تأخرت كثيرا في الكتابة عنك يا والدي العزيز فليكن تجاوزك عن عتابي على ذلك فرصة للحديث عنك، بعد سنوات مضت على رحيلك في فترة كنا في أمس الحاجة إليك، وإلى نصائحك وتوجيهاتك وإلى الإنصات إليك بما عُهد فيك من رقة طبع، وحسن خلق، وكما قال الرصافي: هي الأخلاق تنبت كالنبات إذا سقيت بماء المكرمات. تحضرني كلماتك الناصعة ودررك المشرقة صباح مساء، لم يشغلك غير تربيتنا نحن بناتك على الصدق والوفاء والتجاوز عن أخطاء الآخرين، كان صوتك نديا رطبا في حديثك، يهز مشاعرنا ويضبط تصرفاتنا برفق وحب، يشجع على الجد والمثابرة، ويستثير الذاكرة للاستنارة بحكم الأيام وحوادث الزمان، جبلت على روح التسامح والمحبة، وعلى المعاملة الطيبة، وعلى تقديم الخدمات لمن التجأ إليك، فلم تبخل على أي كان بمساعدة أو مشورة، فأنت ممن يصدق عليه الحديث النبوي: "أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم أو تكشف عنه كربة"، يذكرك الجميع، أسرتك الصغيرة والكبيرة، أصدقاؤك، معارفك، سكان الحي.. كم أسعد بما أسمع عنك من ثناء وتقدير ممن أعرف ومن لا أعرف، تحضر شخصيتك باستمرار في كل لقاء علمي أو أسري أو اجتماعي، مواقفك الإنسانية خدمة للآخرين بوأتك مكانة متميزة في أسرتك وبلدتك، فأحبك الناس وتحدثوا عنك من خلال أخلاقك وسموها، وصفاء سريرتك وضيائها، بشاشة وجه وتودد إلى الناس مما كنا نعرفه أو نجهله، فالوفاء لك دَيْدَنُ الجميع، والتذكير بخصالك الخلقية وشيمك النبيلة عنوان بهاء سيرتك وخلودك. ورغم الأجيال المتعاقبة في الحي الذي ما نزال نتردد عليه، حيث تقيم والدتي حفظها الله ببيتنا الأسري، وإصرارها على ذلك، فإن الترحم عليك والثناء على أخلاقك ممّا يثلج الصدر ويطمئن النفس بأن الوفاء لم تخبُ جمرته في بلادنا والحمد لله. ففي هذا البيت الأسري عاشت أمي حياة مطمئنة هادئة كما تذكر مع زوج أخلص لها وأخلصت له سنوات إلى أن فرّق بينهما الموت. تؤكد أمي في كل وقت أن كل ركن في هذا البيت ينعشها ويبعث فيها حيوية ونشاطا لتعيش ذكريات أيام سعيدة مع رفيق دربها، وكثيرا ما كنت وشقيقاتي نستفز ذاكرتها لتحدثنا عن هذا العشق والحب الذي جمع بينهما في ظلال بيت آمن هادئ، فتشعر بالانتشاء والسعادة وهي تحاول استعادة الأيام الجميلة والسنين الدافئة التي عاشتها في رحاب هذا البيت؛ لا تنفك، أبي، تذكرك في كل وقت، وتستعيد اللحظات الدافئة والأويقات الذهبية، شبابكما وكيف نجحتما في بناء عش الزوجية، وكيف كان شغب البنات يملأ الأرجاء، تبذل الجهد المضاعف لإسعادها، كيف لا تذكرك وهي الزوجة المخلصة الوفية، الصادقة المؤمنة؟. أبي العزيز...لا شك أن الحديث عنك كلما حلت ذكرى وفاتك يبعث فينا إحساسا بالمرارة والافتخار بك في نفس الآن، ففقدك ترك شرخا كبيرا في حياتنا إذ كنت أبا سموحا، وصديقا وفيا، ومربيا حازما، لا يعترض نهجك ولا مواقفك السليمة أحد، فالرأي الصواب ما تقترحه وتراه، والعمل الهادف ما تلح عليه وتقصده، بفكرك النير وآرائك الصائبة في حالة الافتخار، ويتما لأننا نشعر بالغربة في مجلسنا وافتقاد نكهة حديثك الماتع معنا، إن جداً وإن هزلاً. كثيرا ما كانت نقاشاتك معنا تهدف إلى ترسيخ روح الإخاء والتعاون بيننا وبين من يحيط بنا، أهلا كانوا أو غيرهم من أبناء الحي أو البلدة، تضرب الأمثال لتوضيح المعاني انطلاقا من القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، أو بما تحفظه من الأشعار العربية في الموضوع، كنت تفاجئنا بهذا المحفوظ الشعري الغني، فأنت قارئ نهم لدواوين شعراء أحببتهم وحفظت أشعارهم وفي مقدمتهم زهير بن أبي سلمى والمتنبي، بل أكثر من ذلك كنت تسجل في جذاذات ما يعجبك من هذه الأشعار مؤكدا ما للقراءة من فوائد في تربية الذوق والسمو به، ومن دور في التوعية والتوجيه، ففي حكم زهير والمتنبي وغيرهما ما يشجع على الاستنارة بها في كل وقت؛ تستثير ذاكرتي من حين لآخر بمحفوظك الشعري امتحانا وتوجيها في نفس الآن، أو رغبة في استيضاح ما كان يشكل عليك بكثير من الدقة وحسن السؤال، وهو ما كان يشدني باستمرار لمناقشتك، إذ تعلمت منك ما عليَّ أن أدركه بلطف ومرونة ساعة الطلب مع أساتذتي وأصدقائي، كنت تمزج تزويدنا جميعا بالمعلومة أو النصيحة بطرائق متعددة، مع ما يتخلل ذلك من روح الفكاهة والنكتة والطرفة، علمتنا بأن الحياة معركة، ساحتها مليئة بالألغام، وما علينا إلا التسلح بما يساعد على اكتسابها بالحيلة تارة وبالوسائل النافذة والأخلاق تارة أخرى، وعلينا النجاح في التعامل مع الأحداث كيفما كانت، باللين والحزم وحسن التصرف، وصدق المعاملة، وسمو الأخلاق، وبذلك يتحقق اكتساب معركة الحياة بنجاح وشموخ. ومما نقلته من بعض جذاذاتك قول ابن دريد في مقصورته: وإنما المرء حديث بعده فكن حديثا حسنا لمن وعى أما المتنبي الذي كان أثيرا لديك، فسجلت مجموعة من حكمه في جذاذاتك، ألتقط بعضها كقوله: وكل امرئ يولي الجميل محبب وكل مكان ينبت العز طيب أو قوله: وما انتفاع أخي الدنيا بناظره إذا استوت عنده الأنوار والظلم كنت دائما تستشهد بما جاء في كتاب الرافعي "من وحي القلم" من تنبيهات إلى حقيقة الموت والحياة.. "فالغائب لا يتغير عليه الزمان ولا المكان في القلب الذي يحبه مهما تراخت به الأيام، وهذه هي بقية الروح إذا امتزجت بالحب في روح أخرى: تترك فيها ما لا يمحى لأنها خالدة لا تمحى"، مقولة للرافعي سجلتها في إحدى وريقاتك، وقد كانت عالقة بذهنك كلما أثير الحديث عن الموت الذي ينتظرنا، وما علينا فعله في الحياة ليثمر عند الممات، أما المتنبي فقد قال: وقد فارق الناس الأحبة قبلنا وأعيا دواء الموت كل طبيب أتساءل الآن، وبعد هذه السنين التي غيبتك يا والدي العزيز، عن سرّ شموخك وسط أهلك وأصدقائك؟ وأجد الجواب واضحا وأنا أستعرض كلماتك النيرة وارتقاء فكرك بالتفكير باستمرار في ماهية الحياة وكنهها، فهي دار جد وعمل، ودار عبور لا أكثر، فلِمَ التمسك بقشورها ومتناقضاتها ؟ ولِمَ التَّهمم بمفاتنها ومباهجها ؟ ولعل الجواب يكمن في أخلاقك الإسلامية، فقد كنت مدرسة رصينة في التربية والتكوين، على الرغم من أنك لم تمارس فن التربية والتعليم في أي فترة من حياتك، كنت رجل تجارة وعمل حر، لكن بطريقتك الخاصة، تكتفي بما يسد النفقات، ويغطي الحاجيات، كنت قنوعا بما تدرّه عليك معاملاتك التجارية، تكتفي بالمكاسب الشرعية، كنت أمينا صادقا، سمحا في معاملاتك مع الجميع، تعمل بما نصّ عليه الحديث النبوي الشريف: "رحم الله رجلا سمحا إذا باع وإذا اشترى، وإذا اقتضى"، لا ترتضي غير الكسب الحلال وأنت سعيد بذلك، عملا بالآية القرآنية: "رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار"، (النور/ 37)، تعمل دائما بما ألحّ عليه الرسول عليه السلام :"إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا"..