"اكتساح قسنطينة" يفرح البركانيين    قمع احتجاج أمازيغي يثير سخط الحقوقيين    الجيش الإسرائيلي يقر بحصول "إخفاقات مهنية متعددة" في واقعة مقتل 15 مسعفا في غزة    ميرسك تلاحق صحيفة دنماركية قضائيًا بعد اتهامات باطلة بشأن شحنات أسلحة إلى إسرائيل.. وجهات معادية تقف وراء استهداف ميناء طنجة    الثانوية التأهيلية المجد بامطل تختم فعاليات الدورة الأولى للأيام الثقافية للمؤسسة    البوليساريو... الذراع العسكرية لإيران في شمال إفريقيا برعاية جزائرية    الأمن يتفاعل بسرعة مع أحداث عنف في القصر الكبير ويوقف ثلاثة مشتبه فيهم    الحسيمة.. انعقاد الاجتماع التشاوري الأول حول مخطط التدبير التشاركي للفرشة المائية غيس – النكور    المدرسة الوطنية للتجارة والتسيير بجامعة وجدة تشهد تأسيس أول نادٍ سينمائي    خمس لاعبين مغاربة ضمن التشكيلة المثالية لكأس إفريقيا للفتيان    مغاربة داعمون للقضية الفلسطينية يحتجون أمام ميناء "طنجة المتوسط"    ابن تمسمان الأستاذ سعيد بنتاجر، يقارب الذكاء الاصطناعي والبحث العلمي في معرض الكتاب بالرباط    ترامب يعيد هيكلة الخارجية الأمريكية    تفاصيل حريق المسبح البلدي بالناظور    الدرك يطيح بأحد كبار مروجي الخمور باقليم الدريوش    "نداء القنيطرة" يدعو لإصلاح الإعلام    أفاية: قراءات اختزالية تستهدف "النقد المزدوج" عند عبد الكبير الخطيبي    فتح بحث قضائي لتحديد ظروف وفاة طفلين في حضانة غير مرخصة بالدار البيضاء    لقاء إقليمي بالحسيمة يسلط الضوء على آفاق الاستثمار في إطار قانون المالية 2025    برلماني يسائل وزير الفلاحة حول توتر العلاقة بين أعضاء من الغرفة الفلاحية والمديرية الإقليمية بطنجة    مستشار ترامب: الاعتراف الأميركي بسيادة المغرب على الصحراء لا لبس فيه    المغرب يتصدر صادرات الفواكه والخضروات عالميًا: ريادة زراعية تنبع من الابتكار والاستدامة    مقاولون يقاضون "التيكتوكر" جيراندو بالمغرب وكندا بتهم التشهير والابتزاز    السعدي: الحكومة ملتزمة بتعزيز البنية التحتية التكوينية المخصصة للصناعة التقليدية    القوات المسلحة تُكوّن ضباطًا قطريين    "موازين" يواصل جذب نجوم العالم    منتدى الصحراء للحوار والثقافات يشارك في فعاليات معرض "جيتكس إفريقيا"    القفطان يجمع السعدي وأزولاي بالصويرة    الجامعة الملكية المغربية لكرة القدم تحتفي بالمنتخب الوطني لأقل من 17 سنة إثر تتويجه باللقب القاري    الفنان الريفي عبد السلام أمجوظ يتألق في مسرحية سكرات    عبد العزيز حنون يدعم البحث في اللسانيات الأمازيغية بأطروحة حول التمني بأمازيغية الريف    تفاصيل اجتماع نقابات الصحة مع مدير الوكالة المغربية للدم ومشتقاته    بعد القرار الأمريكي المفاجئ .. هل يخسر المغرب بوابته إلى السوق العالمية؟    "الكاف" يختار المغربي عبد الله وزان أفضل لاعب في البطولة القارية للناشئين    الأرصاد الجوية تتوقع نزول زخات مطرية متفرقة اليوم الأحد    بنكيران: الأمة بكل حكامها تمر من مرحلة العار الكبير ولا يمكن السكوت على استقبال سفن السلاح    الآلاف يتظاهرون ضد ترامب في الولايات المتحدة: لا يوجد مَلك في أمريكا.. لنُقاوِم الطغيان    الاتحاد الوطني للشغل يدعو إلى تعبئة شاملة في فاتح ماي    " هناك بريق أمل".. رواية جديدة للدكتورة نزهة بنسليمان    ندوة علمية تناقش الحكامة القضائية    الكوكب يسعى لتحصين صدارته أمام الدشيرة والمنافسة تشتعل على بطاقة الصعود الثانية    دراسة تدعو إلى اعتماد استراتيجية شاملة لتعزيز الأمن السيبراني في المغرب    الأساتذة المبرزون يحتجون الخميس المقبل    لقاء يناقش دور المجلس الأعلى للحسابات في تتبع تنفيذ أهداف التنمية المستدامة    الكشف عن نوع جديد من داء السكري!    دورة برشلونة لكرة المضرب: ألكاراس يتأهل للمباراة النهائية    برشلونة يضع المدافع المغربي إدريس أيت الشيخ تحت المجهر … !    مغرب الحضارة: حتى لا نكون من المفلسين    لماذا يصوم الفقير وهو جائع طوال العام؟    أنور آيت الحاج: "فخور بمغربيتي"    قناة إيرلندية تُبهر جمهورها بسحر طنجة وتراثها المتوسطي (فيديو)    ‪ بكتيريا وراء إغلاق محلات فروع "بلبن" الشهيرة بمصر‬    تزايد حالات السل اللمفاوي يسائل ضعف مراقبة سلاسل توزيع الحليب    وداعًا الأستاذ محمد الأشرافي إلى الأبد    بيانات تكشف ارتفاع الإصابة بالتوحد وكذلك زيادة معدلات تشخيصه    أكادير يحتضن مؤتمر التنظير عنق الرحم وجوف الرحم والجهاز التناسلي    قصة الخطاب القرآني    المجلس العلمي للناظور يواصل دورات تأطير حجاج الإقليم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



القضية الأمازيغية بعد الحراك المغاربي
نشر في هسبريس يوم 28 - 09 - 2015

تتناول هذه الورقة التطورات التي عرفتها القضية الأمازيغية منذ اندلاع الحراك المغاربي إلى يومنا هذا.
لقد أجمع المراقبون بأن الحراك شكل فرصة تاريخية لنهوض ناجح للقضية الامازيغية إذ دفع بمطالبها في كل الأقطار المغاربية خطوات جبارة إلى الأمام: في المغرب تمت دسترة اللغة الأمازيغية لغةً رسمية بجانب العربية، كما تمت دسترة الجهوية المتقدمة، أي الجهوية التي تقترب من الحكم الذاتي، مما سيُلبي في المستقبل مطالب الأمازيغ المغاربة بالحكم الذاتي. كما تقدمت القضية الأمازيغية في تونس و ليبيا و جزر الكناري إلى مستوى المطالبة بالاعتراف الدستوري، أما في الجزائر فالمطالبة "بدولة أمازيغية" في منطقة القبائل هي المُسيطرة على تحركات الأمازيغ هناك، في الوقت الذي تبقى المسألة الامازيغية غائبة أو "نائمة" في موريتانيا.
عموما، ستناقش هذه الورقة كيف أدى الحراك المغاربي إلى انخراط القضية الأمازيغية في تطورات مصيرية أدت إلى تبلور وعي متقدم يهُمّ المحاور التالية:
- الهوية الأمازيغية المغاربية،
- الوطنية الأمازيغية المغاربية،
- السياسة الأمازيغية المغاربية،
- التركيز على الطبيعة العلمانية للسياسة الأمازيغية،
- الأمن الاستراتيجي الأمازيغي.
الوطنية الأمازيغية المغاربية
لقد عمد الاستعمار إلى تجزئة المنطقة التي تسمى حاليا المغرب الكبير إلى خمس دول وطنية قسم عليها الشعب الأمازيغي و مزق حضارته العريقة التي تمتد من مصر إلى أعماق موريتانيا.
