في مثلِ هذا الشّهرِ، وفي مثلِ هذا الأسبوع، سيقَ عام 1973 عدَدٌ عديدٌ من الضّباطِ والطّيارين، إلى مكانٍ، قد نُسميه غار أو قبر أو جحيم "تزممارت"، حيث قضوا هنالك ما يربو عن 18 عاماً من التعذيبِ، والقهر، والإذلال، والاحتقار. اقتيدَ هؤلاء، وكانوا 58 نفراً، إلى غَارِ تزممارت الذي بُني خصيصاً لهم، بعد الانقلابينِ الاثنينِ (الأول عام 1971 والثاني عام 1972) على الملك الراحل الحسن الثاني. في نصِّي هذا، لن أتكلم بِجُبَّةِ المحامي المرافعِ من أجل براءةِ المسجونين، فما أنا بمحامٍ، حتى وإن كنتُ كذلك، فإن مرافعتي سوف لن يكون لها جدوى؛ فهي في غيرِ وقتها من جهة، ومن جهةٍ ثانية، أعرف – وإن كانت في وقتها – أن القضية محسومة سلفاً. من هنا، سأتكلم بجبةِ "الحافرِ" في التاريخ، النّابشِ عن الحقائق المطمورة.. سأتكلم إذن، بوصفي مُسائلاً للتّاريخ. في كتابهِ الموسوم ب"سيرة الاعتراف"، حاولَ المفكرُ الفرنسيُّ بول ريكور Paul Ricœur أن يربطَ بين الذّاكرةِ والعدالةِ من جهة، وبين الذّاكرةِ والعدالةِ والاعترافِ من جهةٍ ثانية، مؤكداً أنه ليس من العدالةِ في شيء، أن يتم مَحْوُ أو عدم الاعتراف بذاكرةِ جماعةٍ معينة، حتى وإن كانت هذه الذاكرة مأساوية، ، بل يجب - في نظره - العمل على الاستفادةِ من هذه الذاكرة المأسوية للسّيرِ قدما. (يمكن العودة في هذا ابصدد إلى الحوا ر الذي أجراه الدكتور محمد شوقي الزين مع المفكر والمؤرخ الفرنسي فرانسوا دوس، مجلة يتفكرون، العدد الرابع، ملف العدد، الهوية والذاكرة ومسارات الاعتراف.) . وعليه، فإن ما يجب أن نحاربه – في نظره - هو النسيان وليس الذاكرة ، بل أكثر من هذا، يدعو ريكور إلى تفعيلِ هذه الذاكرة وحفظها، بحيث يتم تأسيس ذاكرة عادلة تعترف بحقوق الضحايا (=ضحايا التاريخ) وذلك بسرد ذاكرتهم. إن ما يحاولُ ريكور الإشارةَ إليهِ من خلالِ كتابهِ المذكور آنِفاً، بالإضافةِ إلى كتابه "الذاكرة، التاريخ، النسيان" هو أن الذّاكرة أو التّاريخ، يتعرّض لبعض التّلاعبات les manipulations بالتالي يتمُّ محوُ أو طمرُ ذاكرة جماعة معينة أو فرد معين، إما لأغراضٍٍ إما سياسيةٍ أو أيديولوجية، مثلما يُظهِر ريكور العواقب أو النتائج التي يتمخض عنها هذا التلاعب، ولعل أخطرها، نكران أو عدم الاعتراف بماضي وتاريخ جماعة أو فرد معين. هذا بالتّحديدِ، ما عَمِل عليهِ "المخزن" المغربي منذ الهزيعِ الأخيرِ من القرنِ المُنْقضي، إلى بدايةِ القرنِ الحالي، إذ عَمِلَ على طمرِ – لغرضٍ في نفسهِ - جزءٍ من ذاكرةِ المغاربة عامة، وذاكرة أسرى تزممارت خاصةً، بحيث ابتغى جاهداً تكذيب فكرة وجود معتقل اسمه تزممارت. وهو – للإشارة - الأمر الذي نجح فيه لمدةٍ ليست بالقصيرة. هنا أفتحُ قوس وأتساءلُ مع القارئ الكريم، هل يعرفُ شباب المغربِ اليوم بهذا المعتقل؟ هل يعرفُ الشَّابُّ المغربيُّ، أنه رُميَّ، هنالك بتزممارت، بعددٍ عديدٍ من الأسرى في حفرٍ كما تُرمى الجرذان في القمامة؟ اسمح لي أيها القارئ أن أتطاول وأجيب قائلا؛ كلا، ما سمعَ جلّ شبابنا بهذا المعتقل، واسمح لي كذلك أن أقول عِلّة ذلك؛ ببساطة لأننا قومٌ لا يقرأ، مصائبنا وكوارثنا عِلّتها أنّنا شعبٌ لا يقرأ. من هنا، فإن دَوْرَنا، نحن أبناء هذا الوطن، الذين لهم الحق في معرفةِ ماضيهم، والحق كذلك في محاسبةِ من يحكموهم، هو العمل على تعريةِ ما تم طمره، أو على الأقل، ما تم العمل على نسيانه. لقد عاش ضحايا تزممارت أبشع ألوان التّعذيب وأقبحها، عاشوا التّرهيب، والذّعر، والهلع، ومن طرفِ من؟ من طرف جلادين يشتركون معهم الإنسانية، والملة، والوطن!!! قمة العار. عاش هرلاء أشكالاً مختلفةَ من الإهانةِ والجورِ والظلم، فماتَ منهم مَن مات، ورُميَّ في الحفرِ من رُمي، وجُنَّ من جُن، وشُلُّ من شُلْ. يقول في هذا الصدد، أحمد المرزوقي أحد النّاجين من جحيم تزممارت، واصفاً العذاب الذي عاشه بمعيةِ زملاءه في السجن؛ "...كنا كلما اقترب الليل، قدمت جحافله بكل أنواع المناشير والمقامع لتشج وتحز وتمزق فينا العقل والأعصاب. فبعضنا كان يقضي الساعات الطوال في القفز المتواصل وكان به من الجنون مس. والبعض الآخر، كان يذرع الزنزانة في الظلام جيئة وذهابا على نحو ما تفعله الحيوانات الأسيرة في أقفاصها الضيقة. أما فئة أخرى فكانت تستمر في حك أطراف جسدها بحثا عن سراب دافئ. حتى إذا ما انتصف الليل وجن الزمهرير، أخذ زنك السقف يتفرقع كالقنابل الصغير، فتصطك الأسنان، وترتعش الفرائس، ويدوي صفير مرعب في الآذان تنفلت بعده شهقات متوجعة، يفشل في كبحها الكبرياء المنهار، وتعلن عن استسلامها بدموع دليلة صامتة." (أحمد المرزوقي، تزممارت الزنزانة رقم 10، ص 96) أليستِ الججارة –في نظركم- ألين بكثير من قلب من فعل بهرلاء ما فعلوا؟؟؟ ما تقدم، يُمثل إحدى صور العذاب شتاءً، أما في الصّيفِ فقد "طغت النتانة بشكل فضيع، فأصبحت –يقول المرزوقي- تنبعث من أجسامنا الوسخة روائج الجيف المتفسخة، ثم اكتمل عرس القذارة البهيج لما انضافت إليها رائحة المراحيض التي اختنقت فيها قنوات الصرف، فغدونا نشعر كلما تنفسنا وكأن مسامير خفية تنغرز في رئتنا لتسحب منها الهواء وتشحنها بحامض فتاك. وطبعا تهيئ الجو المناسب لكل أنواع الحشرات الطائرة والزاحفة والمتسلقة". (المرزوقي، نفس المرجع ص101) يحكي المرزوقي أنه في ظل الظلامِ المطبق، كانوا يأكلون –عن خطأ- الصراصير والذباب والباعوض التي تختلط مع الأكل، مثلما كانوا في ظل الظلام الذي عاشوا فيه آناء الليل وأطراف النهار، يعيشيون الذعر خوافا من لسعات العناكب الأفاعي. نشير هنا، علاقةً بعذاب الصيف، أن من هَنْدسَ المُعتقل، جعل قنوات الصرف ضيقة جداً حتى تختنق، وتُساهم بذلك الرائحةُ النّتنةُ في تعذيبِ المسجونين!!! بربِّكم أيها القراء، أيها المغاربة، ألن تتفقوا معي إن قلت؛ إنه لو وقف واحدٌ من أعدم المغاربة وطنية وأفقرها، أمام هذه الحقائق، لما دَسَّ رأسه في التراب من فرطِ إحساسه بالخزي والعار لاشتراكه الوطنية مع من زج ب58 مغربي كان لوقتٍ يدافع عن الوطن؟ حتى لا أطيل في استحضارِ مختلف ألوان العذاب الذي تعرض له أسرى تزممارت، سوف أختم بهذه الصورة التي يسردها المرزوقي قائلاً "... كانت الفظاعة أحيانا تدفع بعض الأصدقاء –وهم في حالات القبض - أن يتغوطوا في صحونهم ثم يصبوا على نفاياتهم الماء ويفتتوها بأصابعهم، حتى إذا ما لانت رموا بها في المرحاض ليتقوا شر اختناق القناة". ( المرزوقي، نفس المرجع ص155) صورةٌ للأسف من صورِ الإهانةِ لأبناءِ الوطن. في الأخير أقول، وأنا أسوق عذاب ضحايا تزممارت الذين كان من المُمكنِ أن يكون معهم والدي، أو والد أحد القراء.. أقول إن هدفي الأول من كتابةِ ما كتبت، هو أن أعملَ بوصيةِ بول ريكور، فأُحي ذكرى الذين دُفنوا، أو بالأحرى أٌلقي بهم في حفرةٍ في تزممارت، أُحي ذكرى الذين عانوا العذاب الأليم وكُتب لهم العيش، أُحي صمودهم، إرادتهم، صبرهم... ثم أُظهر –وهذا هدفي الثاني- للمغاربةِ قاطبةً ما كابده إخوانهم في الدّينِ والوطنِ وفي الإنسانية، حتى يتذكرونهم، ويتذكرون ما فعله يوماً حُكامنا الجلادون بأبناءِ الوطن، فالذكرى، -كما يقول المرزوقي- "وفاء، والوفاء اعتراف، والاعتراف تقدير وتخليد وتنديد بالمكر كي لا يتكرر". وهو الأمر الذي قاله كذلك بول ريكور، وإن بصيغةٍ مغايرة.