" وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله ، كتابا مؤجلا" صدق الله العظيم ( آل عمران / 145) كثيرا ما تغرينا الدنيا بمباهجها ولذائذها ، نستطعمها بالإقبال عليها والاستمتاع بأويقاتها ولحظاتها في ظل أسرتنا وذوينا ، أصدقائنا وخلاننا ، لكنها ماكرة بذكاء ، إذ تفاجئنا بما ينغص علينا سعادتنا وإن كانت نسبية ، ولعل أكثر المفاجآت خذلانا حين تأخذنا على حين غرة بمرض أو فقدان عزيز أو ما نعتقد بأنه يحرمنا من مركب حياة آمنة ، فلا نملك غير التبصر في واقعنا والإيمان بقضاء الله وقدره ، والإكثار من حمده وشكره على كل شيء، فالحياة لا تخلو من كدر ، والله سبحانه وتعالى أنعم علينا بنعمة النسيان ، لنتابع الخطى بهدوء واطمئنان . دعاني إلى هذه المقدمة ما عشته خلال أيام صعبة من مرارة وألم ، عندما تدهور الوضع الصحي لوالدتي فجأة ودون سابق إنذار ،ففقدت كل رغبة في الحياة ، وخلدت إلى صمت مطبق ، غير أنات موجعة من حين لآخر، تنصت إلى الذكر الحكيم وتسبح في عالم أخروي بعيدا عن أجواء من يحيط بها من الأبناء والأحفاد والأهل والأصدقاء ، رفضت ما قدمه لها الأطباء من أدوية وعلاجات ، ونصائح وتنبيهات ، أصرَّتْ على الخلود إلى الصمت ،ليلها كنهارها ، مسلحة بالإيمان في كل وقت بقضاء الله وقدره ، لسانها لا يفتر عن ذكر الله وحمده وشكره ، والصلاة على نبيه وآله وصحبه . أشعر بكثير من المرارة ، وأمي العزيزة الحاجة السعدية زنيبر تعاني من ألم الفراق بصمت وخشوع ، كيف لي ولشقيقاتي أن نخفف عنك أمي ، ما عجز الطب عنه ،وقد اجتمع حولك نخبة من الأطباء جَهِدُوا في التخفيف عنك ، فلم ينجح مسعاهم ، نجتمع حولك ليل نهار، وأنت في ضيافة الرحمن ، راضية بقدرك ، مستسلمة لقضاء الله ، وقد لفّ وجهك نور وبهاء ، لا نستطيع شيئا غير الدعاء لك بالمغفرة والرحمة ، كيف نوفِّيك حقك ، وقد حرصت على تربيتنا وتكويننا ، وعملت على تلبية رغباتنا وطلباتنا في كل وقت مهما كان تحقيق ذلك شاقا مضنيا ، لا شيء يصعب عليك تنفيذه ، تجهدين في إرضائنا بنات وأحفادا ، وتعملين على تخفيف الأعباء كلما احتجنا إلى مساعدتك وعونك ، لا تفارق البسمة محياك في مختلف مراحل حياتك ، وإن كان العياء قد حال بينك وبين خدماتك مؤخرا ، كان حديثك دائما بردا وسلاما ، توجيها ونصحا ،وتذكيرا بصالح الأعمال وترغيبا في التمسك بالأخلاق ، تسامحا وإخاء ، مودة ومحبة ،وتعاونا ورحمة ، ننصت إليك وكأنك في درس توجيهي كلما اجتمعنا حولك ، فلا نزداد إلا تقديرا لك لما وهبك الله من قدرة على التبليغ والإقناع بفصيح الكلم ورقيق العبارة ، حديثك باستمرار حديث مرب ناجح ، ومعلم ممارس ، فلا نملك غير الانحناء لك إجلالا وإكبارا وتقديرا واعتزازا، فحكمة الوالدين لا تعدلها إلا حكمة الخالق عزوجل وحكمة نبينا عليه الصلاة والسلام فيما يشكل علينا من قضايا وأحداث . كنت لنا أما مربية وصديقة وأستاذة ،سهرت على تربيتنا وتكويننا ومتابعة تعليمنا بطرق حديثة عصرية وكأنك متمرسة بالنظرية التربوية التي تدعو إلى التربية والتعليم عن طريق المرح ،لم نلحظ قط تذمرا أو شكوى من شغبنا أو ما نحدثه من فوضى في البيت ،بل نجدك تعالجين الأمور بهدوء وروية ، نلجأ إليك كلما ضاقت بنا السبل ، فتقبلين علينا بسعادة وانشراح ،متسائلة عما يشغل الفكر وما يقلق الخاطر ،فلا داعي للتشاؤم ولا للانزعاج ، تضربين الأمثال بما كنت تحفظينه من أذكار وأمثال وحكم ، كنا نعجب من ذاكرتك اللاقطة ومن محفوظك للتراث الشفوي في مختلف الموضوعات ، أنت من تنبهيننا باستمرار إلى ما للصبر من نتائج مرضية مهما كانت بطيئة ، وإلى الاتعاظ بحكم الأيام ، ومكر الزمان . مهما حاولتُ الحديث عنك أمي ، فلن أوفق في ذلك ؛ أمٍّ تنصح وتوجه كلما رأت على الملامح علامات الضعف والقنوط ، تذكر بوجوب التغلب على مشاكل الحياة وتحدّيها بالعمل الجاد وتجاوز المنغصات ، والحذر من مطبات الليالي والأيام ،فهي الأم المؤمنة الصبور ،الزاهدة في متع الدنيا ومباهجها، القوية الإرادة ، ذات الشخصية