يُعتبر الجنس بأبعاده وتجلياته المتعددة الأكثر عمقا وتغلغلا في أنطولوحيا الوضع البشري، في الأحداث التي يعيشونها، واللغة التي يتكلمونها، في السلم كما في الحرب، في الرخاء كما في البأساء.. إنه البعد الأكثر تأثيرا في الوجود الإنساني. وسأخص قراء هسبريس بهذه الدراسة العلمية على حلقات، لتسليط الضوء على مناطق الظل في ثقافتنا، والعمل على تفكيك وخلخلة الطابوهات، لأن العلم نور والجهل ظلام، ومحاربة الجهل في نظرتنا لذواتنا إناثا وذكورا، هو الطريق لأنسنة المجتمع، ونشر قيم الاحترام المتبادل بين آدم وحواء، من أجل التفاهم والعيش المشترك والبناء. لاريب أن الجنس يحظى بحضور قوي في في الثقافة الإسلامية، سواء في النصوص الدينية الضابطة له في النظام الاجتماعي، أو تلك النصوص التي تُشير إلى الجنس كأحلى ملذات الجنة، تتطرق إلى هذا الأمر زهاء ثلاثمائة آية، إضافة إلى الأحاديث النبوية، والمؤلفات الفقهية والأدبية، التي تكون تُراثا ضخما، حول الجنس، يمكن وصفها بالجنسانية الإسلامية، التي تتمحور على الجنس موضوعا وسلوكا، وتضفي عليه الكثير من الاعتبارات القيمية خصوصا وهو يستقطب اهتماما مفصليا في التاريخ.. إن جغرافية الجنس في المجتمعات الإسلامية وعرة المسالك، والمقاربة العلمية للجنس مجازفة، مما يفسر قلة الأبحاث والدراسات العلمية في موضوع الجنس، ربما بسبب "الخوف" من الخوض في المقدس على اعتبار أن الجنس مؤطر دينيا، ورغم ما يبدو في مختلف مظاهر الحياة اليومية من اعتبار مسألة الجنس من البديهيات التي أصبحت مُجاوزة، فإن الجنس مازال أكبر الطابوهات في ظل مجتمع ذكوري يستمد "فُحولته" ووجوده، من "القضيب"، وأكثر ما يخشاه الذكور، هو الخصاء، وانكسار وفقدان القضيب. حتى لا نُصدِر أحكاما ذاتية جاهزة متسرعة، لا بد أن نتجاوز الفهم البيولوجي لمفهوم القضيب، الذي يحمل نغمة جنسية، بيد أنه يجاوز الجنس إلى الثقافة، المجتمع، السياسة، الاقتصاد ومختلف مجالات الحياة. سنحاول استنطاق الجهاز الفاهيمي، الذي سيساعدنا على فهم الإطار النظري لمفهومي "الفحولة" و"الخصاء": - في البدء كانت الفحولة: من الناحية اللغوية كلمة الفحولة مشتقة من الفحل، وهو الذكر من كل حيوان، الذي يتمتع بالقوة، إن الفحولة في معناها ومبناها قوة، سلطة، سيطرة، وبالرجوع إلى لسان ابن منظور، نجده يربط الفحولة بالذكورة: الذكر خلاف الأنثى، ويوم مذكر يوم شديد، ورجل ذكر إذا كان قويا شجاعا أبيا، ومطر ذكر: شديد وابل، وقول ذكر متين، بل إن الذكورة تمتد إلى الشعر فيوصف بالقوة والفحولة.. فحول الشعراء.. يمكن أن نخرج بعدة خلاصات من تعريف ابن منظور: - إعطاء كلمة الذكر المعاني الدالة على القوة والعظمة والنفوذ القيمي. - الربط بين المعاني المادية والمعنوية، فالذكورة في كل شئ هي متانته، صلابته وإباؤه. - إخلاص ابن منظور للثقافة الذكورية السائدة في عصره، ورعايته