عاشت تونس ثورتها المظفرة، وتعيش مصر أيام انتصار الشعب على جلاديه المنعمين، من هذين المشهدين العظيمين المليئين بالدلالات والمعاني الكبيرة، التي من المؤكد أن العلماء في كل الجامعات و المفكرين في كل معاهد البحث العالمية، سيقفون طويلا أمامها قراءة وفهما ثم محاولات شرح وتفسير. استوقفني من الدروس الكثيرة التي صنعها الأحرار، درس مرتبط بمنسوب التسامح الديني في البلدين ومدى تأثره بالثورتين، خصوصا مع تركيز بنعلي في كل خرجاته الإعلامية واتصالاته بالعالم، على الخطر الأصولي والحضور الإرهابي في انتفاضة الكرامة التونسية، و نفس الكلام ظل يقصف به مبارك وسحرته الإعلاميون عقولنا تجاه ثورة شباب مصر، إذ لازال يحرص وزبانيته على التخويف من الفوضى والإخوان المسلمين. سنركز في رصدنا هذا على مصر لكونها الدولة المركزية في العالم العربي، ومن جهة ثانية لكونها تعيش مخاضا عنيفا يصعب التكهن بزمن نهايته من خلال المتوفر من معطيات، وثالثا وهو الأهم الحضور التاريخي والكبير لطائفة الأقباط في المجتمع المصري، الذين يشكلون أكثر من 10 بالمائة على الأقل من مجموع المواطنين أي أكثر من 9 مليون مواطن من بين 85 مليون مصري. لن أضيف جديدا لمَّا أقول إن العالم بأسره يتابع وباهتمام بالغ ثورة الشباب في مصر، وَجَدْتُنِي من منطلق الاهتمام هذا، مدفوعا إلى رصد الأفعال الموسومة "إرهابا"، وإمكان وقوعها من بعض الموصوفين ب"الإرهابيين" خلال هذه الأحداث، خصوصا وأن مصر عاشت في ليلة رأس السنة الميلادية تفجيرا استهدف كنيسة القديسين بالإسكندرية، أفضى إلى أزيد من 22 قتيلا وأكثر من 79 جريحا في حصيلة أولية، ولأن النظام المصري أفلح في تقسيم المجتمع المصري طائفيا، فقد شملت الاحتجاجات أماكن تواجد مسيحيي مصر في الداخل والخارج، وبلغ الأمر مداه عندما هاجم غاضبون شيخ الأزهر ووزير الأوقاف المصري عند خروجهما من إحدى كنائس منطقة العباسية بالقاهرة إثر قيامهما بواجب العزاء في ضحايا الكنيسة القبطية من جهة وإخماد نار الفتنة الطائفية. انطلقت ثورة الشباب في الخامس والعشرين من يناير الماضي، ولأن نظام مبارك يملك جيشا أمنيا جرارا، توقع الجميع سرعة انتهاء هذه الهبة الغاضبة، غير أن بركات تونس دفعت بتصعيد الاحتجاج، وهو الشيء الذي تجسد في الحضور الكبير في المظاهرات، وفي يوم شاء مبارك ونظامه أن يكون يوما للاحتفاء والاحتفال بجهازه القمعي 25 يناير يوافق عيد الشرطة في مصر وشاءت إرادة الشباب أن يكون يوم رفض وغضب لممارسات هذا الجهاز، انفجر يوم الغضب بعد أن قام كل طرف بواجبه المتظاهرون بالوقفات والبوليس بالقمع والقتل والاعتقال. وانطلقت أحداث الثورة المباركة مخرجة إلى الوجود أجمل ما يختزله الشعب المصري، ب 150 فردا تجمعوا في منطقة "بُولاقْ الدَّكْرُورْ" بالجيزة في محافظة القاهرة الكبرى، مقابل إخراج نظام القمع البوليسي ونموذجه الفرعوني الجديد كل أسلحته في مواجهة مختلة على صعيد ميزان القوى، أنتجت فيها قوات مبارك كل قواميس القتل والفتك والاختطاف والإخفاء القسري لأبناء الشعب، وبعد أن بلغت الأحداث ذروتها في جمعة الغضب اختفى بوليس مبارك، وأصبح أثرا بعد عين، وتبخر أكثر من مليون وأربع مائة ألف رجل أمن من مختلف الرتب والأجهزة. كان المفروض أن يقوم هذا الشعب الثائر، الذي صوره نظام مبارك وسوقه للخارج على أنه