بعد انتطار طويل خرجت إلى النور أخيرا الرواية التي وعد بها، القاص والروائي العراقي عبد الرحمان مجيد الربيعي، القارئ في مناسبات كثيرة. فمنذ صدور روايته المتميزة «خطوط الطول خطوط العرض» سنة (1983)، لم ينشر أية رواية، وبالفعل فرواية «نحيب الرافدين»i (2011) قد اشتغل عليها الرجل لأكثر من عشرين سنة، بدأها سنة 1987 وانتهى منها نهائيا سنة 2007. بكل تأكيد فالروائي عبد الرحمان مجيد الربيعي قد كتب أشياء كثيرة في غضون هذه السنوات، وأصدر مجموعة من الكتب السردية، والنقدية، والشعرية... أهمها الجانب السيري الذي يكمل مشروعه السردي حيث أصدر سيرته الذاتية: «أية حياة هي» ( 2004)، والسيرة الأدبية: «من ذاكرة تلك الأيام»(2000) ، وبورتريهات عراقية: وجوه مرت»(2007)...بالإضافة إلى الرواية التي صدرت له بعد «نحيب الرافدين» بأيام، وهي بعنوان: «هناك في فج الريح» (2011). فبعد هذا المسار الروائي الحافل الذي بدأ منذ سنة (1972)، واشتمل على ست روايات: الوشم (1972)، الأنهار (1974)، القمر والأسوار (1974)، عيون في الحلم (1976)، الوكر (1980) خطوط الطول خطوط العرض (1983)، تأتي روايته السابعة نحيب الرافدين(2011)، لتوسع وتجلو مشروعه السردي الذي اشتغل عليه لأكثر من أربعة عقود، والذي يحفر في اتجاه قراءة الواقع العراقي والعربي، لأجل كشفه وتعريته. وقد سبق أن نعتت، في دراسة سابقةii، كتابة الربيعي بأنها «كتابة ترمم خرائب الذاكرة»، فمحاربة المحو الذي تمارسه كثير من الخطابات، وترك النسيان يطول الذاكرة، جعل الروائي يتجند لإحياء هذه الذاكرة، واستعادة الأحداث والخيبات، وانكسار الأحلام، لمواجهة التاريخ الرسمي الذي يحاول طمس كثير من المعالم الأساسية في حياة الإنسان، وتشويهها. لذلك نلاحظ أن كل رواية من روايات الربيعي تختص بمرحلة من مراحل الوجود العراقي والعربي، وهو بذلك يضعنا أمام رؤية جديدة ترى العالم من زاوية مغايرة، وبطريقة تخييلية إبداعية... «نحيب الرافدين» رواية من 692 صفحة من القطع الكبير، تستعيد الحرب العراقية الإيرانية التي دامت ثماني سنوات، إلا أنها لا تركز على الحرب في حد ذاتها، بل على أثرها على حياة الناس في العراق، وعلاقتهم بالسلطة الحاكمة، وما نجم عن ذلك من عنف في العلاقات، والإحساس بالخوف، وعدم الاستقرار والأمان، وهو ما ترتب عنه نوع من البؤس والخيبة التي سكنت حياة الناس، وجعلتهم ينتظرون الخلاص في أي لحظة، حتى ولو كان هذا الخلاص هو الموت. لقد كان للحرب أثر عميق في نفسية الإنسان العراقي وفي معيشه اليومي، خصوصا أن لا أحد من الشعب مقتنع بهذه الحرب وبجدواها، يقول السارد: «بلد ينحر الألوف من أبنائه كل يوم في حرب غامضة، لم تفلح كل الشعارات والخطب وصور الجثت والأشلاء التي يبثها التلفزيون في نشرة الأخبار المسائية من إقناع أحد بها، ومع هذا لا قدرة لأي عراقي على النطق بشيء، كانت العيون وحدها تقول كل شيء، ولكن بصمت، هذا الصمت الذي إن تحول إلى احتجاج فمعناه انتحار قائلها» (ص 26). هذه هي المعاناة التي حاولت أن تقولها الرواية، من خلال استحضارها لمجموعة من الفضاءات ( المنزل، المقهى، البار، الشوارع...) وعبر علاقات فيما بين عدة شخصيات أساسية وثانوية. فمأساة المواطن العراقي تجلت في هذا الإحساس بالخوف: