خلال الأشهر الأخيرة عرفت الساحة الحزبية في المغرب مخاضا عسيرا، لكنه مخاض بصيغة الماضي المبني للمجهول، حيث استعادت كثير من مصطلحات القاموس القديم راهنيتها، وأصبحنا فعلا نسترجع أجواء الستينيات والسبعينيات والثمانينيات..وإن باختلافات يفرضها واقع المغرب الجديد. العنوان الرئيسي لما جرى طيلة الأشهر الماضية لا يمكن وصفه بأنه ردة إلى الوراء، حتى لا نكون سوداويين ومتشائمين، لكن بالمقابل لا مناص من اعتباره انتكاسة غير مفهومة وغير مبررة، خاصة وأن مغرب اليوم لا يعاني من صراع حول الشرعية، بل إن الخيارات الكبرى والأساسية حسمت بشكل نهائي، وأصبحت كل المعارضات من داخل النظام لا من خارجه، أي أن حتى أشد المعارضين اليوم لا يطالبون بإسقاط النظام، ولا يقدمون أنفسهم كبديل له ولا كنقيض لا يمكن أن يتعايش في ظل "العقد الاجتماعي" المعمول به رغم كل علاته ونقائصه. فكما كان الشعار المرفوع في زمن مضى هو أن "المغرب لا يمكن أن يتسع للجميع"، نعيش اليوم نفس الأجواء تقريباً وأن تغيرت الصياغة بشكل طفيف.. فالعبرة بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني كما تقول القاعدة القانونية. ورغم أن هذا الكلام لا ينبغي أن يسقطنا في العدمية وإلغاء كل ما تحقق من خطوات إيجابية، إلا أن الوضع الراهن يتطلب وقفة للتساؤل والاستفهام عن الوجهة التي سيأخذها الصراع السياسي مستقبلا في المغرب. لكن قبل الشروع في مناقشة صلب الموضوع لابد من تأكيد بعض الحقائق: - لقد كانت تجربة التناوب التوافقي أكثر من مجرد "اتفاقية سلام" بين القصر والأحزاب الوطنية، بعد أربعة عقود من المواجهة التي استعملت فيها كافة الأسلحة، بل هي في الواقع اكتشاف تأخر طويلا جداً، بعدما اتضح أن المغرب ضيع كثيرا من الوقت في صراع مجاني كان بالإمكان تجنبه لو جلس كل الفرقاء إلى طاولة حوار و"امسكوا العصا من الوسط" وتنازل كل طرف عن جزء من "مسلماته"... - إن الصراع بين القصر وجزء من الطبقة السياسية التي كانت تعتبر نفسها شريكة في الشرعية التاريخية والوطنية، لم يكن محركه فقط الطموحات الشخصية لحركة تحررية يافعة في زمن الانقلابات والثورات، ولا أيادي خارجية في زمن الحرب الباردة والتقاطبات الإقليمية الحادة بين شعارات "الرجعية والتقدمية"، وإنما كان أيضا بفعل تدخلات جهات في محيط القرار كانت ترى في توافق القصر مع الحركة الوطنية تهديدا لمصالحها ومواقعها ولذلك عملت ما في وسعها لزرع الشكوك بين الطرفين ووسعت مساحة المواجهة التي انتهت إلى تحويل الصراع إلى مسألة وجود أنتجت تازممارت وما جاورها كما أنتجت أحداث مولاي بوعزة وما شابهها.. - إن ما حدث في تونس مؤخراً، رغم كل ما يقال عن استحالة كل المقارنات في هذا المجال، أسقط جميع النظريات وكل المعايير الجاهزة، وهو أمر لا نحتاج إلى محاضرة للبرهنة عليه، مادام العالم أجمع فوجئ بما حدث، من باريس إلى واشنطن، بل حتى إسرائيل التي تتابع أدق التفاصيل في محيطها لم تملك سوى التحسر على سقوط حليفها.. وإن كان من درس يجب أن يستفاد من ثورة "الياسمين"، فهو أنه إذا كان المجتمع التونسي قد أعلن أنه ليس بالخبز وحده يعيش الإنسان، بل لابد من قليل من الحرية وهامش من المشاركة السياسية، فماذا نقول حين ينعدم الخبز والحرية معا؟ - يعيش المغرب مواجهة مصيرية على مستوى وحدته الترابية، وسيكون من الوهم الرهان على "الشرعية" الدولية، والمنتظم الأممي، والقانون الدولي، وحقائق التاريخ ومعطيات الجغرافيا، فنحن نعلم علم اليقين أن ما يحكم العلاقات بين الدول هي المصالح..ولا شيء غيرها.. لا يملك المغرب بترولا ولا أية ثروة أخرى تمكنه من شراء ود الدول صانعة القرار لحماية مصالحه الاستراتيجية والحيوية..في عالم يأكل فيه القوي الضعيف، وقد فسر كثيرون صمت فرنسا على مجازر بنعلي في أيامه الأخيرة بقناعتها بكون البديل لن يكون إلا أمريكي الهوى، وهو ما بدأت ملامحه تتحدد في الأيام القليلة الماضية.. - السلاح الوحيد الذي يملكه المغرب للحفاظ على الحد الأدنى من مصالحه في ظل المتغيرات الدولية والإقليمية، وتحسباً للإكراهات التي يفرضها جوار الجزائر وإسبانيا، ليس هو الرهان على "الحماية" الفرنسية، بل يتمثل في عنصرين متكاملين، إن لم نقل إن أحدهما امتداد للآخر. أول هذين العنصرين يتمثل في تماسك الجبهة الداخلية. والمقصود هنا بالتماسك ليس الشعارات الحماسية التي تتردد في وسائل الإعلام