المعروف، تاريخيا، أن الأمازيغ لا يهتمون بما يجري على قمة هرم السلطة إذ لا يفرقون بين الحاكم سواء كان أمازيغيا أو أجنبيا بشرط ألا يمس أيّا من حقوقهم الطبيعية و التاريخية. كلما استتب الأمر بحاكم يأتون في أحسن الاحوال ليستفيدوا من بركاته وينصرفوا إلى حال سبيلهم. آخر مثال على ذلك هم حُكام الاستعمار، بحيث في المغرب مثلا لم يهتم الأمازيغ بمشكل فشل الدولة التقليدية و سقوطها تحت الحماية سنة 1912. لم ينتفضوا إلا عندما بدأ المستعمر ينتهك حقوقهم. عندما فهم هذا الأخير الأمر وبدأ يتعامل معهم على أساس مبدأ التفاوض و احترام حقوقهم و قوانينهم، خفت حدة المواجهات.
ثم أن تقسيم شمال افريقيا بين فرنسا و اسبانيا و ايطاليا لم يؤدي في العمق إلى تقسيم الشعب الأمازيغي. لكن الجديد و المثير في قضية الاستعمار بالنسبة لهذا الشعب هو بداية بناء الدُّول المغاربية الحديثة.
إن احداث الدول المغاربية و تطور تطبيق مفهوم الدولة بما في ذلك بناء الحدود و تشديد المراقبة على تحركات الأمازيغ من دولة إلى أخرى خلق لديهم الوعي بأن مجالهم الحيوي المشترك بصدد التقسيم و من ثم لا بد من إعادة توحيده.
في البداية، خاض كل جزء من الشعب الأمازيغي معركته السياسية في مواجهة الدولة الوطنية التي يتواجد فيها، مما أدى إلى بزوغ الشعور الوطني لدى كل جزء و إنْ بأشكال مختلفة تبعا لأيديولوجية كل دولة . بالنسبة لأمازيغ المغرب، الدولة المغربية هي المؤسسة التي أدى الصراع معها إلى ظهور و تقوية شعورهم بالوطنية الأمازيغية المغربية. الدولة الجزائرية لعبت نفس الدور بالنسبة لأمازيغ الجزائر، و كذلك الدولة التونسية بالنسبة لأمازيغ تونس، و الدولة الليبية بالنسبة لأمازيغ ليبيا. كل هذه الدول نهجت سياسات خطيرة على الهوية و اللغة الأمازيغية، أبرزها تلك المبنية على الأيديولوجية القومية العروبية.
إن بناء الدولة ذات الأيدلوجية العروبية فرض في البداية استقطاب النخب ذات الأصول الأمازيغية بالرغم من أنها تكونت تكوينا غربيا في مدارس المستعمر. كانت المناصب متوفرة للجميع على مختلف المستويات. لكن سنوات بعد ذلك، عندما بدأت تتناقص المناصب خاصة العليا و أصبح ما تبقى منها يمنح لأبناء العائلات التي تصف نفسها بذات الأصول العربية أو الأندلسية، بدأت النخب الأمازيغية في التململ.
آنذاك بدأت النظرة و الطموحات الأمازيغية في التبلور بالتزامن مع تغوّل الدّول المغاربية في الاشتغال و تطبيق برامجها و أجنداتها المعادية للهوية الأمازيغية. فواجه أمازيغ المغرب ذلك التطور في المغرب، و كذلك كان الأمر بالنسبة لأمازيغ الجزائر و أمازيغ تونس و أمازيغ ليبيا.
لكن النقطة المهمة هي أن الحراك المغاربي أضاف بعدا جديدا و حاسما إلى المعادلة و هي: وعي الأمازيغ في جميع أنحاء المنطقة المغاربية و في الشتات بأنهم يواجهون عدوا مشتركا يقمع حقوقهم السياسية و الإقتصادية و الثقافية و اللغوية. فَهتفوا جميعا بنبرة قوية ضد ذلك العدو، أي الأنظمة المغاربية المستبدة، و تعبئوا من أجل إسقاطها.