الخوف من هذه الحرب التي دمرت كل شيء، وخصوصا الإنسان، والخوف من السلطة التي تمكنت بجبروتها من الناس، وجعلت منهم دمى تحركها كما تشاء، وتمتص دماءهم، والويل لمن يرفع رأسه أو يعارض. تصلنا أحداث الرواية عبر صوتين سرديين: صوت السارد المهيمن، وصوت الشخصية الرئيسية غسان العامري، في حواراته مع شخصيات أخرى، التي هي في الواقع صدى له، وأيضا في مناجاته، وهي غالبا ما تكون مشحونة بالعنف والغضب بسبب ما وصل إليه البلد من مأساة، وأيضا ما خططت له السلطة لتدميره والقضاء عليه، مما جعله يفكر باستمرار في مغادرة البلاد بالشكل الذي يناسبه كشاعر معروف، واعتبارا لما قدمه لبلده من خدمات، لكن الظروف ساءت معه أكثر مما كان يعتقد، حتى بات يخطط للهرب.. فعلى طول الرواية نعيش على إيقاع رغبة غسان العامري في الخروج من العراق، والعيش في مكان آخر، لأن الهلاك والموت يتربص به أينما اتجه. تنتهي الحرب وتنتهي الرواية دون أن يتمكن من المغادرة، يقول السارد:» وتساءل إن كان بعمله هذا قد وجد الطريق إلى القصيدة الحلم، قصيدة الرحيل بعيدا.. بعيدا. ولم ترتسم أمامه حروف جواب» (ص 692). وبهذا تبدأ الرواية في بغداد، وتنتهي في بغداد، وبين البداية والنهاية يجوب بنا غسان العامري، فضاءات أخرى: مكان طفولته (الناصرية)، ومكان اشتغاله الدبلوماسي( بيروت)، ولعل هذه الفضاءات المتنوعة هي التي ساهمت في تكسير رتابة السرد، ووسعت من المجال الذي يشتغل فيه المسار الحكائي، خصوصا أن السارد ينطلق في سرد الأحداث من اللقاءات التي تجمع بين مجموعة من الشخصيات: غسان العامري (الشاعر)، عدنان العزيري (الروائي)، غياث الإبراهيمي (المترجم)، معن الماجد (الناقد) والنقاشات التي تدور بينهم، والتي يهيمن عليها وقع الحرب، وما آلت إليه البلد، ووضعية المثقف وما أصابه من السلطة ، وذلك من خلال السؤال الذي ظل يتردد، وترك صدى في أعماق هذه الشخصيات، وهو الذي صاغه العامري حين قال: «ماذا فعلوا بك أيها الوطن»(ص91). إن نار الحرب اشتعلت في جسد غسان العامري الذي لم يتمكن من الانفلات منها، ومن تداعياتها، وجعلته غير قادر على تجاوز واقعها المؤلم الممتد في تفاصيل حياته، أما أحلامه فلا مكان لها في هذا الواقع، لأنها انطفأت شيئا فشيئا.. وما غسان العامري سوى نموذج المثقف المخلص الشريف، الذي يحترق في كل لحظة أمام اغتيال الوطن، والقضاء على أبنائه بشتى الطرق: الزج بهم في الحرب أو في المعتقلات، أو جعلهم يعيشون في خوف دائم، وشل قدراتهم، وجعلهم تافهين.. يعيش غسان العامري في بغداد والحرب مشتعلة بين العراق وإيران، ونيرانها تلتهم ما تبقى من أمل عند الناس، وهو الزمن الحاضر في الرواية، وتتخلله استرجاعات أهمها زمن بيروت حين كان غسان مستشارا ثقافيا في السفارة العراقية هناك، وهكذا نجده ينتقل من حرب العراق إلى الحرب الأهلية في لبنان، وهنا يعيش إيقاعا آخر، حيث سيلتقي ب رانيا خليل في الأول وبعد ذلك ب حنان عواد، هذه الأخيرة التي ستعطيه من الحب ما افتقده في زوجته التي أنجب معها بنتين، وطلقها إثر وشاية كاذبة قامت بها للسلطات العراقية، أدت إلى إرجاعه من بيروت إلى بغداد مما جعله يكرهها، ويغادر البيت إلى غرفة حقيرة في عمارة مع العمال المصريين.. أما البناء الروائي في هذه الرواية فيعتمد على نوع من التناوب في الحكي: 1- محكي الزمن الحاضر: بغداد حيث الحرب والمأساة وما ارتبط بها مثل الزوجة الموظفة البئيسة وغير القادرة على مسايرة تطلعات زوجها، والبؤس المنتشر في كل مكان، ومقاومة النظام الحاكم المتجبر.. 