العمومية أو في الخطب الحزبية بشكل مناسباتي، وإنما الإيمان الحقيقي والصادق بوحدة المصير. وإذا كان الإيمان يزيد وينقص كما في الحديث النبوي الشريف، فإن الوطنية أيضا تزيد وتنقص تبعا لمعدل الكرامة، والشعور بالانتماء للوطن يزيد وينقص تبعا لمعدل العدالة الاجتماعية والمشاركة الفعلية في الحياة السياسية. أما العنصر الثاني فيمكن استخلاصه من التجربتين البرازيلية والتركية التي أثبتت على مدى عقد من الزمن لحد الآن، أن الحكومات التي يكون لها امتداد شعبي وقاعدة جماهيرية حقيقية تستطيع، ليس فقط الصمود في مواجهة مختلف الضغوط، بل التحول إلى رقم أساسي في اللعبة الديبلوماسية إقليميا ودوليا، حتى لو كانت مصنفة ضمن دائرة الأصولية أو السيار الراديكالي.. فما تغير في تركيا مثلاً، بين الأمس واليوم هو فقط الحكومة المنتخبة بطريقة ديموقراطية، ومع ذلك أصبحت هذه الدولة حاضرة في كل القضايا من فلسطين إلى العراق ولبنان والسودان وإيران، بل هناك عمل جبار يتم في صمت في القارة الإفريقية ستكون له نتائج حاسمة في المستقبل القريب، فضلا عن التحالفات الاستراتيجية مع دول آسيوية وأخرى من أمريكا اللاتينية..علما أن تركيا هي الأخرى تتطلع لعضوية الاتحاد الأوروبي، وتعاني من مشاكل الانفصال، ومن عدم استقرار العلاقة مع الجيران.. من هذه التجربة يمكن للمغرب أن يستلهم أن انتخابات حرة ونزيهة، يتمخض عنها برلمان في مستوى المهام التشريعية، وحكومة قادرة على تنزيل برنامجها على الأرض، تمثل قوة دفع حقيقية في كافة المحافل الدولية بحيث لن يهتز البلد كورقة يابسة بسبب نكرة اسمها أميناتو حيدر ..فما دونها.. بعد هذا الاستهلال الضروري، يمكن أن نتطرق باختصار شديد لبيت القصيد، والذي ليس سوى ما يتعرض له حزب العدالة والتنمية منذ أسابيع من حملة لا يمكن أن يغيب على أي متابع أنها بمثابة "حرب استباقية" للانتخابات التشريعية القادمة. لن أخوض هنا مع الخائضين بشكل يفرض في النهاية اتخاذ موقف مع هذا ضد ذاك أو العكس، ولكنني أكتفي برؤوس أقلام من باب تقديم رؤية للمستقبل من خلال النقط التالية: - التيار الإسلامي (أو الأصولي إذا شئتم) أصبح مكونا حاضرا في الساحة السياسية ليس المغربية فقط، وإنما حتى في أوروبا التي لا يستبعد كثير من المحللين أن تشهد تأسيس أحزاب إسلامية بالنظر إلى الارتفاع المطرد لأعداد المسلمين بها، بل إن قوة المعارضة الرئيسية في جميع الدول العربية هي التيار الإسلامي من المعتدلين إلى أقصى المتطرفين كما أكدت ذلك كل الانتخابات التي تم إجراؤها حتى وإن كانت درجة شفافيتها صفرا مكعبا. - محاولة الإقصاء و"الاستئصال"، إضافة إلى فشلها في أكثر من مكان، قد تضع البلد أمام أكثر من خطر. فالضغط على حزب العدالة والتنمية قد يؤدي إلى تعاطف شعبي معه، يمكن أن تترجمه الاستحقاقات القادمة. ماذا لو حقق هذا الحزب اكتساحا من نوع ما في الانتخابات التشريعية؟ هل سيطالب البعض بحل البرلمان، وإلغاء النتائج؟ أم ستتم متابعة نواب الحزب أمام القضاء حتى بسبب مخالفة قانون السير؟ وماذا لو حصل مرشحو الحزب على الأغلبية المطلقة في الحواضر الكبرى وهو أمر في حكم المتوقع؟ هل سيصبح لهذه الجماعات وضع خاص، أم سيتم حل المجالس، أم سيتم تجميد كل شيء انتقاما من المواطنين الذين اختاروا من يدير شؤونهم؟ - في التجارب المصرية والتونسية والأردنية..والجزائرية، استطاع التيار الإسلامي تغطية كل المساحات التي فتحت أمام المعارضة، ما يعني أن المغرب لن يكون بعيدا عن هذا السيناريو، خاصة إذا فضل مهندسو المرحلة الاستمرار في التدخل المباشر للتحكم في الخريطة السياسية، وما قد ينتجه ذلك من تصويت "عقابي" أو "تضامني" مع هذا التيار، ما سيجعلنا أمام تكرار لتجربة الجبهة الإسلامية للإنقاذ التي لم تجد من يقف في طريقها عندما أعطيت الكلمة للجماهير. - من العلامات البارزة في "الثورة" التونسية، أن المواطنين طردوا وطاردوا مباشرة بعد فرار الرئيس "المخلوع" نوعين فقط من الموظفين المحليين : خطباء المساجد وولاة المحافظات، وهي خطوة تحمل كثيرا من المعاني التي لا حاجة لتفصيلها. والخلاصة، إننا أمام لحظة مفصلية من تاريخ المغرب المعاصر، ستحكم طريقة تدبيرها على مستقبل البلد :هل سيجتاز عقبة الديموقراطية ويلتحق ب"الفئة الناجية"؟ أم أنه سيبحث عن مكان إلى جوار أشقائه وشقيقاته المتمددين والمتمددات من الخليج إلى المحيط؟.. [email protected]