قال محمد كلاوي أستاذ العلوم السياسية بكلية الحقوق بالدارالبيضاء إن المعايير التي كانت تعتمد في التحليل السياسي خلال سنوات السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي لم تعد صالحة لتحليل المشهد السياسي الحالي، فإذا كان هذه المشهد في المرحلة السابقة معقلنا إلى حد ما، فإنه في الفترة الحالية اختلطت الأوراق، وبالتالي يتعين تغيير معايير التحليل السياسي. وأشار كلاوي في حوار ل «المساء» إلى أن مفهوم المناضل الحزبي الملتزم باعتباره مثقفا عضويا لم يكن له موقع في المشهد الحزبي الحالي، وأن فئة جديدة من المناضلين بدأت تبرز في هذا المشهد، مناضل يعتمد «العقلانية» والبرغماتية في الممارسة السياسية... - باعتباركم أستاذا للعلوم السياسية، كيف تقرؤون نتائج الانتخابات الأخيرة؟ < أظن أن هذه النتائج كانت عادية إلى حد ما، لأن الجديد أو من يبحث عن الجديد ربما لا يفهم أن المعايير المعتمدة في التحليل السياسي قد تغيرت وأننا الآن لم نعد في مرحلة السبعينيات والثمانينيات، التي كانت فيها الحالة السياسية معقلنة إلى حد ما بالرغم من التزوير الذي كان يشوب الانتخابات، بمعنى أن هناك حزبا سياسيا يطغى على الساحة السياسية وله مصداقية وله مناضلون. أما الآن فقد اختلطت الأوراق إلى حد كبير، بل وأصبح مفهوم السياسي مرتبط بما هو ملموس، بما يلبي الطلبات المباشرة للمواطنين، من هنا يجب أن نعيد النظر في المعايير. فمثلا عندما نتحدث عن حزب سياسي وخاصة الأحزاب التقليدية والمسؤولون عنها، فهؤلاء ينظرون إلى أنفسهم كما لو كانوا لا زالوا يملكون الزعامة بحكم التاريخ والشرعية وغير ذلك، ولم يستفيدوا من التاريخ وأحداثه. حينما ننظر إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية التي شهدت تغييرا جذريا بانتخاب باراك أوباما، حينما نرى ما يجري في فرنسا حيث المناطق التي كانت تحت سيطرة الحزب الاشتراكي الفرنسي في الشمال أصبحت في يد الجبهة الوطنية المتطرفة. إذا هناك تغير في المفاهيم السياسية، ومن هنا أقول إن المشهد السياسي في المغرب يعرف إلى حد ما تغيرا ولكنه ليس إلى الدرجة التي تعطيك الانطباع بأننا دخلنا بالفعل إلى مرحلة الحسم مع كل التوجهات التقليدية، فما زلنا نجد بعض الممارسات المرفوضة لدى المنتخبين والأعيان ولا أستثني المواطن الذي أصبح هو بدوره بحكم ضعف تكوينه وفقر ثقافته السياسية يبحث عن مصالح ذاتية آنية، وهذا ما يجعل الاختيارات الجديدة لا تتماشى أصلا مع الاختيارات القديمة. - بعض المحللين والباحثين السياسيين الأجانب قالوا إنهم كلما حاولوا فهم النظام السياسي المغربي إلا وأصيبوا بالدوار، لأن الأحداث لا تجري وفق ما يتم تصوره ضمن خطاطة منطقية، ألا ترى تحليل نتائج الانتخابات الجماعية وما تلاها خلال انتخابات رؤساء الجماعات وتكوين المكاتب لم يخضع بدوره لأي منطق؟ < الحكم في هذه المسألة يجب أن يخضع أولا إلى دراسة ميدانية، أي أن نعرف ما هي الاختيارات والتوجهات. ولكن عموما يمكن القول بأن هناك بعض المؤشرات التي تعطي انطباعا بأن هناك إحساسا لدى المواطنين بالرغبة في تغيير المشهد السياسي، على الأقل بالخروج من الدائرة التقليدية للأحزاب المهيمنة خاصة الأحزاب التقليدية مثل الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وحزب الاستقلال، ولذلك جاء حزب الأصالة والمعاصرة كبديل لأنه جديد. وكما تعرف فإن كل جديد مرغوب فيه ويثير حوله في البداية على الأقل الفضول. ولكن هذا لا يقلل من فكرة أخرى وهي أن حزب الأصالة والمعاصرة استطاع بذكاء -ويجب قولها ربما بسبب توفر الإمكانيات- أن يقوم بحملة جيدة على صعيد المغرب كله وخاصة في المناطق القروية التي احتل فيها مواقع جيدة والتي كانت مرتعا في السابق للأحزاب التقليدية وعلى رأسها الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية والحركة الشعبية. بطبيعة الحال لا يجب أن ننسى أن هناك عوامل نفسية منها مثلا شخصية الزعماء أو القادة وعلى رأسهم فؤاد عالي الهمة، الذي هو في نفس الوقت وجه جديد بالنسبة لعموم المواطنين في الساحة الإعلامية، وصديق للملك، ثم إنه لم يسبق له أن تقلد مهمة مباشرة يكون من خلالها في مواجهة أو اصطدام مع جهة ما، فهو يظهر كما لو أنه إنسان لازالت يده بيضاء كما نقول. فهو إذن يعطي الانطباع بأن المصداقية موجودة لديه وهو أيضا فطن إلى هذه المسألة، وبالتالي فالحزب لم يقدم في مقدمة لوائحه إلا الأشخاص الذين لهم على الأقل مصداقية إلى حد ما. أما الحملة الإعلامية التي قام بها، فإني أعتقد أنها حملة بالمفهوم المعاصر للكلمة، وهو شيء لم نشهده لدى الأحزاب التقليدية الأخرى التي ظلت رهينة صراعاتها. - حزب الأصالة والمعاصرة يعتبر نفسه حزبا حداثيا ولكنه فاز في القرى أكثر من المدن، وحزب العدالة والتنمية حزب محافظ ولكنه فاز في المدن خاصة الكبرى، كيف تفسرون هذه المفارقة؟ < هذا يعيدنا إلى الجواب عن السؤال الأول. لقد قلت إن المعايير قد تغيرت. فحزب العدالة والتنمية هو حزب محافظ ولكنه ليس حزبا تقليديا. فهو ليس تقليديا في عمله وطريقة اشتغاله، إذ أنه من أكثر الأحزاب عصرنة على مستوى الممارسة والسياسة والدعاية، وهذا هو الخطأ الأول الذي يرتكبه الكثير من المحللين حيث يربطون التوجه الإيديولوجي بالممارسة العملية. فآليات اشتغال العدالة والتنمية هي آليات عصرية وطريقة عمله منظمة ومنضبطة، وهذا يفسر أنه في المدن استطاع أن يستحوذ على مشاعر الكثير من المواطنين. ثم إن هناك عاملا مهما يفسر هذا التوجه، فحزب الأصالة والمعاصرة حينما يتوجه أساسا إلى البادية، أظن –إذا لم أخطأ- أن قوته قد تتأكد في هذه المناطق لأنها تبدو شبه منعزلة عن الصراعات التي تعرفها المدن. هناك عامل آخر مهم هو أننا نتحدث عن المدينة بمفهومها الأصيل باعتبارها مركزا للتمدن في حين أن المدينة عرفت تغييرا مهما. فأغلب سكان المدن ليسوا «متمدنين»، لأنهم يحافظون على علاقتهم بالبادية، وبالتالي لا يمكنني اليوم أن أقول إن الدارالبيضاء اليوم مدينة بالمفهوم العلمي للكلمة بثقافتها وفكرها. هذا ليس قدحا، إنما هو تغيير طال أغلب المدن الكبرى المغربية، ويجب الإقرار بهذا التغيير. ثم إن التيار المحافظ أصبح يسيطر وسط الفئات التي كانت في الستينيات والسبعينيات تعتبر نموذجا للفئات المتقدمة، سواء كان تصويتها عقابيا أو كان عن قناعة مع تغير الظروف، ثم لا ننسى التغيرات الواقعة على المستوى الدولي، فهذه التأثيرات المشرقية جعلت أغلب الذين أصبحت لهم أشياء يحافظون عليها، ينخرطون في ذلك المكون الذي يدافع عن المصلحة الخاصة حتى ولو كان ذلك المكون محافظا. - ما هي انعكاسات نتائج الانتخابات الجماعية الأخيرة وما تلاها من أحداث عن المشهد الحزبي والسياسي بشكل عام؟ < أتمنى شخصيا أن يكون اقتحام حزب الأصالة والمعاصرة مؤشرا على إعادة ومراجعة أساليب العمل الحزبي لدى جميع الأحزاب لأننا في الواقع لا يعقل أن نكون في مرحلة الألفية الثالثة وما زلنا نركن إلى الزعامات التقليدية، وأنا لا أنكر دور الزعامات أو ما يسمى بالأعيان، بل إن الأعيان أصبحوا هم أنفسهم من طينة أخرى، ويجب التعامل مع هذا المعطى بشكل جديد. الأحزاب ستعتمد على مناضلين من نوع جديد، لأن المناضل ليس رهينة في يد اليسار أو الإسلاميين. قد يكون المناضل من فئة جديدة، أي المناضل «العقلاني» البرغماتي الذي يريد أن يضع مخططا أو نموذجا ويصل إليه، وليس بالضرورة ذلك المناضل الذي تحدث عنه غرامشي. نحن الآن في مرحلة جديدة يجب التعامل معها بمعطيات جديدة. الذي يجعل الأحزاب تحقق الفوز في النهاية هو تواجدها في الميدان. فكل حزب سياسي يقدم نموذجا محكما في التسيير سيكون الضامن لتغيير المشهد، وقد يخلق مشكلة للأحزاب الأخرى التي قد تضطر بدورها إلى سلك نفس الطريق. يجب تقوية توجه الأحزاب السياسية سواء كانت يمينية أو يسارية، بهدف اعتماد طريقة تدبير معقلنة للشأن العام، عوض أن نسير خلف ذلك الشبح الذي يسمى أحزابا لها ماض وتاريخ. إن المحك هو الممارسة اليومية. - كيف تقيمون السلوك السياسي لحزب العدالة والتنمية خلال فترة ما بعد الانتخابات وخاصة خلال فترة تشكيل التحالفات؟ < لا شك أنك تقصد التحالفات التي جمعت أحيانا بين الاتحاد الاشتراكي والعدالة والتنمية. أكيد أن هذا الأخير أصبح حزبا بالمفهوم العادي للكلمة بمعنى أنه في ظرف ثماني سنوات تقريبا، فطن إلى ما هو الدور الموكول إليه حتى لا يقصى من اللعبة السياسية واستجاب لكل الشروط التي يفرضها قانون الأحزاب السياسية. وجاء على لسان زعمائه بأنه حزب سياسي يمارس السياسة كباقي الأحزاب ولو كانت له مرجعية دينية، فهو تجاوز المرحلة الدعوية وأصبح ينخرط في الشأن السياسي. من هذه الناحية لا يمكن أن نناقشه في طبيعة التحالفات الظرفية التي يمكن أن يمارسها للوصول إلى بعض مراكز النفوذ. متى يمكن أن نسائل العدالة والتنمية في هذا الصدد، حينما يتقوى رصيده، هنا سنرى ماذا ستكون عليه طبيعة تحالفاته وسلوكه السياسي. ثم إن التحالفات على مستوى الجهات والأقاليم والمجالس الجماعية هي تحالفات ليست من نفس طينة التحالفات البرلمانية التي قد تستحضر البرنامج أو التوجه الإيديولوجي أكثر مما تستحضر التكتيكات لإزاحة فلان من أجل الإطاحة بشخص غير مرغوب فيه، مثل ما وقع في شفشاون وتطوان. وهذه التكتيكات تتبع في عدد من الدول مثل ما وقع في فرنسا عندما تحالف اليسار مع اليمين في 2001 من أجل الإطاحة بجون ماري لوبين زعيم الجبهة الوطنية اليمينية المتطرفة. والآن هناك استعداد لتحالف اليسار مع اليمين من أجل إسقاط حزب الجبهة الوطنية بإحدى المدن الشمالية التي فاز فيها الحزب عن طريق ابنه لوبين. إذن هذه تكتيكات مرحلية سنرى فيما ما بعد إلى أين ستؤدي، وبالتالي لا يجب النظر إلى هذه التحالفات بنوع من الاستغراب.