"خياري الفكري والسياسي ضد أسلمة الدولة و المجتمع، وسأصارع فكريا وسياسيا هذا المشروع ومن مختلف المواقع"! " من التيارات الظلامية تلك التي تقول إنها ستمارس الجهاد من الآن لأسلمة الدولة والمجتمع، وهناك من تقول إنها ستمارس الشريعة الإسلامية بعد الوصول إلى السلطة، أي أن الغاية واحدة. أنا لا أتحدث عن مبدأ المشاركة، بل عن النتيجة، والسياسة بالنتائج"!( جريدة "الحياة" عدد: 125). هذا بعض ما جاء في حوار مطول أجراه مدير الجريدة السيد محمد حفيظ مع السيد إلياس العماري أحد مؤسسي حزب الأصالة والمعاصرة. ولنا جملة ملاحظات على هذا الكلام الذي لو صدر عن سياسي أو مفكر عادي لكان في حدود مقبولة، لكن أن يصدر عن نافذ قريب من مراكز القرار العليا، فالأمر مختلف. سنحصر النقاش حول مشروع حزب العدالة والتنمية المغربي لأنه المعني في الحوار، فقد ذكره السيد العماري بالاسم سبع مرات، وذكر أمينه العام السيد عبد الإله بنكيران بالاسم 24 مرة! بل صرح بقوله: " لي شرف عظيم أن أشكل خطرا على مشروع العدالة والتنمية، فلا يمكن أن أسمح أن يكون بلدي ضد الديمقراطية وضد دولة الحق والقانون وضد المواثيق الدولية وضد الحداثة، حتى لو تعرضت للاغتيال "!! الملاحظة الأولى: السيد العماري لم يعطينا تعريفا لمدلول الأسلمة التي هو ضدها، ولا لمفهوم الشريعة الإسلامية التي تسعى التيارات الظلامية لفرضها على المجتمع، بينما هو يسعى لإنقاذه من تبعاتها. لكن انسجاما مع المقدمة السابقة، لنقل أن المعني بالأسلمة هو مشروع حزب العدالة والتنمية الذي يؤكد انطلاقه من المرجعية الإسلامية، فبالرجوع لأدبيات الحزب وتصريحات مسؤوليه نجد التأكيد على أن الدولة المغربية دولة إسلامية على رأسها أمير المؤمنين حامي حمى الملة والدين، ودستورها ينص على أن الإسلام هو دين الدولة الرسمي، والمجتمع مجتمع إسلامي بلا جدال، تتجلى إسلاميته في مساجده العامرة بحمد الله،ورفع الأذان خمس مرات في اليوم على عشرات الآلاف من المآذن( لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ارتداد إحدى قبائل العرب عن الإسلام بعث بسرية إليها ثم أمر قائدها ألا يغيروا عليهم حتى يتحسس وقت الصلاة فإن سمعوا الأذان رجعوا، أي أن الأذان دليل إسلامية الدولة)! وتتجلى إسلاميته في إقامة الأعياد الدينية، وآلاف المحاضرات وخطب الجمعة التي يحضرها أسبوعيا ملايين المغاربة رجالا ونساء شبابا وشيبا، وتتجلى إسلاميته أيضا في وفرة مجالسه العلمية التي تعمل على نشر التدين المعتدل الوسطي وإصدار الفتوى تحت إشراف مؤسسة الإمامة العظمى، كما تتجلى في انتشار المدارس العتيقة وشعب الدراسات الإسلامية التي تؤطر عشرات الآلاف من الطلبة وخريجي الجامعة كل سنة، وتتجلى في البرامج الدينية المكثفة ذات المستوى الرفيع التي تبرمجها كل من القناة السادسة وإذاعة محمد السادس،فضلا عن الدروس الحسنية التي يحضرها ثلة من كبار العلماء من الخارج والداخل في شهر رمضان كل سنة، ويشرف عليها جلالة الملك.وتتجلى إسلاميته في أحكام الزواج والطلاق والإرث ونظام الأسرة عموما المنبثق من القرآن والسنة واجتهادات الفقهاء. فإذا تجاوزنا النشاط الرسمي الذي تقوم بمعظمه وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، نجد مئات الجمعيات الإسلامية من المجتمع المدني التي تمارس نشاطها الدعوي والتثقيفي والاجتماعي بكل حرية(باستثناء ما حصل من إغلاق ل 70 من دور القرآن منذ سنتين بغير وجه حق)، فتنظم المحاضرات والندوات الفكرية والدروس الدينية لترسيخ مبادئ العقيدة والسلوك الحسن، وحملات ميدانية للتوعية بخطورة التدخين والمخدرات والخمر والدعارة والعري والفن الهابط والعلاقات الجنسية خارج مؤسسة الزواج ،والدعوة للعفة والستر والتخلق، كما تهتم باليتامى والفقراء والمرضى المعوزين وأطفال الشوارع المتخلى عنهم وذوو الإعاقات، خصوصا في