لها، عندما يستشهد بترسانة من الدلالات تعتبر كل ما هو قوي وأصيل ومنيع ومؤثر وفاعي في الذكورة. وتجدر الإشارة أن الذكورية ثقافة كونية، يتضح هذا من خلال اللسان الغربي لمفهوم الفحولة Vérilité، إذ تتأرجح بين الذكورة والفحولة، والرجولة، وقبول الذكر واستدماجه لقيم وتمثلات الذكورة والتصرف وفقها في محيطه، كما تعني كمال الصفات المميزة للرجل بما فيها: - المميزات الفيزيولوجية للذكر البالغ، بالمعنى البيولوجي، فتكون مرادفة للبلوغ Puberté/النضج الجنسي.. - ترمز أيضا إلى السلوك الجنسي للرجل خاصة قوته وقدرته جنسيا، والتي يحددها الخبير السيكولوجي بيير داكو Pierre Daco في الرغبة الجنسية لذى الذكر، والقدرة على الانتصاب والإيلاج، ثم القدرة على إتمام الفعل الجنسي وتحقيق اللذة المشتركة لا لذة الرجل فقط. أما السوسيولوجي بيير بورديو Pierre Bourdieu فيربط الفحولة بالسيطرة الذكورية بمعنى نظام أو مؤسسة اجتماعية مرتكز على الهيمنة والتسلط والدوغمائية الذكورية المُمَأسسة على القوة والتفوق الذكوري في المجتمعات الأبوية التي تُبنى على الخلط بين الوظائف، الأدوار والسلطات، فالنظام الأبوي لا يعني سلطة الأب فحسب، بل تتداخل وطيفة الأب بوظيفة صاحب السلطة، وتتداخل وظيفة الزوج بوطيفة صاحب السلطة، إن النظام الذكوري يقوم على هيمنة الذكر، وإخضاع المرأة، وتنشئة الطفل الذكر على تبني قيم الذكور، وبالتالي يُكوِن الطفل هويته كرجل (فحل) بالاستناد إلى التمثلات النفسية-الاجتماعية الموجودة في المجتمع الذكوري. - هل الفحولة أسطورة؟ - ماذا لو جردك أحدهم بقوله: "أنت لست رجلا؟". إن الخطاب حسب مؤلِف "تاريخ الجسنسانية" ميشيل فوكو Michel Foucault، ليس مجرد قول يكشف أو يُعبِر عن ممارسة، بل هو نفسه ممارسة وفعل في الواقع يسير وفق قواعد وآليات تخلق الموضوع وتضع الحدود والموانع والمعايير، وإذا كان الخطاب ممارسة وفعلا أو قولا مؤثرا في الواقع، لأنه من قبيل الأفعال الإنجازية فإن تأثيره لا يكون بذاته وإلا أضحى سحريا، وإنما بفضل المؤسسات التي تتحكم في قواعد اشتغاله وما تبتدعه مؤسسة المجتمع من تخيلات يُفسِر بها الأفراد عالمهم ويُضفُون المعنى على وجودهم. وهنا يُسعِفنا السوسيولوجي المغربي الخمار العلمي من كون التربية أداة التنشئة الاجتماعية، هي الصانعة للثقافة الذكورية، وظيفتها التشكيل المستمر للماضي، وليس الماضي في سياق مؤسسة الفحولة سوى ميراث طويل من الهيمنة الذكورية وما يرتبط بها من عنف مادي ورمزي للمحافظة على السيطرة الذكورية على المرأة، وجعل الذكر فوق الأنثى، وهنا تُفرض على المرأة أدوار اجتماعية، لا تتعدى الثلاثة: - العذراء: ملك الأب الذي تحمل اسمه وشرفه، تحمل قيمة تبادلية ثمينة بين الرجال كونها بضاعة نظيفة مرغوب فيها. - الأم جسد للزوج وآلة للإنجاب، تفقد قيمتها بالطلاق (وجود عيب)، أوالترمل (عتبة نحس). - العاهرة: مقبولة ضمنيا، لكنها مرفوضة من النظام الاجتماعي، قيمتها في جسدها الذي يصلح للتبادل، مما يجعلنا نتحدث عن مؤسسة العهر التي قد تتعرض للشجب قولا، مع أنها في الواقع لا تلقى التساهل والتغاضي فحسب، بل تُمارس على نطاق واسع لا سيما من قبل الطبقات السائدة، والشجب لا يمس الرجال (الباغون فحول) بل يوجه للنساء (الباغيات مخصيات) فقط، فيعاملن باحتقار ويتبذن كناية على السيادة المطلقة للذكور على جنس النساء. - المجتمع الذكوري يتغاضى عن عهر الذكور، بل هو يكون في عالب الأحيان مفخرة ورمزا للفحولة، بينما يتم استِبشاع عمر المرأة لماذا؟ - لأن العُهر في مؤسسة الفحولة الذكورية أنثوي. وإذا كان التنافس والتساوي في العهر لا معنى له غير المأساة والانحطاط والضياع والشقاء والبؤس ومضاعفة النماذج والسلوكات المنحطة، فإن اعتبار العهر أنثوي لا معنى له غير ازدواجية المواقف والنفاق الاجتماعي، والجسد الإنساني له قدسيته وليس لحما مُستباحا. إن الخوف على الفحولة الجنسية هو أخطر ما يخشاه الذكور في المجتمعات العربية، ويعتبر جيث الرحل عن أمراضه أواضطراباته الجنسية، مسا بذكورته، وغالبا ما تُنسب إلى "الثقاف" الذي يعني شل قدرة الرجل الجنسية بواسطة السحر، وطبعا توجه أصابع الاتهام مباشرة إلى المرأة (كيد النساء) وهي قناعة مشتركة بين معظم الذكور، ولحل "التقاف" يتم الاستنجاد بالمشعوذين والعلاج الشعبي، ولا يلجأ إلى الطبيب المختص إلا قليلا، وتزداد معاناة أصحاب القضبان المنكسِرة، لأن انكسار القضيب في مجتمع ذكوري يعتبر الرجل معادلا قضيبيا يعني انكسار الرجولة وضياع سلطة الفحولة. - ما هو هذا القضيب Le phallus: القضيب كل ما له طول وعرض، وطوله أكبر من عرضه، المحلل النفسي سغموند فرويد S.Freud يُشبه القضيب بعصا موسى عليه السلام ( يهش وفيه مآرب أخرى)، نعم للقضيب نغمة جنسية يَهُش، لكنه يتعدى ما هو جنسي، وهذا ما جعل جاك لاكان Jacques Lacan يعتبر القضيب كالدال الذي يدل على الطبيعة الأبوية الذكورية، لذلك يستعمل Lacan كلمة ذكر Penis لأن الهيمنة الذكورية في تصوره للأشياء هي بناء ثقافي، وليست معطى بيولوجيا، ولذلك فالقضيب دائما رمزي، "إذ ليس المهم طول العصا بل السحر في العصا". وقد اشتقت عبارة "قضيب مركزي" من طرف الحركات النسوية ضدا على التوجهات التي تعتبر الذكورة هي المصدر الطبيعي الوحيد للسلطة. يحكي التاريخ أن "الماركيز تيوبولد" حكم على أسرى حرب بالخصاء، غير أن امرأة عند سماعها الحكم، أخذت تصرخ وتولول ، استمع القائد إلى شكواها فقالت: إن لزوجي عينين وأنف ويدين وقدمين، هذه الأعضاء ملك خاص به، وقد يستحق أن يفقدها إن ارتكب جريمة ما، وليتفضل مولاي بالإبقاء على ما أعتقد أنه ملكي الخاص بي، فضحك القائد وأطلق سراح زوجها . في المجتمعات العربية يعامل القضيب كأبرز الخصائص الرجولية الأكثر