تقديم بالنظر لأهمية الدستور في الحياة السياسية والعامة للدولة، باعتباره تعاقدا سياسيا يحدد طبيعة نظام الحكم واختصاص السلطات العامة في الدولة والعلاقة بين هذه السلط، وحقوق وحريات الأفراد والجماعات، وباعتباره كذلك يشكل أساسا لبناء دولة القانون و ترسيخ دعائم الديمقراطية، فقد حظيت المسألة الدستورية بالمغرب بعناية كبيرة، وهذا ما يظهر جليا من خلال مختلف المحطات و المراحل التي مر منها الدستور المغربي. ومن خلال الاطلاع على مضامين و مقتضيات الدساتير المغربية منذ دستور 1962، وصولا إلى دستور 2011، يمكن القول بأن هذا الدستور الأخير، يشكل و بحق أرقى وثيقة دستورية عرفها المغرب. ويعد دستورا ديمقراطيا لعدة اعتبارات تتعلق أساسا بمضمونه و بطريقة وضعه. ويمكن القول بأن دستور 2011 سيفتح آفاق جديدة في تاريخ الحياة السياسية و الدستورية بالمغرب، شريطة العمل على تطبيق مقتضياته و احترام مضامينه، واستحضار غاياته و أهدافه. وإذا كان دستور 2011 يستهدف تجديد و تدعيم دولة المؤسسات بالمغرب، فإن ذلك يبقى رهين بتوفر مجموعة من الشروط، لعل أهمها الحرص على ضمان نزاهة و شفافية مختلف عمليات الاقتراع سواء منها المتعلقة بالانتخابات التشريعية أو بانتخاب مجالس الجهات والجماعات الترابية الأخرى. الفقرة الأولى: الأسس الدستورية لنزاهة الانتخابات بالرجوع لمضامين الوثيقة الدستورية الجديدة، يتضح بشكل جلي بأن المشرع الدستوري كان حريصا في وضعه لمقتضيات الدستور الجديد، على تخليق الحياة العامة و ضمان نزاهة الانتخابات، وإرساء دولة المؤسسات، وحماية الحقوق و الحريات... ونلاحظ تضمين الدستور لأحكام خاصة و أحكام عامة تتعلق بنزاهة الانتخابات. وتتجلى الأحكام الخاصة في ما تضمنه الفقرة الثانية من الفصل الثاني، والتي تنص على أن "تختار الأمة ممثليها في المؤسسات المنتخبة بالاقتراع الحر و النزيه و المنتظم". وكذلك في مقتضيات الفصل 11 من الباب الأول، الذي ينص علي ما يلي: "الانتخابات الحرة و النزيهة و الشفافة هي أساس مشروعية التمثيل الديمقراطي. السلطات العمومية ملزمة بالحياد التام إزاء المرشحين، وبعدم التمييز بينهم." وينص نفس الفصل أيضا على أن " يحدد القانون القواعد التي تضمن الاستفادة، على نحو منصف، من وسائل الإعلام العمومية، والممارسة الكاملة للحقوق و الحريات الأساسية، المرتبطة بالحملات الانتخابية، وبعمليات التصويت، وتسهر السلطات المختصة بتنظيم الانتخابات على تطبيقها" و "يحدد القانون شروط و كيفيات الملاحظة المستقلة و المحايدة للانتخابات، طبقا للمعايير المتعارف عليها دوليا." وتنص الفقرة الخامسة من نفس الفصل، على أن " كل شخص خالف المقتضيات و القواعد المتعلقة بنزاهة و صدق و شفافية العمليات الانتخابية، يعاقب على ذلك بمقتضى القانون". وقد نصت الفقرة الثالثة من الفصل 135 من دستور 2011 على أن " تنتخب مجالس الجهات والجماعات بالاقتراع العام المباشر"، ويعتبر هذا الفصل الدستوري بمثابة ثورة حقيقية في أساليب تجديد وتحديث المؤسسات المنتخبة، حيث أن مجالس الجهات لم تكن تنتخب في ظل الدساتير السابقة عن طريق الاقتراع العام المباشر، وإنما كانت تتم عن طريق الاقتراع العام غير المباشر، وهذا ما أثار الكثير من الإشكاليات المتعلقة بنزاهة العمليات الانتخابية، وبمشاركة الناخبات والناخبين بشكل مباشر في اختيار ممثليهم في مجالس الجهات. ومن شأن هذا المقتضى الدستوري