الأعياد والمناسبات الدينية وعلى رأسها شهر رمضان حيث تنظيم الإفطارات الجماعية لعشرات الآلاف من الصائمين كل يوم، وتنظيم توزيع زكاة الفطر على المحتاجين قبل حلول العيد، كما أن بعض هذه الجمعيات تصدر مجلات و جرائد تهتم بالشأن الديني وقضايا الفكر المعاصر. فهذا الذي تقوم به المؤسسة الرسمية وجمعيات المجتمع المدني هو بالضبط ما يسميه الفقهاء الشريعة والمنهاج، فإذا كانت هناك بعض الحدود والأحكام المعطلة منذ دخول الاستعمار الغربي لبلاد المسلمين،أو انتشار بعض مظاهر الانحراف عن تعاليم الدين، فلا يعني ذلك خروج الدولة أو المجتمع عن منهج الإسلام . الملاحظة الثانية: إن هذه الآلة الضخمة التي تشتغل دون كلل أو ملل هي التي تحفظ للمسلم شخصيته من الذوبان في عصر العولمة والأمركة، وفي عصر سقوط الحواجز الإعلامية، والانفتاح على الثقافات الأخرى عبر بوابة الإنترنيت ووسائل الاتصال المتاحة...وهي الآلة التي لا يمكن لحزب أو جماعة مهما بلغ حجمهما أن يقدما نفسيها بديلا لها في التأطير الديني للمجتمع. وقد عمل أتاتورك/تركيا وبورقيبة/تونس تحت عنوان "الحداثة" على سلخ المجتمع من هويته الدينية، لكنهما اصطدما بواقع تجدر الفكرة الإسلامية في تلك المجتمعات، لأن الإسلام يملك آليات الاستمرار الذاتي، كتنظيم صلاة الجماعة خمس مرات في اليوم، وبرمجة اللقاء الأسبوعي لسماع خطبة الجمعة، وحضور الملايين المؤتمر السنوي الذي ينعقد بمكة تحت مسمى الحج، وحضور المؤتمرات المحلية التي تنعقد مرتين في السنة بمناسبة صلاة العيد، ونظام التكافل الاجتماعي الذي تحققه الزكاة والوقف وصيام رمضان وتحريم الربا،ونظام البيعة الذي يحدد مسؤوليات الراعي والرعية، وآلية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونظام الحسبة، وفريضة الجهاد لرد أي عدوان خارجي...إلخ الملاحظة الثالثة: إن حزب العدالة والتنمية حزب سياسي مرجعيته إسلامية لا يحتكر الحديث باسم الإسلام، له برنامج للتنمية ينسجم مع مرجعيته، يطرحه للتباري على ساحة النضال السياسي مع باقي الفرقاء،يؤمن بأن الديمقراطية والتداول السلمي على السلطة هو الكفيل باستمرار السلم الاجتماعي وتحقيق الأمن السياسي، بعيدا عن المغامرات والاغتيالات التي يتحدث عنها السيد إلياس العماري، كما يؤمن أن هناك أحزاب ذات مرجعية ليبرالية وأخرى ذات مرجعية اشتراكية أو ماركسية، ولا أحد يزعم أن هذا الحزب أو ذاك يحتكر المنهج الليبرالي أو المنهج الاشتراكي دون غيره من الأحزاب الأخرى، وإنما هي اجتهادات بشرية قابلة للأخذ والرد، والحكم الفصل فيها هو اختيار الشعب. الملاحظة الرابعة: إننا بحاجة اليوم لقراءة متأنية للزلزال التونسي والمصري، وأخذ العبرة مما حدث بهذين البلدين الشقيقين اللذين رفع النظام الشمولي بكل واحد منهما فزاعة "الإسلاميين" لاستمالة الموقف الإسرائيلي وبالتالي الموقف الغربي ليغض الطرف عن المذابح والجرائم التي اقترفها في حق شريحة واسعة من شعبه باسم مكافحة التطرف والإرهاب! فلما جاءت ساعة الحساب نفض يده من هذه الأنظمة الفاشلة الفاسدة، وسيجرها للمحاكم الدولية!! وحدها الدولة العبرية التي بكت محاصرة " حسني باراك" في قصره،وحذرت أمريكا والدول الأوروبية من "خميني" آخر على أبوابها! على حزب "الأصالة والمعاصرة" أن يقرأ تجارب الحزب الواحد وما أنتجته من دمار في البلدان التي حكمتها، بداية من تجربة الحزب الشيوعي بالاتحاد السوفياتي البائد، مرورا بتجربة طالبان بأفغانستان إلى تجربة حزب الاستئصال بتونس وحزب التطبيع بمصر. ها قد عاد الشيخ راشد الغنوشي مؤسس حزب النهضة التونسي بعد 22 عاما طريدا في المنفى، عاد إلى بلده ليعيد بناء حزبه المنحل ويشارك في الانتخابات المقبلة، في حين فرّ غريمه بنعلي ليعيش طريدا بين المنافي وملاحقة المحاكم الدولية ! وصدق الله إذ يقول : (وتلك الأيام نداولها بين الناس).