مجتمع محتقن طائفيا، ولولا وجود المؤسسة الأمنية المتضخمة لأفنى المسلمون فيه المسيحيين ولم يبقوا منهم أحدا، وهو أمر لم يتحقق، علما أن جيش مبارك الأمني يضم حراس الكنائس الذين يعتبرون موظفين أمنيين لدى الحكومة المصرية، وعقب تفجيرات رأس السنة الميلادية تم تشديد دوريات المراقبة على الكنائس وتجمعات الأقباط. كان المنطق يقتضي أن يهاجم المسلمون الإرهابيون كنائس النصارى لأنهم كفار، وبيوت النصارى لأنهم "كفرة ومحاربون" وبالتالي"يستحلون" دماءهم و"يسبون" نساءهم، و"يغنمون" أموالهم، ، كجزء من الجهاد الأكبر الذي أتقنت السينما صناعته، خصوصا مع حالة الفوضى الأمنية التي صنعها النظام وخلفها الانسحاب المريب لقوات الأمن من كل مدن وقرى مصر. باءت كل محاولاتي بالفشل في العثور على حادث ذي طبيعة طائفية، من خلال عمليات بحث مكثفة على شبكة "الإنترنت"، أو حتى تتبع أخبارها من قنوات الإعلام الرسمي، أو من خلال الاتصال بفاعلين سياسيين ومدنيين من داخل مصر، حيث لم أجد ولو حادثا واحدا مس أقباط مصر من الناس في أرواحهم وممتلكاتهم، نعم منذ أزيد من 15 يوما لم يهاجم لا مسكن ولا دار عبادة ولا محل تجاري، ولم يسجل ولا حادث واحد كانت خلفيته طائفية. وعاكس هذا الشعب العظيم كل الصور التي سوقها مبارك عنه، فقدم إبداعا يليق بثورة شعبية وطنية غير مستوردة، وشاهد العالم كله خطبة "جمعة الرحيل" التي ألقاها أحد الثوار، والتي أخرج فيها جمالا استثنائيا مرتبطا بقدرة الشباب على إبداع لوحات راقية من التسامح الحقيقي البعيد عن التصريحات المدفوعة الأجر ومن داخل الغرف المكيفة، لقد هزتني عبارة خطيب الثورة لما قال، "لقد تجلت فيكم أخلاق الإسلام كما تجلت فيكم أخلاق المسيح"، وأضاف عبارة أعظم لما قال " كنتم نعم التلاميذ لمحمد كما أنتم نعم التلاميذ لعيسى"، أكيد أن الأقباط ما كانوا يصلون معه الجمعة، لكنه يثبت مسألة اسمها وعي الشباب العربي، الذي على الشيوخ الانتباه إليها. "أحد الشهداء" كما سماه ثوار مصر، ابتدأ في الصباح بقداس للأقباط في قلب ميدان التحرير بالقاهرة، وحرص المسيحيون على التواجد بين المحتجين، بل ورفع بعضهم لافتة تقول "الأقباط يريدون إسقاط النظام"، كما تناقلت ذلك القنوات التلفزيونية العالمية، إذ كان اللافت هو حضور الأقباط ومن مختلف الفئات العمرية أيضا، فكان أن ظهر في التظاهرة المليونية شباب وفتيات ساروا بصلبانهم على صدورهم رافعين أعلام مصر، وقال أحد الشباب الأقباط، "هذه ثورة الشعب المصري، وليست ثورة المسلمين وحدهم"، وفي أبلغ مشهد من عظمة الثورة تواجد طبيبة قبطية التي انتقلت إلى مسجد داخل ميدان التحرير لتكون في استقبال الجرحى، ومنذ اليوم الأول للثورة، من فضلكم. ثورة الشباب الغاضب في مصر تعلمنا أن الاقتتال الطائفي لا محل له بين المسلمين والمسيحيين في بلد كمصر، وبين أناس تعايشوا أكثر من أربعة عشر قرنا على أرض الكنانة، وربما على المصريين أن يؤرخوا لتاريخهم في التسامح الديني بين مصر ما قبل الثورة ومصر ما بعد الثورة. لقد طرحت ثورة شباب مصر، سؤالا خطيرا علينا التفكير فيه بعمق وهو مرتبط بالإرهاب والقتل على خلفية طائفية، ففي ذروة الثورة/ الفوضى تقارب المسلمون والأقباط في مصر أكثر من أي وقت مضى، مما حتم طرح سؤال، هل بعد أحداث مصر سنستمر في تبرئة أنظمة الاستبداد من صناعة الإرهاب ؟