2- محكي زمن التذكر( الماضي): ففي مقابل الزوجة في بغداد هناك الزمن البيروتي، حيث الحب والسعادة رغم كل العوائق، وهذه العلاقة بين غسان العامري وحنان عواد، كانت حاضرة في تمفصلات الحكي، وساهمت في تحريك مياه السرد بالتشويق، وفتح أفق آخر للحكاية، يتنفس منه القارئ، هروبا من ويلات الحرب التي استطاعت الرواية أن توصلها إليه..بالإضافة إلى ذلك ففي مقابل النظام الحاكم الجائر (لم يذكر ولو مرة واحدة اسم رئيس الجمهورية ولهذا دلالته طبعا)، هناك الماضي الجميل: زمن عبد الكريم قاسم ، جاء في الصفحة 157 ومن خلال بحث جامعي اسشهد به السارد أن « العراق لم يشهد طيلة تاريخه الحديث حاكما عمل بشكل متواصل ودؤوب على إرساء دعائم حكمه على أساس المشروع الوطني العراقي كالزعيم عبد الكريم قاسم»، فمن خلال هذا التقابل تأسس الحكي في رواية «نحيب الرافدين»: الهروب من الحاضر المؤلم، والحنين إلى الماضي المشرق من أجل تعرية الواقع والكشف عن خباياه، بل وإظهار رعبه عبر المقارنة، لأن ما تعيشه الشخصيات لا يترك لها أي أمل في المستقبل، مما يجعلها تعود إلى الماضي، فمع الخيبات يتقوقع الإنسان على ذاته بالحنين إلى الزمن الجميل؟ (الماضي)، مادامت كل الآفاق مسدودة.. ويحتل الحوار جزءا كبيرا في الرواية، فكثير من المعلومات نلتقطها من أفواه الشخصيات التي تلتقي في أماكن عمومية، تناقش ما يقع في العراق من أحداث، وخصوصا الآراء المتبادلة بين غسان العامري الشاعر، وعدنان العزيري الروائي العائد من موسكو، بالإضافة إلى غياث الإبراهيمي ومعن الماجد، وشخصيات أخرى عابرة. ورغم قساوة الوضع، وما تمارسه الحرب المشتعلة، على نفسية الشخصيات، ومن أجل مقاومة كل ذلك نجد روح النكتة المهيمنة على لقاءات غسان العامري بأصدقائه، هذه السخرية التي جعلتهم قادرين على مواجهة ذواتهم، وتحمل هذا القدر الذي لا مفر منه، ف»أمام حالة كهذه، حيث تختلط الأمور بهذا التداخل العجيب لا يبقى(...) إلا حل واحد (...) السخرية»(ص505). لكن الملفت للنظر أن هذه السخرية مبنية في جزء كبير منها على الجنس ويبرر السارد ذلك حين قال « كأن هذه السخرية الفاقعة التي تعتمد الجنس هي الآن وسيلة شعب كامل في مواجهة محنته ومصائبه، مادام الاقتراب من أي شخصية سياسية ضمن تشكيلة النظام عقوبتها الإعدام...»(ص301). لكن في عالم الرواية يبقى لحضور الجنس دلالة أخرى، إذا نظرنا إليه من زاوية نفسية، حيث الشخصيات تقوم بتعويض ما افتقدته في الواقع، سواء على المستوى المادي أو الرمزي، ويبقى الجنس هو الملاذ الأخير لاستعراض العضلات على المستوى الشفوي، حيث التباهي بالفحولة. إنها مقاومة الفشل والضعف بالعيش في الأوهام، وما يبرر ذلك هو غياب المشاهد الجنسية في الرواية، حيث يتم تعويض الفعل بالكلام.. لعل هذه الانهزامية، وهذه الخيبة التي عاشها الإنسان العراقي، وخصوصا المثقف، هي ما تقوله رواية «نحيب الرافدين»:إحباط وفشل وقتل أي أمل في الحياة جعل شخصيات هذه الرواية تقاوم كأنها تحفر