المتميزة ، السمحة الخلق ، الطيبة المعشر ،صاحبة الحضور اللامع في أسرتنا وفي مجتمعنا ،يسعى الجميع إلى زيارتها والاستمتاع بأحاديثها وجلساتها الممتعة المفيدة في هدوء ووقار . أماه في هدوئك ووقارك ما يغري بالاقتراب منك والإنصات إليك ، كيف لا نقبل عليك ، ولا ننصت إلى درر كلماتك البليغة جدا وهزلا ، أنت من تعهدنا في مراحل حياتنا بحنانك وخدماتك ، لا يشغلك غير إرضائنا وسعادتنا ، تؤكدين دائما على تجاوز الخلافات والتمسك بحبال المودة والإخاء ، فلا نجاح في الحياة دون تعاون وتآزر ، وتعاطف وتعاضد ، واتزان وتشاور ، كانت الحكمة في الأقوال والأفعال نهجك في الحياة ، فالمرء مخبوء تحت لسانه، هكذا تعبرين كلما كثر الجدال أو النقاش حولك ، يشاركنا في استشارتك أهلنا وأصدقاؤنا ،لما لآرائك من فعالية في تدبّر الأمور ونجاح المشاريع ،فلا تسرّع ولا تهوّر في الأزمات ، إذ تقتضي الحكمة معالجة ذلك بالتبصر والتدبر ، وفي ذلك خير للجميع. لم يشغلك غير تأمين حياة أسرتك الصغيرة ؛إرضاء زوجك وتلبية طلبات بناتك ،تضحين براحتك من أجل إسعاد الجميع ، وإن كان ذلك يتعبك ويضنيك ، ويسلبك الاستمتاع بأوقاتك والاستغراق في أعمالك الإبداعية : فقد كنت فنانة بالفطرة ،وعلى الرغم من أنه لم يسبق لك اتصال بفن الرسم على الورق والحرير ، فقد أبدعت رسوما ولوحات بديعة كانت تثير الإعجاب ، أكثر من ذلك ، نجحت في الإشراف على تكوين سيدات من الأسرة والصديقات وفي كيفية التعامل مع القلم والورقة ، كما تفننت في فن التطريز وأشغال الإبرة ، أناملك الذهبية كانت مبعث إعجاب كل من اقتربت منك من بنات الأسرة والحي ، فتبذلين جهدا مضاعفا للتفوق والنجاح ، وبذلك قدمت خدمات جلى لكثير من بنات جيلك وسعدت بذلك راضية بكلمة شكر رقيقة لا أكثر . كثيرة هي خصالك ومزاياك ،زوارك كثر ،يستشيرونك فيما يعرض لهم من المشاكل الأسرية وغيرها ، ويجدون في آرائك وتوجيهاتك بلسما وحلولا لما استشاروك فيه ، باقتراح حلول مرضية ومناسبة لما أشكل عليهم ،إسعاد الآخرين والتخفيف عنهم مصدر اعتزاز وفخر لنا ، إذ ندرك ما كنت تسعين إليه وهو النصح والتوجيه ، تؤكدين باستمرار مفاد الحديث النبوي " المسلم للمسلم كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا " ، " والله في عون العبد مادام العبد في عون أخيه " ، هكذا أنت أمي تدافعين عن القيم الخلقية الإسلامية وتعملين بها بحب وتقدير . أما الكلمة الطيبة فهي مهمازك في مسيرة حياتك مع الجميع ، فلا ترفضين لأحد طلبا ولا تبدين تأففا أو انزعاجا من أحد ، فيحمد الجميع أخلاقك في السر والعلن ، والحضور والغياب . من لنا اليوم بأم تنصحنا وتنجح في امتصاص كل احتقان يقع بيننا وفي تقليص المسافات وإعادة المياه إلى مجاريها كما يقع بين أفراد كل أسرة ، تؤكدين أن لين الكلام يصرف الغضب والتأني في كل شيء يبعد عن الندامة، وسلامة الإنسان في حفظ اللسان ، لقد أديت الأمانة بنجاح واقتدار ،وعملت جهدك على إرساء دعائم أسرتك بما منحك الله من دماثة خلق وحسن تدبر للأمور وإحساس بالمسؤولية ،فيرتاح ضميرك وتشرق أساريرك ،وتلهجين دائما بحمد الله وشكره في كل الأوقات، والدعاء بحسن الختام . أيام عصيبة عشناها وأنت تعانين من سكرات الموت ، لا نستطيع شيئا أمام قدرة الخالق عزوجل ، كما لم يستطع دواء الأطباء شيئا في إنعاشك ،ليلُك كنهارك ونحن إلى جانبك لا يغمض لنا جفن ، ندعو الله تعالى أن يخفف عنك ما تشعرين به من آلام وأنت تستعدين لمغادرة هذه الدنيا الفانية وتسبحين في عالم أخروي ، إلى أن اختارك الله إلى جواره ، فلا مرد لقضاء الله ولا معقب لحكمه . ندعو الله تعالى أن يرحمك ويجزل لك الثواب ، ويتقبلك بقبول حسن ،ويوسع لك في قبرك ،ويحشرك مع النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ، ولا حول ولا قوة إلا بالله . توفيت والدتي رحمها الله ليلة الجمعة 19 ذي القعدة 1436ه / 4 شتنبر2015م ،وشيعت جنازتها ظهر يوم السبت ليوارى جثمانها الطاهر بمقبرة سيدي عبد الله بن حسون بسلا .