و عَزّز، بل أنعش، التجاوب العاطفي الإحساس من جديد بوحدة الانتماء. أصبح الحزن العابر للحدود السمة المميزة لمعركة الأمازيغ ضد أنظمة الإستبداد حيث بلغ ذلك الحزن المشترك مداه الأقصى إبان مجازر القذافي في حق أمازيغ ليبيا و بعد سقوط شهداء أمازيغ في شمال المغرب و في الجزائر و تونس. كلما سقط شهيد أمازيغي يتم نعيه في كل ربوع الوطن الأمازيغي "تامازغا". الألم المشترك للأمازيغ مؤشر قوي على انتعاش الأمة الأمازيغية من جديد.
في المجمل، أدى استبداد الأنظمة في الدول المغاربية إلى: أولا، بعث الشعور الوطني الأمازيغي في كل دولة على حدة ثم، ثانيا، تحفيز الرغبة في بناء اتحاد أمازيغي مغاربي.
السياسة الأمازيغية المغاربية
لقد أسفر الحراك المغاربي عن تبلور المشهد السياسي الأمازيغي المغاربي. هناك مؤشرات جيدة على ذلك:
أولا، تمجيد الأمازيغ لشهدائهم الذين يسقطون في المواجهات مع الأنظمة، خصوصا إبان الفترة الحرجة من الصدام مع نظام القذافي، و ذلك بوضع العَلم الأمازيغي فوق نعوشهم و كتابة: "هنا يرقد شهيد القضية الأمازيغية" على شاهدة القبر.
ثانيا، المطالبة بالمشاركة كطرف حقيقي في اتخاد القرارات التي تتعلق بتحديد ملامح الدول الوطنية لما بعد الحراك. لم يعد إذن "الكونغرس الدولي الأمازيغي" هو الفاعل الرئيسي في السياسة الأمازيغية على المستوى المغاربي إذ توَلد الآن وعيٌ يَتفوَّق عليه و يستطيع غربلة المطالب الثقافية و اللغوية و اختيار الأقوى منها و طرحها في صيغة سياسية و من ثم المشاركة مع الأنظمة الجديدة في تقرير المستقبل السياسي للدولة كوضع الدساتير و الإنتخابات مثلا، و هو الإتجاه الذي انبثق عنه تأسيس "الإتحاد من أجل تامازغا".
ثالثا، الضغط من داخل الدولة أثناء تلك المشاركة لفرض تحقيق مكتسبات انطلاقا مما يمليه الوعي السياسي الأمازيغي المغاربي المشترك إذ، قبل الحراك، كان الضغط يأتي من خارج الدول بقيادة الكونغرس الدولي الأمازيغي و بدعم متعدد الأشكال من لدن الأمم المتحدة، و كان يهم أساسا مناصرة مطلب دسترة الأمازيغية كلغة رسمية في البلدان المغاربية. لكن أثناء الحراك قاد أمازيغ المغرب ضغطا لدسترة الأمازيغية و المُطالبة بجعل المناطق الأمازيغية أساسا للتقسيم الجهوي الجديد في بلادهم، و هو ما سيجعل من المغرب، في المستقبل، دولة فيدرالية أمازيغية و سيُشكل صورة مصغرة لمستقبل "دولة تمازغا الكبرى" التي ستهُم كل المغرب الكبير. إذن، المكاسب الأمازيغية من داخل الدولة ستعزز الوعي و المشروع السياسي الأمازيغي المغاربي المشترك.
رابعا، العمل من داخل الدولة قرَّب الأمازيغ من القضايا الاستراتيجية التي تتحكم في العلاقات بين الأقطار المغاربية، أي القضايا التي على الأمازيغ التقيد بنتائجها التاريخية. إن تعميق معرفتهم بتلك القضايا سيشجع على التعاون و التلاقي و الاتفاق بين الفصائل الأمازيغية المختلفة في الدول المغاربية من أجل مناقشتها و المشاركة في حلحلة ما ينتج عنها من معيقات تحُول دون تقارب الشعوب و الحكومات. من بين تلك القضايا نجد القضية الحارقة المتعلقة بالصحراء المغربية. هل سيُمكن التعاون بين أمازيغ المغرب و أمازيغ الجزائر على ايجاد مخرج نهائي لتلك القضية. السعي نحو هذا المخرج ضروري لتقوية الإندماج السياسي بين أمازيغ هاتين الدولتين الجارتين، و قد يذيب النقاط الخلافية الشائكة الأخرى بين كافة الأطراف المغاربية. و أدنى فشل في ذلك المسعى سيؤدي إلى نتائج عكسية، أي إلى تطاحنات مريرة بين الأمازيغ على أساس قضايا مصطنعة أو وهمية بغرض فرملة مسار الإندماج الأمازيغي المغاربي. يجب ان لا ننسى ان مثل تلك القضايا المصطنعة أدت من قبل إلى تصدع المشروع القومي العربي في المنطقة و من المنتظر جدا توظيفها لنفس الهدف تجاه الوحدة الأمازيغية المغاربية المرتقبة.