بئرا في الهواء، لأنها محاصرة من كل الجهات، ولا منفذ لها للخروج من هذه المأساة، لذلك خلقت كلامها الخاص، ونحتت استعاراتها التي تمكنها من العيش بعيدا عن الكلام المباشر، واحتضنت الجعة للتحليق فوق واقع مرير يتجاوز قدرة الإنسان على الصبر.. التصدي لاغتيال الذاكرة: ارتكزت أغلب الأعمال الروائية التي كتبها عبد الرحمان مجيد الربيعي على الذاكرة، ومحاولة تسجيل ما وقع في الماضي مع تحديده الفترة الزمنية التي يروم الاشتغال عليها بدقة، لكن صنعة الرواية غير غائبة، فجهده في البحث عن الشكل الملائم لهذه الأحداث أو تلك واضح، لأن قلق «تحويل الذاكرة إلى فن»iii هو أساس العمل الروائي.. لقد أصبح من البديهي أن للرواية دور كبير في التأريخ لحياة الإنسان، ومسارات المجتمعات، لكنها، وعبر التخييل، ترى الأشياء من وجهة نظر أخرى مغايرة للتاريخ، وذلك لأن « الفن ليس جوقة تتعقب التاريخ في مسيره، إنه موجود ليخلق تاريخه الخاص»iv، فالرواية لا تعتمد الأحداث العظيمة فحسب، بل ينصب اهتمامها أيضا على التفاصيل الدقيقة المحملة بالتافه، والعابر، والمهمش، وهي في ذلك تغوص إلى أغوار نفسية الإنسان لتلتقط ما لم ينتبه له التاريخ، أو سكت عنه. إذا كان التاريخ يرتبط بأحداث الماضي فقط، فإن العمل الروائي من مهامه الحفاظ على الماضي(وليس على أحداثه فقط) واستشراف آفاق المستقبل، وهو ما درسه بول ريكور تحت عنوان «الإيديولوجيا واليوتوبيا»، «فهو يرى في الإيديولوجيا رمزية إثبات للماضي كما يرى في اليوتوبيا رمزية مفتوحة على المستقبل، وكلاهما مكمل لبعضهما البعض»v. فبقراءتنا لرواية «نحيب الرافدين» وللروايات السابقة عليها، نلاحظ هذا الإصرار على جعل العمل الروائي شهادة تخييلية على ما وقع، ومحاولة استعادة الزمن المنسي، بل أكثر من ذلك فرواية الربيعي تتصدى لأولئك الذين يريدون اغتيال ذاكرة الإنسان العراقي بنسيان ما وقع، وجعل الجلاد هو الضحية. لذلك نسمع صوت السارد يقول: «كل شيء يمكنهم أن ينهوه إلا الذاكرة، هي التي ترى وتخزن ما تراه، لا تهمل حتى تفاصيل التفاصيل»(ص233)، وهو ما جاءت به هذه الرواية النهرية التي يتتبع فيها السارد التفاصيل الدقيقة. ويبدو أن اغتيال الذاكرة أو ممارسة المحو عليها، يأخذ عدة مستويات، وهو ما يرصده السارد في مجموعة من مقاطع الرواية يقول في صفحة (238) «إن الجهل هو نوع آخر من أنواع قتل الذاكرة أيضا» ويضيف في (ص270) أن «قتل الذاكرة يشمل أيضا إتلاف الصور والكتب والوثائق، وهدم الشوارع والمحلات العريقة، وتبديل الأسماء، أو قطع الأعناق...» ذاك ما ترصده الرواية وتتصدى له ذاكرة غسان العامري « فمن يطيق قتلها؟ محوها؟ إلغاءها؟»(ص237)، هذه هي المقاومة التي جعلت شخصيات الرواية تعيش عذابا لا يطاق لأنها في مواجهة دائمة مع سلطة خفية تبغي تدمير الماضي ونسيانه، وهي بذلك تدمر الإنسان وتقتل فيه الأمل في المستقبل، وهذا ما ولد الإحساس بالتمزق الذي يعاني منه غسان العامري ومضاعفوه من الشخصيات الأخرى سواء المكونة لنسيج الحكي أو تلك التي التقى بها العامري أو كان يحكي عنها، وهي تنتمي إلى مجال الأدب والإبداع، بالإضافة إلى أنها شخوص حقيقية مثل: عبد الوهاب البياتي، صلاح نيازي، جبرا إبراهيم جبرا، بدر شاكر السياب، غائب طعمة فرمان، سركون