ورثة الأنبياء" عارضهم السلطان مستدلا هو الآخر بأثر "إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن" ،ومتذرعا بضرورات الحفاظ على الأمن العام ودرء الفتن. وزيادة في بيان تحول مسار علاقة العالم بالحاكم من الاستقلال إلى التبعية يجدر التنبيه على أن الحكام "لم يكونوا من العلم والدين بمكان يستغنون به عن غيرهم من العلماء وأهل الدين. فاستبدوا بالحكم والسياسة، واستعانوا-إذا أرادوا واقتضت المصالح- بالفقهاء ورجال الدين كمشيرين متخصصين. واستخدموهم في مصالحهم، واستغنوا عنهم إذا شاءوا، وعَصَروهم متى شاءوا. فتحررت السياسة من رقابة الدين. وأصبحت قيصريةً أو كسرويةً مستبدة، وملكا عضوضا. وأصبحت السياسة كجمل هائج حَبْلُه على غارِبِهِ. وأصبح رجال الدين والعلم بين مُعَارِضٍ للسلطات، وخارجٍ عليها، وحائِدٍ مُنعزل اشتغل بخاصَّة نفسه، وأغمض العين عما يقع ويجري حوله، يائسا من الإصلاح، ومنتقدٍ متلهِّفٍ، يتنفس الصعداء مما يرى ويسمع، ولا يملك من الأمر شيئا، ومتعاوِنٍ مع الحكومة لمصلحة دينية أو شخصية. ولكلٍّ ما نوى. وحينئذ انفصل الدين والسياسة، أصبح الدين مقصوص الجناح مكتوف الأيدي. وأصبحت السياسة مطلقة اليد، حرة التصرف، نافذة الكلمة، صاحبة الأمر والنهي. ومن ثَم أصبح رجال العلم والدين طبقةً متميزةً، ورجالُ الدنيا طبقةً"[3]. وزبدة القول أنه لما انحط فقهنا السياسي تقلص دور العلماء التوجيهي والتربوي والسياسي والاجتماعي،وضعفت مواجهتهم للظلم والفساد والاستبداد، كما أفلحت السياسات الحاكمة في عزل الكثير منهم عن عامة الناس،بإفساد ذممهم المالية،وإغراقهم في امتيازات المال والجاه حتى إذا تكلموا تكلموا بمقدار واضعين نصب أنفسهم تلك الامتيازات،والحال أن العالم لا مكان له إلا وسط الناس. العلماء وهاجس"الفتنة" لقد شل الخوف الزائد من الفتن الواقعة أو المتوقعة حركة العلماء،وألجمهم عن النطق بالحق والعلم والعدل،ويمكن ذكرثلاثة أنواع من تلك الفتن: 1- فتنة السلطان:فتنة يقويها الخوف الطبعي من الأذى،وضعف اليقين،والغفلة عن فضل الشهادة بقول كلمة الحق في وجه السلطان الجائر،فخضعوا للسلطان ظنا منهم أنهم يحافظون على الحد الأدنى لوجود الدولة،ومنتهى ما يفعله المتجرئ منهم هو إسداء النصح للحاكم على استحياء،قد يفلح ذلك النصح في استدرار دمعه بالليل ،وبالنهار ينصب المشانق للمعارضين. 2- فتنة الاضطرابات الداخلية:مما زاد في توجسهم من هذه الفتنة عدم وجود آليات لتدبير الاختلاف بشكل سلمي ،وهي آليات تقوم على عدم الإكراه في الدين،وعلى الإنصاف الذي يقتضي الاعتراف بما عند الآخر من حق وحقيقية. 3- فتنة التهديد الخارجي:لذلك صبروا على الاستبداد للحفاظ – في ظنهم- على الحد الأدنى من الوحدة. ولتلافي الفتنتين الأخيرتين أفتى الإمام أحمد بوجوب لزوم الجماعة في كل الأحوال فقال:" من غلب عليهم بالسيف حتى صار خليفة وسُمِّيَ أمير المومنين، فلا يحِل لأحد يومن بالله واليوم الآخر أن يَبيت ولا يراه إماما، بَرّاً كان أو فاجرا"،ولذلك لم تكن معارضته للسلطات العباسية قائمة على أساس سياسي بل على أساسي عقدي بمواجهته لبدعة القول بخلق القرآن،بينما انطبعت معارضات الأئمة مالك (بيعة المكره لا تجوز) والشافعي(توليه للقائمين من آل البيت) وأبي حنيفة(رفضه تولي القضاء ونصرته لحركة زيد بن علي) بطابع