إن التقارب حول القضايا الشائكة التي أورثتها أنظمة ما قبل الحراك للأنظمة الجديدة سيجعل هذه الأخيرة ترحب بتأسيس تنسيقية للأحزاب الأمازيغية المغاربية قد تساعد في رسم اتجاه جديد و مشترك لمستقبل العلاقات بين الأقطار المغاربية و كذا توحيد السياسة الأمازيغية المغاربية الفتية. إلا أنه، مع ذلك، يجب الحرص على عدم التفاؤل أكثر من اللازم بهذا الصدد، لأنه لا تزال هناك أسباب تستطيع بما يكفي خلق احتكاك بين الأنظمة الجديدة والمؤسسات الأمازيغية على أساس طبيعة و مدى مرونة هذه المؤسسات و كذا امتداداتها الجيوسياسية.
التركيز على الطبيعة العلمانية للسياسة الأمازيغية
يواجه الأمازيغ في البلدان المغاربية حركات إسلامية أيديولوجية متطرفة مما أدى بهم إلى تشديد التأكيد على العلمانية وتقديمها كعلامة اجتماعية-سياسية تميزهم و تمكنهم من توظيف موضوعاتها في حسم الصراعات لصالحهم في مواجهة تلك الحركات. من بين تلك الموضوعات نجد: الدفاع على مبدأ المساواة بين الجنسين و حرية الإعتقاد و صياغة قانون أساسي للأحزاب الأمازيغية يخلو تماما من اي محتوى ديني، و جعل النقد المتواصل للإسلاموية جزءا أساسيا في السياسة الأمازيغية. هذا الموقف العلماني سوف يُكسب الأمازيغ المزيد من الدعم على الصعيدين الوطني و الدولي.
ثم إن الأمازيغ يرفعون شعار العلمانية أيضا لإضعاف تداول اللغة العربية التي يعتبرونها هي السبب في انهيار لغتهم و ثقافتهم. مساهمة الجمعيات الأمازيغية النشيطة بشأن العلمانية هي مساهمة ملفتة بحيث أعادوا اللغة العربية إلى مستواها العادي، أي التواصلي، عن طريق إزالة هالة القداسة عنها. أصبح إذن المدافعون على اللغة العربية في الدول المغاربية مجبرين على التخلي عن منطق التقديس كشرط لممارسة السياسة اللغوية و بالتالي الالتزام بالعلمانية.
كما يرفع الأمازيغ نفس الشعار، أي شعار العلمانية، من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية بحيث يعتبرون أنفسهم ضحايا الحيف الاجتماعي ليس بسبب الإسلام و انما بإسم الإسلام نتيجة اقدام دول ما بعد الاستقلال بدون ادنى تردد على جعل الإسلام مرادفا للغة العربية و بالتالي إهانة اللغة الأمازيغية و احتقار الشعب المتكلم بها و اعتباره من مخلفات ما قبل التاريخ لايستحق سوى تهميشه ثقافيا و اجتماعيا على الأقل. الهدف بهذا الخصوص هو تحقيق المساواة التامة بين الأمازيغ و العرب في تقاسم الثروة و الحقوق الإجتماعية.