أن يعزز سلطة الناخبين والناخبات في اختيار ممثليهم، كما أن من شأنه أن يدعم سلطة المحاسبة التي يملكها المواطنات والمواطنون تجاه المؤسسات المنتخبة، وهو كفيل أيضا بالحد من كل المظاهر والممارسات التي من شأنها المس بنزاهة ومصداقية العمليات الانتخابية. وفي هذا الخصوص يؤكد جلالة الملك في خطابه الموجه للأمة بمناسبة الذكرى 62 لثورة الملك والشعب يوم 20 غشت 2015 ،على أهمية الاقتراع العام المباشر، " وعليكم أن تعرفوا أن انتخاب رئيس الجهة وأعضاء مجلسها بالاقتراع المباشر، يعطيكم سلطة القرار في اختيار من يمثلكم. فعليكم أن تحكموا ضمائركم وأن تحسنوا الاختيار. لأنه لن يكون من حقكم غدا، أن تشتكوا من سوء التدبير، أو من ضعف الخدمات التي تقدم لكم". أما الأحكام العامة المرتبطة بنزاهة العمليات الانتخابية، فتتجلى من خلال المقتضيات الدستورية المتعلقة بحقوق الإنسان. فتصدير الدستور يؤكد التزام المغرب بما تقتضيه المواثيق الدولية من حقوق و واجبات، كما يؤكد تشبثه بحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا. كما أن الملك مسؤول دستوريا على"... حسن سير المؤسسات الدستورية، وعلى صيانة الاختيار الديمقراطي، وحقوق وحريات المواطنين و المواطنات و الجماعات1 ..." هذا زيادة على المقتضيات الدستورية المتعلقة بكل من المحكمة الدستورية، و السلطة القضائية، و هيئات الحكامة الجيدة، وغيرها من المقتضيات ذات الارتباط بالمشاركة في إدارة الشأن العام. الفقرة الثانية: المتطلبات الأساسية لتنزيل المقتضيات الدستورية المتعلقة بنزاهة الانتخابات إن الانتخابات الجهوية والجماعية ليوم 4 شتنبر لا تستمد أهميتها فقط من كونها الأولى من نوعها في ظل الدستور الجديد، وإنما باعتبارها المناسبة الحقيقية لتكريس الدعامات الدستورية للانتخابات الجهوية و الجماعية على أرض الواقع. ووعيا بأهمية ما تمثله هذه الانتخابات في الحياة السياسية للمغرب، دعا جلالة الملك في خطابه بمناسبة الذكرى 62 لثورة الملك والشعب، كلا من المواطنات والمواطنين وكذلك الأحزاب السياسية والمرشحين، وفعاليات المجتمع المدني والهيئات النقابية، إلى القيام بأدواره وتحمل مسؤولياته في النهوض بمستوى ونوعية المشاركة السياسية في الانتخابات الجهوية والجماعية التي ستعرفها بلادنا يوم 4 شتنبر المقبل. وتفعيلا لمقتضيات ما جاء في الوثيقة الدستورية و الخطب الملكية، تم إصدار مجموعة من النصوص القانونية المرتبطة بنزاهة العملية الانتخابية، منها ما يتعلق بالملاحظة المستقلة و المحايدة للانتخابات، حيث سيسمح للملاحظين الوطنيين و الأجانب" بتتبع السير الميداني للعمليات الانتخابية، وتجميع معطياتها بموضوعية وتجرد وحياد، وتقييم ظروف تنظيمها و إجرائها، ومدى احترامها للقواعد الدستورية والنصوص التشريعية و التنظيمية المتعلقة بالانتخابات و المعايير الدولية"2 . وقد نص القانون المتعلق بتحديد شروط وكيفيات الملاحظة المستقلة و المحايدة للانتخابات، على عدد من الحقوق التي يستفيد منها الملاحظون تمكينا لهم من القيام بمهامهم طبقا للمعايير الدولية، وفي هذا الصدد تم النص على أن من حق الملاحظ المعتمد، ما يلي3 : * حرية التنقل بسائر أرجاء التراب الوطني * الحصول على المعلومات المتعلقة بسير العمليات الانتخابية * حضور التظاهرات و التجمعات العمومية المنظمة في إطار الحملات الانتخابية * ولوج مكاتب التصويت و مكاتب التصويت