في بيْتٍ صغيرٍ وسط أحد الأحياء الشعبية بمدينة الدارالبيضاء تعيشُ فاطمةُ رُفقة بناتها الأربع، بيْنَ جدرانٍ تكتنفُها مُعاناةٌ ابتدأتْ منذ أكثر من عشرين عاما، و البناتُ الأربعُ جميعُهنّ يُعانين إعاقةً جسديّة مُتفاوتة، وتتقاسمُ فاطمة وزوْجُها الذي يشتغلُ مُياوما يخرج إلى "الموقف" كل صباح، حمْل همّ إعالة بناتها على ثقْله بصبْر، لكنها تعترفُ بعْد أن طالتِ السّنينُ أنّها تَعبتْ. "عْييتْ وْما بْقيتْ قادّة عْليهم بوحدي" تقول فاطمة بنبرَةٍ يمتزج فيها الرضا بالمُصاب الذي عمّر طويلا، حاملة إيّاهُ يَحْذوها الأملُ في أنْ تجدَ استغاثتها صدَىً في قلْبٍ رحيمٍ علَّ ثقلَ المعاناة يخفُّ. وترْوي فاطمة أنّ ثلاثا من بناتها ذوات الإعاقة الجسديّة لا يَبْرحنَ البيْت المتواضعَ إلّا لِماما، فَهُنّ بالكادّ يتمشيّن على أطراف أصابع أرجلهن. أمّا البنتُ الرابعة، حسبَ ما روتْه فاطمة لهسبريس، فشبْهُ عاجزة عن الحَركة بعدما شلّتها الإعاقة، وتعيش رُفقة شقيقاتها الثلاث، اللواتي تبلغُ أكبرهنَّ 23 ربيعا، خلف باب البيْت المتواضع الذي لا تتجاوزُ عتبته أبدا، فهي لا تتحرّكُ إلّا جاثيةً على رُكبتيْها، ولا تُعاني من إعاقة جسديّة فحسب، بلْ تعاني إعاقة ذهنيّة أيضا. البناتُ الأربعُ حَملْنَ معهنّ إعاقتهنّ إلى الدنيا منذ لحظة مغادرتهنَّ رحمَ أمهنّ، ولمْ تحرمْهُنّ الإعاقة من عيْش حياةٍ طبيعيّة فحسبُ، بلْ حرمتْهنّ أيضا من نيْل نصيبهنّ من العلم، فقدْ حملتْ أمهنَّ البنت الأولى إلى مدرسة خاصّة بالأطفال ذوي الاحتياجات الخاصّة، وهُناكَ تابعْت تعليمها إلى غاية السنة السادسة ابتدائي، واضطرّتها الظروف للانقطاع عن الدراسة. ترْوي أختهنّ الكبرى، وهي الوحيدةُ التي وُلدتْ بدون إعاقة، أنّ شقيقتَها كانَتْ تستفيدُ من النقل المدرسي حينَ كانتْ تتابعُ دراستها الابتدائية في المدرسة الخاصة بذوي الاحتياجات الخاصة، وعندما أنهت التعليم الابتدائي كانَ عليْها أن تتدبّر أمرَ التنقّل إلى الإعدادية قصْد مواصلة مسارها الدراسي، وهوَ ما تعذّرَ على أسرتها توفيرَه بسبب فقْرها، ليتوقّف المسار. حُلمَ فاطمة بأنْ ترى بناتها الأربع يتعلّمن، مثل بنات الجيران، لمْ يُكتبْ له أنْ يتمّ، وأُجْهض، حتّى بالنسبة للبنْت الثانية التي دخلتْ مدرسة للأطفال "العاديين" على عتبة السنة الأولى إعدادي، "حِيتْ ما كاتقدرش تْفرْز الهضرة"، تقول فاطمة، وهُوَ ما حالَ دونَ اندماجها مع زميلاتها في الدراسة، أمّا البنْتان الأخريان فلمْ تطأ قدماهُما عتبة المدرسة، لاشتداد إعاقتهما. وحينَ اندثر هذا الحُلمُ ظلّتْ فاطمة تحلم فقط بأن ترى بناتها الأربع وهُنّ يتمشَّيْن ويلعبْنَ كقريناتهن، لكنّ هذا الحُلمَ أيضا لمْ يُكتبْ له أنْ يصيرَ حقيقة، رُغْم خضوعهنّ لعمليات ترويض في المستشفى، بعدما عجزتْ عمليّات الترويض عنْ إعادة الطراوة إلى الأطراف شبه المشلولة، فاستسلمتْ لقَدرها وهي ترَى أحْلامها تتداعى. وبيْن خيْبةِ أملٍ وأخْرى تنغرزُ جذورُ المعاناة المُشوّكة بالألم في أعماقِ فاطمة أكثرَ فأكثر، ويزداد ضيْقُ جُدران البيت الذي يأويها رُفقة بناتها ضيْقا على ضيْق، كُلّما عادتْ إليه في المساء، حينَ تنتهي من "عملها" في "مارشي سيدي مومن"، حيثُ تبحثُ عنْ لُقمة العيش لسدّ رمقها ورمق بناتها، بما تكسبُ من دراهمَ منْ بيْع حفاظات الأطفال. دقّتْ فاطمة عددا من الأبواب وظلّت تنتظرُ علّ أحداً منها ينفتحُ في يوم من الأيام، لكنّ الأبوابَ أبتْ إلّا أنْ تظلَّ مُوصدَة، وكُلّما مرّت السنين يتضاءل بصيصُ الأمل في عيْنيها. تتذكّر فاطمة أنّها وضعتْ ملفّا يحملُ بيْن دفّتيْه شرْحا مُفصّلا لمعاناتها، ووضعتْه لدى مؤسسة تُعنى بالرعاية الاجتماعية. هناك تمّ استقبالها، وتلقّتْ وعْدا بالردّ عليها، ومنذ ذلك الحين ما زالتْ تنتظر. *لمزيد من المعلومات ولكل غاية مفيدة يمكن التواصل عبر الرقم الهاتفي: 0678795782.