بولص، خليل حاوي... كل هذه الأسماء وأخرى، تحضر في الحكي لتدعم الإحساس بالتمزق، وتعمق فداحته، فهي مأساة بلد ينهار، ويتآكل بفعل حرب مجانية، ونظام حكم جائر. تحكي الرواية هذا التمزق وتترك القارئ، وهو يتقدم في قراءته، إدراكه والكشف عن مسبباته. وأعتقد أن «نحيب الرافدين» نجحت في إقناعنا بذلك، لأن التمزق يتطلب حالة سابقة عليه فيها وحدة ما، وفعلا فإن السارد أرجعنا إلى وضعية اعتبرها بداية لحياة أفضل، لكنها أجهضت، ونعني بذلك أيام عبد الكريم قاسم التي كان يعود إليها كل مرة، ويتأسف عليها، لأنه، كما قال:» العراق لم يشهد طيلة تاريخه الحديث حاكما عمل بشكل متواصل ودؤوب على إرساء دعائم حكمه على أساس المشروع الوطني العراقي كالزعيم عبد الكريم قاسم»(ص157)، فهذا التراوح بين زمن جميل تم محوه، وزمن حاضر بئيس يهدد الإنسان في كينونته، هو ما نتج عنه تمزقا في الهوية، ف «كيف يمكن للإنسان أن يعيش عندما تكون الهوية مهددة بهيجان التراكم، بسبب الخوف من الآخر، أو أيضا، بنوع من الانغلاق على الذات، الذي يحول دون رؤية حقيقة العالم»vi، فالخوف، إذن، هو أساس هذه الهوية المتمزقة: الخوف من محو الماضي، واقتلاع الإنسان من جذوره، والخوف على مستقبل لم يعد يستطيع رؤية معالمه في الحاضر، وبذلك « فالإنسان يعيش التمزق باعتباره تفتتا، قطيعة، تصدعا في سياق وجوده المتناغم: فالحرب والمنفى والموت، سواء بدواعي إنسانية أو طبيعية، هي التي ترسخ وتمدد القلق الإنساني». إن التمزق ينتج عن تلك الازدواجية التي يعيشها الإنسان، بين الكائن والممكن، بين الذات والآخر، بين الرغبة واللارغبة، فإدراك هذه الأمور والوعي بها هو ما يؤسس الهوية، ونحن « لا ندرك هويتنا إلا من خلال الصورة التي نكونها عن ذاتنا وعن الآخر»viii، إلا أن شخصيات رواية» نحيب الرافدين» وعلى رأسها غسان العامري تعيش بين بين، لأن هذه الصورة التي تكونها غير واضحة، تتراوح بين الشيء في ذاته وصورته، بين ما تعيشه وما تطمح إليه، وهو ما أسس في الرواية للهوية المتمزقة، الناتجة عن الصراع الحاد الذي تكابده الشخصيات لأجل مقاومة المحو والنسيان، وجعل ذاكرتهم متيقظة، نابهة، حتى لا يتم اغتيال الذاكرة الذي يعني موتا مؤجلا.. ويبدو أن الروائي عبد الرحمان مجيد الربيعي ينطلق من هذا التمزق، ويجعله خيطا يشد كل مكونات الحكي: شخصيات، فضاءات، أزمنة... بمعنى يعمل على أن يتجلى في المسار الحكائي للرواية، لهذا نجد الحكي ينطلق من هذا التصور، فمع بداية الرواية نجد غسان العامري يتأمل صورته على الجدار، التقطها له صديقه الأرميني زكريان، والملفت للنظر أن هذا التأمل تكرر في تمفصلات كثيرة في الرواية، وهو ما سنراه. تبدأ الرواية هكذا: « يتطلع إلى جدار رصاصي، فيه مصباح مطفأ وكذلك صورته المؤطرة بإطار ثمين، التقطها له مصور أرميني بارع اسمه زكريان هاجر فيما بعد إلى أمريكا (...) وفي صورته المعلقة قبالته كان وجهه باسما» (ص23). ولأن البداية (الاستهلال) هي أعقد جزء في الرواية، فقد استطاع عبد الرحمان مجيد الربيعي أن يضع بداية مناسبة لعمله، « لأن ما تعمل عليه في العمق ضبط مختصر للرواية، أي محاولة تقديمها ملخصة بدقة وشمولية، ففي أكثر من نص روائي يكفينا التعامل مع البداية لمعرفة مجريات الأحداث