هكذا كنت طيبا لا تعمل إلا طيبا بما يرضي الله ورسوله في سلوكك ومعاملاتك..كنت نموذجا للتاجر المثالي الصدوق في كل وقت بشهادة العديد من زبنائك ومن أصدقائك التجار، لذلك لم تشغلك الدنيا طول حياتك، وإنما شغلك إرضاء ضميرك وراحة بالك، فحظيت بثناء الناس عليك في حياتك وبعد وفاتك، ومما كنت تحفظه للمتنبي قوله: ومن ينفق الساعات في جمع ماله مخافة فقر فالذي فعل الفقر أبي العزيز... لا يمكن أن يمَّر يوم أو لحظة دون أن ذكر ما لك من أفضال علينا وعلى تكويننا، لم تكن فظا غليظ القلب، بل كنت لينا عطوفا وصارما قويا في نفس الآن، لا تبخل بتوجيه أو نصح، كنت مستعدا دائما لتلبية رغباتنا وطلباتنا وإن كان توفيرها متعذرا، فأجدك تتغلب على كل المعيقات لإرضائنا، شرطك الوحيد أن نجد ونجتهد ونحصل على النتائج المرضية في مدارسنا، رفضت بكل إصرار التحاقنا بالمدارس الحكومية التي أنشأتها الحماية الفرنسية بدون مقابل، وأدخلتنا المدرسة الوطنية التي تبناها الوطنيون بأداء الواجب الشهري كما كان معمولا به في أواسط الخمسينيات وبداية الستينيات، وكنت سعيدا بذلك، وإن كان ما يكلفه التعليم الحر من نفقات مادية بالنسبة لتلك الفترة كبيرا، ولا أقول التعليم الخاص الذي يستنزف جيوب الآباء والأمهات اليوم؛ فالفرق كبير وشاسع بين التعليمين، ولا مجال للمقارنة بينهما.. فالمدرسة الوطنية الحرة كانت منجما لتكوين البنين والبنات تكوينا جيدا بناء على روح وطنية وعلى مناهج تعليمية قويمة وبناءة. كلماتك توقظ في نفوسنا الإحساس بالمسؤولية وأداء الواجب وخدمة الصالح العام، وفاء للقيم الخلقية السامية، وامتثالا لأوامر ديننا الحنيف، وعملا بسنة نبينا عليه الصلاة والسلام، فما أحوجنا اليوم إلى شباب يتلمس الإحساس بروح المسؤولية وأداء الواجب بحب ونشاط، شباب قوي ومسؤول، معتز بهويته ووطنيته، عامل على الارتقاء بوطنه وخدمته بعيدا عن العصبية والتفاخر؛ وفي ذلك تحصين لثوابتنا الدينية والوطنية وغير ذلك في زمن صعب تتقاذفه رياح الفوضى والتنابز والتناحر. في ذكراك، يا أبي، بل في كل يوم، نشعر بمرارة الفقدان وبما تركته من غصة نتجرعها إثر ذلك، لكن الإيمان بالقضاء والقدر يبحر بنا دوما إلى الترحم عليك، وإلى التشبث بوصاياك والتمسّك بالقيم الخلقية والسير بخطوات هادئة لحياة هنيَّة، والعمل على احترام الآخر وإسعاده، والابتعاد عما يعكر الصفو بالعمل الجاد لإرضاء الضمير والقيام بالواجب. كثيرة هي مزاياك وخصالك الخلقية، تحدث عنها الأقرباء والبعداء وغيرهم، فعرفنا عنك ما لم تحدثنا عنه في حياتك، وانبهرنا بما كان لك من الذكر الطيب عند فئات اجتماعية مختلفة، فعددوا مناقبك واعتزوا بك أخا صادقا وصديقا وفيا في كل الأحوال والحالات، وليس لي غير الترحم عليك وأن يجزل الله لك الثواب ويتغمدك بواسع رحمته عند مليك مقتدر، وأن يديم على أمي رداء الصحة والعافية، وأن ينفعنا بما تركت لنا من وصايا وحكم لا تبلى عبر الزمان والمكان، وأن يوفقنا لصالح الأعمال لما فيه الخير لأسرتنا ولوطننا خدمة للصالح العام. توفي والدي رحمه الله يوم الإثنين 16 ربيع الثاني 1419ه / 10 غشت 1998، ودفن جثمانه بمقبرة سيدي عبد الله بن حسون بسلا.