سياسي لا تخطئه العين. ولقد أفضى تحرز العلماء المبالغ فيه من الفتنة إلى نتائج عكسية تماما،فلا الوحدة بقيت،ولا الدولة دامت بالرغم من وجود هياكلها الظاهرية،(وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الفِتْنَةِ سَقَطُوا)[4] ،وسقط علماء أهل السنة في قبضة السلطان،وعلماء الشيعة في قبضة العوام،و" إن مسايرة علماء أهل السنة والجماعة للسلطان، ومسايرة علماء الشيعة للعامة الذين منهم أرزاقُهم وعليهم اعتمادُهم، يُفسر سقوط الأمة في "دسيسة" تاريخية خافية وبادية. العالم الشيعي المرجع له أتباع، وعالم القصر له أطماع، ذاك تسلط عليه أتباعه، وهذا أرْدَتْهُ أطماعه. والحاكم الغاصب والرعاع السائب مناخ ملائم للاستخفاف والتحريف"[5]. ولاسترجاع مكانة العلماء وإمامتهم للجماهير لابد أولا من انخلاعهم من ربقة التقليد التي تفرض عليهم البقاء أسارى لفتاوى مظروفة بظروفها،ولابد ثانيا أن تكون معهم قوة منظمة،ولا بد ثالثا من ممارستهم لاجتهاد مجدد بشراكة مع ذوي الاختصاصات المتعددة والمختلفة،ولا بد ثالثا من شروط ذاتية جماعها القوة والأمانة والخبرة والفطنة والحكمة والمصلحة لأنهم ليسو زمرة من الباحثين السطحيين فقط،ولقد كان عمر رضي الله عنه يتعوذ من جلد الفاجر وعجز التقي،ولا بد رابعا من إحسانهم لتدبير الاختلاف حتى مع مخالفيهم في الفقه السياسي من علماء البلاط،مع العلم أن هذه الخلافات لا تعكس كلها الصفاء الملائكي،ولا بد خامسا من أن يفرضوا استقلاليتهم المطلقة عن الحكم،مع الحذر من أن يحولوا أنفسهم إلى طبقة من المعممين فيتصرفون كما يتصرف الحزب الوحيد. في معمعان الثورة لا حاجة لنا للإتيان على ذكر قائمة شيوخ العار كما سماهم شباب الثورات،فهم معروفون؛منهم من أفتى بعدم جواز مقاومة المحتل في العراق،ومنهم من وصف الثوار بالغوغائيين،ومنهم من وصفهم بالفتانين (وكل إناء بما فيه ينضح)،ولكن نحن أحوج إلى ذكر الحضور القوي للعلماء من أنصار الثورة. السابقة الإيرانية في التاريخ المعاصر فاجأت الثورة الإسلامية بإيران الغرب والشعوب بتصدي العلماء ورجال الدين لزعامة تلك الثورة،بعد المراجعات والتراجعات التي أدخلها الخميني على الفقه السياسي الشيعي التقليدي الذي يرجئ أي مهمة تغييرية إلى ظهور"الإمام الغائب"،وخلص بذلك الشيعة من عقلية الانتظار،ومثل قيام الثورة آنذاك هزيمة كبرى للولايات المتحدةالأمريكية والكيان الصهيوني،وتلقى جهاز المخابرات الإيرانية"السافاك" ضربة قاضية،وتمكنت الدولة من استقلال قرارها الاقتصادي والسياسي،مما دفع دوائر الاستكبار إلى نسج مؤامرات عدة لوأد الثورة في مهدها عبر سياسة الحصار الاقتصادي،وعبر دفع العراق إلى شن حرب على إيران،وأضاع النظام الرسمي العربي فرصة تاريخية لإحداث تقارب عربي إيراني يخدم شعوب المنطقة من غير قفز على الخلافات المذهبية والتاريخية ولكن بتفهمها وتدبيرها، وحدث نوع من الانقلاب في فكر النخب القومية واليسارية لصالح المشروع الإسلامي. إلا أن الثورة لم تنجح في رهان طمأنة الجوار،لاسيما عند رفعها المبكر لشعار "تصدير الثورة" فاحتاج الأمر إلى تبديد مخاوف الكثيرين الذين رأوا في الشعار إرادة لتصدير بضاعة الطائفية ملفوفة في ثياب الثورة،وإلى تبديد المخاوف الآنية من الدور الإيراني في العراق، والثورة الإسلامية اليوم تقف في مفترق