و أخيرا ينادي الأمازيغ بالعلمانية لتحجيم مكانة الشريعة كمصدر للقانون الوضعي و تبدليه بالعُرف الأمازيغي "إزرف" . ذلك أن توطيد ركائز العلمانية يصبح مهمة بسيطة من خلال العودة إلى القانون التقليدي العُرفي و تنفيذه بحذافيره بين الشعوب الأمازيغية ليس فقط كما كان عليه الأمر قبل وصول اللغات الفرنسية و الإيطالية و الإسبانية إلى المنطقة المغاربية، بل أيضا قبل وصول الإسلام إليها في القرن السابع الميلادي. هنا يمكن للمرء أن يميز بين وجهتي نظر مختلفة: وجهة نظر نشطاء أمازيغ يرفضون تماما الإسلام كمصدر للتشريع و يطالبون بالعودة إلى عصر ما قبل القرن السابع الميلادي، وآخرين يشددون على ضرورة العودة فقط إلى فترة ما قبل الاستعمار، وبالتالي الأخذ بعين الاعتبار الإندماج الذي حصل بين القانون العرفي الأمازيغي و الشريعة الإسلامية. لكن، رغم ذلك، تبقى الأسئلة التالية مطروحة: هل القانون العرفي الأمازيغي الموجود حاليا وصل إلى مستوى مناسب ليكون نقطة انطلاق للأجندة العلمانية؟ و هل يمكن اعتباره قادرا على ملئ كل الفراغ القانوني الذي سيحدثه التخلي عن الشريعة؟ هل يختلف جوهريا عن هذه الأخيرة ام أنه في معظمه مشابه لها؟ إذا كان الأمر كذلك فهل في مَتمِّ تنفيذ عملية العلمانية سيجد الأمازيغ أنفسهم يطبقون الشريعة تحت مسمى أخر ليس إلاّ؟
ثم يجب ألا ننسى أيضا لجوء بعض السياسيين الأمازيغ، في دوائرهم الانتخابية المحلية، إلى لغة الإسلام المعتدل لأنه أصبح يتحكم على نحو متزايد في الميولات السياسية للأفراد و الجماعات و ذلك بصفته قوة مُعبئة قوية في المنطقة. هؤلاء السياسيون يشعرون بالضغط و لا يمكنهم التغافل عن الإعتماد على الإسلام كما فهمه أسلافهم، "الإسلام الأمازيغي" كما يسميه بعض النشطاء، في مواجهة خصومهم، خصوصا القوميون العرب، الذين تحولوا إلى إسلاميين و استمالوا شريحة عريضة من الأمازيغ باستعمال ورقة الدين. و نتيجة لذلك، أصبحت المطالبة بإلقاء خطبة الجمعة باللغة الأمازيغية أمرا ملحا و ضاغطا، كما أن نشر ترجمة للقرآن إلى اللغة الأمازيغية نشط مزيدا من المطالب لأداء الصلوات الخمس بالقرآن "المُمَزّغ". بل هناك أيضا تزايد لوتيرة توظيف علماء دين و فقهاء أمازيغ في الخطب العامة لمناصرة السياسة الأمازيغية.
الأمن الاستراتيجي الأمازيغي
خلال سيطرة الجماعات الإرهابية (أنصار الدين و حركة التوحيد و الجهاد في غرب أفريقيا) على مناطق تعود إلى أمازيغ الطوارق في شمال مالي، أصيب جميع الملاحظين بخيبة الأمل لأن ذلك مؤشر قوي على ضعف قوات الحركة الوطنية لتحرير الازواد الأمازيغية و عدم قدرتها على الصمود في مواقعها العسكرية أمام مسلحي تلك الجماعات الإرهابية. كان ذلك بالفعل صدمة قوية شوهت تماما صورة قوات الأزواد التي كانت إلى ذلك الحين مبجلة ويُخشى منها، فتحولت إلى نمور من ورق و كذبت الكثير من التوقعات مما أسفر عن التدخل الفرنسي في المنطقة لإحتواء خطر الإرهاب. حاول المحللون المخضرمون في السياسة الأمازيغية تحديد أسباب تلك النكسة بغرض تهدئة الرأي العام الأمازيغي المغاربي، فذكروا عدة تفسيرات وعرضوا حلولا مختلفة بشأنها.