ولواحقها»ix، وفعلا فقد شكلت بداية «نحيب الرافدين» نواة لكثير من التفاصيل التي ستأتي فيما بعد، ففيها من الرمزية والإيحاء أكثر من السرد التقريري، فهي بداية مفكر فيها بعمق. هكذا نرى الجدار الرصاصي، والمصباح المطفأ ورمزيتهما في الرواية التي تحكي عن حرب مدمرة، وغياب لأي نور يمكن أن يهتدي به الإنسان إلى الخارج، وصورة غسان العامري وهو باسم جعلته يربط الماضي بالحاضر، ويتجلى ذلك أيضا في عودة السارد، كل مرة، إلى هذه الصورة، لأنها تشتغل في الرواية على عدة مستويات: 1- باعتبارها مضاعف غسان العامري، يقول السارد في (ص151): « كلما أحس غسان بالتعب ارتدى ثيابه على عجل وغادر شقته مخلفا هناك وجهه المعلق على الحائط في تلك الصورة التي «أرمن فيها زكريان ملامحه» 2- وسيلة للتأكيد على تلك الازدواجية التي يعيشها غسان العامري حينما تشتد عليه أزمة اغتيال كل شيء، والدخول في مجموعة من الأسئلة المطروحة على الهوية في علاقتها بالآخر، يقول في (ص158) : « لماذا فعلت بي هذا؟ لماذا أوطرت وجهي بهذا الكم من الرتوش؟ لقد غيرتني؟ حتى أصبحت وكأنني لست أنا(...) لماذا لا تحافظ على ملامحي؟ أعد لوجهي سمرته، بل أعد لي وجهي، أو أعدني إلى وجهي « 3- مساءلة الحاضر بالماضي، والهروب من سلطة هذا الأخير، لمواجهة ما يحيط به، وما يقع له في راهنه. جاء في الصفحة(271): « وفكر.. فكر حتى تعب، ثم توصل إلى حل هو أن يحل صورة أخرى بدلا عنها، صورة له حديثة، تمثل وجهه الحالي لا وجهه الذي كان...» إن لصورة غسان العامري المعلقة على الحائط دلالة قوية، فهي حاضرة بحضوره، وتجعل ذاكرته متيقظة على ما جرى في الماضي، وما يقع في الحاضر، إنها كوة للإطلالة على أسئلة شائكة، تكفل السرد بطرحها ومناقشتها، وهذا الذهاب والإياب إليها (الصورة) هو ما أسس لإيقاع الرواية، ولتكامل دلالتها وقصديتها.. يمكننا أن نستنتج بأن رواية « نحيب الرافدين» هي في العمق شهادة تخييلية، عن ما عاشه الإنسان العراقي في ظل الحرب العراقية الإيرانية، وتحت سلطة نظام حاكم أكثر جورا. فرغم كل التقنيات الروائية التي وظفتها الرواية، وكل الحكايات التي نسجتها، كان هم الروائي عبد الرحمان مجيد الربيعي الوقوف عند مرحلة، وتسجيل أهم أحداثها، بل الاشتغال على نقل تلك الأحاسيس الدفينة، وتلك الآلام والأفراح التي عاشها الإنسان العراقي آنذاك.. وباختصار فرواية « نحيب الرافدين» تأريخ فني يحكي ما جرى، ويقدم مجموعة أجوبة، حتى لا يطمس ما حدث فيما بعد، حقائق سابقة.. المراجع: i عبد الرحمان مجيد الربيعي: احيب الرافدين، دار نقوش عربية ، تونس 2011 ii إبراهيم أولحيان: كتابة ترمم خرائب الذاكرة ، القدس العربي، عدد 5205، 2006 iii ميري ورنوك: الذاكرة في الفلسفة والأدب، ترجمة فلاح رحيم، دار الكتاب الجديد، 2007 iv ميلان كونديرا: الستارة، ترجمة معن عاقل، دار ورد، 2006 v ريتشارد كيرني: دوائر الهرمينوطيقا، ترجمة سمير مندي، دار أزمنة، 2009 vi Litteratures et dechirures ,ouvrage collectif ; p.9 vii نفس المرجع، ص 9 viii عبد الله المدغري العلوي: التفكير في الرواية: مقاربة تاريخية، موضوعاتية، جمالية، ترجمة: إبراهيم أولحيان، سيصدر الكتاب قريبا ix صدوق نور الدين: البداية في النص الروائي، دار الحوار، 1994