طرق،إما أن تأكل الثورة أبناءها ،فتنطوي الثورة تحت جناح الدولة،ويحكم البلاد طبقة من رجال الدين باسم"ولاية الفقيه"التي هي محل خلاف فقهي وسياسي معروف بين النخب الإيرانية،والأخطر هو أولا الحيلولة دون انتقاد الناس "للولي الفقيه" بما يشبه إضفاء صفات القداسة عليه، وبما يعنيه ذلك من إحالة- ولو غير مقصودة – على مفهوم العصمة،وثانيا :غياب الحكمة عن الكثير من خطابات الرئيس،فيما يبدو أنه يعمل بمبدإ واحد (وهو العزة التي قد تكون أحيانا عزة بالإثم) من المبادئ الثلاثة التي رسمتها الثورة في بداياتها لسياستها الخارجية:العزة والحكمة والمصلحة،وثالثا:تدخل أجهزة كالحرس الثوري في تدبير الاختلاف بين الدولة والمعارضة،وبعد أن اشتد عود الثورة وتجاوزت أسئلة الوجود والبناء لا يدري المرء ما الحاجة إلى مثل ذلك الجهاز، ورابعا: غياب الإدراك العميق لمعاني ظهور أجيال شابة جديدة لا تسعى إلى التخلص من الدين ولكنها تسعى إلى ممارسته بمرح دون تجهم أو اكفهرار أو تنميط للمجتمع،بدون هذا ،وبدون توسيع مجالات الحرية لن يتأتى لإيران باتباع سياسة"الإجماع القسري" تقوية جبهتها الداخلية في وجه المؤامرات الخارجية التي تحصي عليها الأنفاس وتتسقط الأخطاء والزلات والعثرات. ثورات تحضى بمساندة مؤسسة علمية عالمية لطالما بقي العلماء متروكين للمبادرات الفردية،فتارة كانت تحمل آراؤهم على المزاج الشخصي للعالم صاحب الرأي،وتارة أخرى توصف آراؤهم بالشذوذ،وتارة ترميهم الحكومات بسهام التحريف والتشويه الإعلامي والقمع،وترغمهم على إصدار الفتاوى المزكية لسياساتها الظالمة،ولا مخرج من هذه الضغوط غير انضواء العلماء في تجمعات واتحادات للعلماء محلية وإقليمية وعالمية،الشيء الذي أكده المستوى المشرف الذي ظهر به "الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين" عندما لم يتردد في مساندة الثورات التي تشهدها منطقتنا العربية مطلع هذا العام،فرئيسه الدكتور العلامة يوسف القرضاوي آزرها بالقول والفعل،وهو الذي طاب زرعه ولم يعد في عمره-إلا أن يشاء الله- متسع ليقال إنه يريد سرقة الثورات أو الركوب عليها،فتتبع الثورة التونسية منذ بداياتها مستنهضا وحاثا الشعب على المضي في ثورته إلى آخر شوط فقال:" إن جماهير الشعب التونسي التي تعلمت ظلت عاطلة لا تجد الحاجات الضرورية على عكس من يلعبون بالملايين.. إنها مافيا تجمعت بتونس.. لكن الشعب التونسي هو الذي ضرب المثل بالخروج على الظلم رغم وجود هذا الظلم في كل البلدان.. خرج بمسيرات سلمية بلا أي سلاح.. . أليس من حق المظلوم أن يصرخ ؟! أن يقول السوء من القول ؟! أن يسب ويلعن ؟! فقد أعلن الشعب صيحته ينادي أن أنصفونا، انظروا لحاجاتنا فقوبل بالرصاص.. أهكذا يعامل الناس؟!.. الشرطة التي تحمل السلاح من أجل الشعب تصب الرصاص في صدر الشعب الذي يشكو من الجوع!.. هذه ثقافة مسمومة.. أن تقتل أبناء الشعب.. لا يجوز هذا"ونادى بمحاسبة المسؤولين:" جاء رئيس البلاد يتكلم بلغة لينة بعد خمسة أسابيع والرصاص يقتل الناس والأفواج إلى المقابر.. أين هذا القول اللين مما جرى؟! ينبغي أن يحاسب القاتل على قتله والمجرم على جرمه.. يجب أن يقدموا (إلى المحاكمة) من أكبر رأس إلى أصغر رأس كل ما ارتكب جريمة، كل من أصابه ضرر، ليس في الأسابيع الأربعة فقط بل من قبل.. كل من أكل مال ونهب مال