المركزية و لجان الاحصاء، للقيام بمهام الملاحظة و التتبع لعملية الاقتراع و فرز الأصوات و الإعلان عن النتائج * التواصل مع مختلف وسائل الإعلام العمومية و الخاصة بعد الإعلان عن نتيجة الاقتراع * عقد لقاءات مع كل الفاعلين في العملية الانتخابية لمناقشة خلاصات عملهم وتوصياتهم المقترحة في الموضوع، وذلك خلال فترة إعداده لتقريره * إعداد تقارير لتقييم سير العمليات الانتخابية ونتائجها، وإحالتها على الجهة المعتمدة وعلى اللجنة. كما تضمن القانون التنظيمي المتعلق بانتخاب أعضاء مجالس الجهات والجماعات الترابية الأخرى، النص على مجموعة من الجزاءات، التي ستوقع في حالة ارتكاب مخالفات للضوابط القانونية المنظمة للانتخابات. ويتضح بأن العقوبات المقررة في هذا الصدد، تروم تخليق العملية الانتخابية و ضمان سيرها طبقا للقانون. ويعد تفعيل هذه المقتضيات، أساس نزاهة العملية الانتخابية، بما تعنيه من منافسة شريفة من أجل الحصول على ثقة الناخبين بالوسائل المشروعة و العادلة. وفي نفس الاتجاه، تنص المادة 28 من القانون التنظيمي المتعلق بالأحزاب السياسية، على ضرورة التزام الأحزاب بمجموعة من المعايير في اختيار المرشحين، منها: 1. اعتماد مبادئ الديمقراطية و الشفافية في طريقة ومسطرة اختيار المرشحين 2. تقديم مرشحين نزهاء و أكفاء و أمناء، قادرين على القيام بمهامهم التمثيلية وانطلاقا من هذه الخطب الملكية و النصوص الدستورية و القانونية، يمكن القول بأن تنزيلها و احترام مقتضياتها، هو مسؤولية جماعية، حيث تتحمل الدولة من جانبها مسؤولية الحياد في مواجهة كل المرشحين و الأحزاب، و الالتزام بتطبيق القانون بكل صرامة. كما أن الأحزاب تتحمل مسؤولية النهوض بالعمل البرلماني والجماعي ، و تخليق الحياة السياسية من خلال اختيار المرشحين من ذوي الخبرة و الكفاءة والنزاهة و الاستقامة و التفاني في خدمة الوطن، وعدم إيلاء عناية لنفوذ الأشخاص الذي يعتمد على منطق المال و إمكانية نيل المقعد دون توفر الشروط الأولى، فالمقاعد يجب أن لا تكون هدفا في حد ذاتها، بقدر ما ينبغي أن تكون وسيلة لوصول نساء و رجال أكفاء قادرين على القيام بخدمة المواطنين والمواطنات وتحسين فضاء ومستوى عيشهم والتجاوب مع متطلباتهم. ويتحمل المواطن بدوره مسؤولية جسيمة، تتجلى أولا في ضرورة المشاركة المكثفة في التصويت من جهة، وحسن الاختيار من جهة ثانية. فبالمشاركة يقرر المواطن بنفسه في مصيره داخل وطنه، وبالمشاركة تتم محاربة الفساد و قطع الطريق على المفسدين و الحيلولة دون وصولهم لمراكز القرار السياسي، وبالمشاركة المسؤولة و المواطنة يتم تخليق الحياة السياسية و العامة. و بكل تأكيد، فنزاهة العمليات الانتخابية، والمشاركة السياسية المكثفة، هي التي تضفي طابع المشروعية و المصداقية على المؤسسات المنتخبة، وهذا هو الهدف الأساسي الذي يرمي إلى تحقيقه الدستور الجديد، وهذا ما يتطلب ضرورة الانخراط الايجابي في تفعيل و تنزيل مقتضيات هذا الدستور، الذي نتمنى أن يفتح عهدا جديدا في تاريخ المغرب الحديث. هوامش: 1- الفصل 42 من دستور 2011 2- المادة 1 من القانون المتعلق بالملاحظة المستقلة و المحايدة للانتخابات 3-المادة 16 من القانون رقم 11. 30 المتعلق بتحديد شروط و كيفيات الملاحظة المستقلة و المحايدة للانتخابات. ج ر عدد 5984 بتاريخ 6 أكتوبر 2011 *أستاذ القانون الدستوري و العلوم السياسية [email protected]