سرية، ويعتبر معظم الرجال طول القضيب مدخلا إلى قلب المرأة "لعلام" وينتشر هاجس حجم وفاعلية القضيب، مما يعرض أصحاب القامات القضيبية القصيرة أو القضبان "المنكسرة" إلى توثرات نفسية قد تؤدي إلى اضطرابات نفسية وسلوكات غير سوية وأعطاب جنسية في الحياة الزوجية، رغم أن نجاح الفعل الجنسي لا يرتبط بحجم القضيب، إذ ليس المهم طول العصا، بل "فعل" العصا، والنكات الجنسية تعكس ثقافة قضيبية حبلى بالتناقضات، ويعتبر تعيير الرجل بصغر قضيبه أو وصفه بالضعف الجنسي، من أكثر الشتائم مسا برجولة الرجل. يحظى القضيب في الثقافة العربية بحضور قوي من خلال مؤلفات عدة، خصصت للجنس/ النكاح، لمؤلفين ذوي ألقاب دينية، كالامام جلال الدين السيوطي والشيخ النفزاوي وشهاب الدين التفاشي، ويتضح هذا من خلال إفراد أبواب خاصة لأسماء القضيب التي تفوق المائة في هذه المؤلفات والمدعمة بالآيات والأحاديث والأشعار والأمثال باختصار، هذه المؤلفات توضح أن الرجل في الثقافة العربية معادل قضيبي . في المجتمعات العربية يمتد القضيب إلى كل المجالات: الدينية، والسياسية والاجتماعية، إنه يشكل ثقافة مترامية الأطراف، يبرز القضيب سياسيا في التفرد بالحكم ورفض الديمقراطية خوفا من فقدان القضيب/ السلطة، مثال على ذلك، في المجتمعات العربية ليس هناك زعيم "سابق" أتاح الفرصة ديمقراطيا للاحق، فقط هناك "زعيم راحل" أو "زعيم مغتال" أو زعيم مطرود، يتمظهر القضيب دينيا حين يفرض شخص أو مجموعة، وصاية دينية على الآخرين، إذ يعتقد هذا الشخص أنه ولي الله وأتقى الناس والباقي على ضلالة، أما صورة القضيب اجتماعيا فكثيرة إذ يعتقد كل رجل أنه أرجل رجل " سيد الرجال" وما يصاحب هذا الاعتقاد من سلوكات أبسطها غياب احترام إنسانية الانسان في إطار التعامل اليومي . الثقافة الجنسية تجد باستمرار ما يؤكد حضور القضيب كفعالية مركزية لخدمة الذكورة على أرض الواقع، حيث اللغة نفسها تتلبس بوطأة تلك الجنسانية وتغدو مشروعا متجددا في خدمة سلطة ثقافة "الفحولة الجنسية"، فعبر التاريخ ارتبط القضيب كعضو ذكري بالفعل الجنسي والاختراق والافتضاض، مما يجعله رمز القوة والسلطة والتواجد والفحولة، وتغييب ثقافة الفحولة العلمية وإثبات الذات من خلال تكريس منطومة القيم الديمقراطيةالتي تؤنسنُ الإنسان، أين فحولة العدالة الاجتماعية؟ أين فحولة الإبداعات الفكرية والتواجد المعرفي؟ أين فحولة الاختراعات والاكتشافات وافتضاض عوالم التكنولوجيا ومعانقة التقدم والازدهار والرخاء؟ هذه الفحولة لن تتحقق إلا بتشغيل المراكز المعرفية للدماغ، وهي مجمدة عند معظم شعوب العالم العربي، التي تمارس عليها إيديولوجية التخدير الفكري، وتحفيز مراكز فحولة الغرائز في أدمغتها، لجعلها تفكر فقط في الأكل والشرب والجنس وجعل هذه الشعوب هجينة مدجنة، تخشى خصاء القضيب.. وهذا ما سأُفصِل فيه القول في المقالة القادمة..