الشعب ومن اعتدى على الأرواح.. كل هؤلاء يجب أن يحاسبوا، ويجب أن يعود الشعب إلى نفسه بعمل جمعية تأسيسية ويدير أموره.. إنني أشكو إلى الله من الحكام المسلمين إلا من رحم ربك"، وانتصرت الثورة وحذر من الالتفاف عليها. أما الثورة المصرية فقد خاطب شبابها الثائر قائلا:" أيها الشباب إنكم تقومون نيابة عن شعب مصر.. أرى أن 8 ملايين يمثلون 80 مليونا، أناس كثيرون معهم بقلوبهم، هم أناس لا يحبون النظام ولا يؤيدونه، لكنهم يخافون، هؤلاء ضد المظالم.. أوصيهم بالثبات، وكل قادر على الخروج يجب أن يخرج تقوية للشباب الأبطال لمقاومة الظلم.. كل قادر ليس له عذر يجب أن ينضم لهؤلاء الشباب.. الإسلام يفرض مقاومة الظالمين" ،وخاطب الفرعون المخلوع:" إذا بقي عندك من عقل في رأسك أو رحمة في قلبك فارحل، فأنت مسئول عمن قتل.. أنت مسئول يا مبارك عن هذه الدماء التي سالت.. إذا كنت أبا فلا تكن سببا في مزيد من القتلى.. مبارك مسئول عن كل ما جرى.. أنادي مبارك ونظامه بالرحيل،طالما انتهكتم هذه الحرية!! إن هؤلاء الشباب خرجوا يطالبون بالحرية والكرامة، لا يجوز أن يئن الناس من الجوع وآخرون يشكون من كثرة ما أكلوا.. فهناك حوالي 40 مليونا من أبناء مصر تحت خط الفقر وآخرون يلعبون بالملايين.. نهبوا أراضي الدولة.. لقد نهبوا ثروات البلد، الحزب الوطني الذي كون حكومة من رجال الأعمال.. كيف يؤتمنون على ثروات وحرمات وشباب الوطن وهم لا يحرصون إلا على مصالحهم؟! "،وفي "جمعة النصر" أمَّ ملايين المصريين وخطبهم خطبة بليغة وحكيمة ومطمئنة لجميع مكونات الشعب المصري،ثم تولى إلى الظل. وبالمثل ساند الشعب الليبي في حركته التحريرية للبلاد من المحتل الداخلي(القذافي وكتائبه) ،ولأول مرة في حياته يهدر الشيخ القرضاوي دم إنسان(وهو القذافي) لم يعد إنسانا بل تحول إلى حيوان هائج يتلمظ بدماء شعبه،وأقسم أن ثورة الليبين منتصرة:" كما أقسمت أن مبارك زائل وثورة 25 يناير منتصرة وقد انتصرت بالفعل، أقسم أن ثورة 17 فبراير منتصرة وأن أهلها منتصرون وأن شعب ليبيا سينال حقه إن شاء الله ، لماذا اقسم لأني أؤمن بسنن الله، سنن الله حاسمة، سنن الله ثابته سنن الله لن تتغير ولن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا"،ويضم مجلس أمناء الاتحاد علماء ليبيين مساندين للثوار كالدكتور علي الصلابي،والشيخ سالم الشيخي،وهناك عشرات من العلماء من خارج الاتحاد كالشيخ الغرياني كبير علماء ليبيا،وآخرون يجهل مصيرهم منذ بداية الثورة وترجح الكثير من المصادر تصفيتهم من طرف القذافي. وكان لافتا الحضور القوي للمتدينين الجدد في الثورة المصرية،وقد مثلهم رمزهم الدكتور عمرو خالد ،فأضفوا طابعا حضاريا على الاعتصام السلمي بميدان التحرير،ونشطوا في لجان حماية الأشخاص والممتلكات بالأحياء،وانتزعت حركتهم إعجاب رئيس الوزراء البريطاني الذي أثار انتباهه انصراف الشباب بعد انتصار ثورتهم إلى تنظيف الميدان والجسور والشوارع المحيطة به،فتركوا المكان أنظف وأجمل مما كان،في إشارة إلى ولوجهم مرحلة الكنس والبناء. وعرف الشيخ راشد الغنوشي رئيس حركة"النهضة" التونسية بعضويته أيضا لمجلس أمناء"الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين"،فهو ابن الدار الذي قضى ما يزيد على العشرين سنة في المنفى اتقاء بطش نظام بن علي البائد،وعند