أولا، على الرغم من أن قوات حركة تحرير الأزواد تعاني من بعض الصعاب: الإفتقار للمعدات العسكرية المناسبة، والانضباط اللازم، والتحفيز و الطبيعة المجزأة للبنية القيادية حسب أسس قبلية و انقسام ولاءات أجزائها المكونة و غياب مخيال وطني، إلا أنها ما تزال قادرة على الهجوم المضاد و هي أسرع بكثير من الجيش المالي الذي دربته فرنسا. تبقى إذن هذه القوات الحليف المثالي ضد داعش: فهي متحفزة تماما و مجهزة على نحو لابأس به بفضل العتاد الذي جاءت به من الحرب على القذافي و لها وضع مثالي لملاحقة داعش على طول جبهة عريضة. هذا هو الوقت المناسب للبدء في الدعم الممنهج لهذه القوات بكافة الوسائل بما فيها الدعم العملياتي و الاستخباراتي و اللوجستيكي و بتجهيزات الرصد و الهجوم الجوي و كذا تكثيف تعاونها الأمني على نطاق واسع خاصة مع الولايات المتحدة.
ثانيا، ينبغي مواصلة جهود بناء الأمن الإستراتيجي الأمازيغي حتى ما بعد الحرب الحالية ضد داعش لتشمل جوانب أخرى أكثر من تلك المتعلقة بتقديم الأسلحة و التأطير، أي المساندة على المدى الطويل للجهود الرامية إلى إضفاء الطابع الاحترافي على قوات الأزواد و ذلك بإنشاء لجنة للإشراف على انتقال قوات الأزواد من الميليشيات القبلية إلى جيش وطني و اتخاد خطوات من أجل توحيد هيكل قيادتها ثم نزع اعتراف دولي نسبي للحصول على الأسلحة الثقيلة والتدريب العسكري. كل ذلك سيضمن بناء ما يمكن ان نسميه مستقبلا "القوات الأمازيغية المغاربية المشتركة" و سيقلل من خطر الانشقاقات في صفوفها على أسس حزبية. لهذا يجب على الولايات المتحدة ان تبادر بتوفير التدريب و السلاح و كذا المشورة السياسية لضمان التوظيف الفعال لهذه القوات من أجل السلام و الأمن الدائمين في المنطقة المغاربية و أيضا في منطقة الساحل برمتها.
هذه الخطوات، إذا ما نُفذت بنجاح، فإنها سوف تساعد على تحويل قوات حركة تحرير الأزواد من كونها مجرد ميليشيات قبلية بولاءات ضيقة و مقسمة إلى جيش وطني كامل الأوصاف، وستكون المعارك بين قوات الأزواد و الجماعات الإرهابية مفيدة جدا لعملية إحياء وبناء الأمة الأمازيغية المغاربية الموحدة.
خلاصة
نرى أنه قد انبثق عن مختلف تجارب الحركات الأمازيغية المغاربية، بما فيها تجربة حركة تحرير الأزواد، وعي جديد بالقضية الأمازيغية في شمال أفريقيا. من المرجح أن يساهم هذا الوعي الجديد في ترسيخ التطلعات الوطنية للأمازيغ و دعم سياستهم على المدى المتوسط والطويل. لكن ينبغي للمرء ألا يكون مفرطا في التفاؤل بهذا الخصوص لأن عملية بناء الأمة الأمازيغية تخترقها أيضا عناصر أمازيغية مرتزقة تعمل لحساب الأنظمة و تنذر بخطر الاقتتال السياسي الأمازيغي في المنطقة المغاربية برمتها. و سبق ان تم اكتشاف أن ايادي خفية قامت بزراعة بذور الفتنة بين المنظمات الأمازيغية المختلفة في المحيط الإقليمي.
إذا تحقق هذا السيناريو فسيكون شؤما للأمازيغ. لذلك، يجب بدل كل الجهود لتقويض التطورات السلبية و فسح المجال لكي تتفوق التطورات الإيجابية و في مقدمتها تلك التي تبشر بالدعم الدولي للمعركة المقبلة بين الأزواد من جهة و القاعدة و داعش من جهة أخرى. إن السياق الإقليمي والرؤية المستقبلية، أو عدمها، للقادة الأمازيغ هو ما سيقرر نوع سيناريو التطورات، الإيجابية أو السلبية، الذي سيطغى على السياسة الأمازيغية المغاربية على المدى الطويل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.