اندلاع شرارة الثورة طمأن الجميع بأن الجماهير هي ضمانة نجاحها[6]:"فمادامت جماهير الشعب ترابط في الشارع وتصر على حماية الأحياء الشعبية والثورة من أن تجهض؛ فإنه لا خوف على مستقبل البلاد الذي يحدده هؤلاء، من خلال تحركاتهم الشعبية الرافضة لأي تلاعب بمطالبهم المشروعة في الحرية والديمقراطية"،وحدد الأولويات بعد انتصار الثورة:"أولويتنا في هذه المرحلة هو العمل على إنجاح هذه الحركة الاحتجاجية، إلى أن تبلغ غايتها في إزاحة النظام الدكتاتوري بعد النجاح في إزاحة الدكتاتور، والإسهام مع القوى الديمقراطية في إقامة نظام ديمقراطي حقيقي، ثم الإسهام مع بقية القوى الديمقراطية في حماية الثورة ومكاسبها من اللصوص الذين يستهدفونها ويحاولون إفراغها من مضمونها بإجراءات شكلية ووعود زائفة لا ضمانات لتحقيقها"،وحدد دوره المستقبلي بالقول:"بالنسبة لدوري في المستقبل؛ أحسب أنه سيكون في مستوى المجتمع وليس الدولة، ولا يقتصر على المستوى الوطني بل يتعداه إلى المستوى الإسلامي والعالمي". وفي اليمن نزل رئيس هيئة علمائها المسلمين الشيخ عبد المجيد الزنداني إلى الساحة التي يعتصم بها الثوار مثنيا على حركة الشباب الذين يحتاجون لأن ينالوا- كما قال- براءة اختراع جزاء ابتداعهم لوسائل احتجاجات سلمية راقية لمواجهة الظلم والتسلط،أما في العراق حيث ترتفع الأصوات ضد الفساد الذي بلغ أعلى مؤشراته في ظل الاحتلال،وضد الطائفية،ويبدو أن حركات هذا البلد الاحتجاجية لها قصة تاريخية مع"الندم" منذ أُسلم سيد الشهداء الحسين رضوان الله عليه لأعدائه،إلى ندم من أسلسوا القياد لزعامات وصلت إلى الحكم على ظهر الدبابة الأمريكية،مما يستدعي الانخراط في حركية تتجاوز الندم إلى حركية تبدأ أولا بمقاومة المحتل أصل كل الشرور والبلايا،تسندها المرجعيات الدينية لاسيما الشيعية المدعوة إلى الوفاء للتراث الحسيني المقاوم.
في بلدان أخرى ثمة سعي حثيث لعزل العلماء عن الحركية العامة للشعوب الثائرة،بدعوى أن تلك اليلدان تمثل استثناء،وتبرر الحكومات ذلك العزل بمقولات تمتح – دائما- من الفقه السياسي التقليدي المزكي للسياسات الظالمة، وتطلب من العلماء شيئا واحدا هو الوفاء "لعقيدة" البيعة، في مسعى حكومي أحادي الجانب "لتدبير الكلام في الدين" ،وهذا مثال"لاجتهاد" مغربي في الموضوع:"السياق الديموقراطي حقق للدعاة والعلماء والأئمة مزايا عديدة،وخفف عنهم أعباء كثيرة،فتكاليف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر صارت اليوم من اختصاص مؤسسة البرلمان،وعبء التشهير بالمنكر صار من اختصاص الصحافة،وأمانة الحسبة صارت من اختصاص القضاء والشرطة وأجهزة الأمن،وإسعاف المظلومين ونصرة المحرومين صارت اليوم من اختصاص المجتمع المدني،لم يبق للعلماء والدعاة والأئمة إلا استعادة وظيفتهم النبيلة،وهي النيابة عن الإمامة العظمى،والوفاء لعقيدة البيعة والإمارة"[7]،وهكذا إن ظهر للعلماء أن ثمة عدولا عن معايير العدل والرشد في الحكم،أو مصاديق للفساد ونهب المال العام والإثراء غير المشروع،فليس عليهم إلا "التصبر على الأذى". **** [1] هود/ [2] النساء/ [3] الخلافة والملك ص58 [4] التوبة/49 [5] عبد السلام ياسين،الإحسان،1/153 [6] حوار مع مجلة المجتمع قبيل عودته إلى تونس بتاريخ 30يناير 2011 [7] دليل الإمام والخطيب والواعظ،المغرب