رغم التطور التكنولوجي الذي تعرفه البشرية والتقدم في الزمن، ورغم الغزو المعلوماتي لحيواتنا، إلا أنه لا يزال موجودا بيننا كما في العصور الغابرة، يقوم بواجبه الإنساني على أحسن وجه مقابل حفنة من القمح أو الشعير، أو بعض الهدايا والحلويات والمال كجزاء صبيحة يوم عيد الفطر، بالرغم من التقدم الذي عرفته الإنسانية، وبالرغم من استغنائنا عنه في المدن على وجه التحديد جراء الانفجار التكنولوجي، كما أن البوادي والقرى أهملت هي الأخرى هذا الموروث الثقافي والشعبي المرتبط بها ارتباطا وثيقا لصالح التطور التكنولوجي. يعتمد في مهمته على عصا خاصة يدق بها على طبلته التي يحملها بحبل في رقبته فتتدلى إلى صدره، أو يحملها بيديه من أجل إيقاظ الناس النيام للسحور في شهر رمضان الفضيل، وغالبا ما يكون النداء مصحوبا ببعض الأناشيد الدينية والأمداح النبوية وبعض التهليلات التي تختلف باختلاف المنطقة واللغة المتداولة كذلك، يجول الأزقة والشوارع المتربة قصد القيام بمهمته التي اضطلع بها منذ زمن، سواء في فصل الشتاء أم في الربيع أم في الخريف أم في الصيف، إذ الفصول عنده سيّان، وكثيرا ما كنا نفرح ونحن صغار حينما نرمقه أو نسمعه مارا قرب منزلنا وهو يدق على طبلته المصنوعة من الجلد، وقد يجرؤ في بعض الأحيان على طرق باب بعض الأسر التي له بها علاقة متينة بغية إيقاظها، ومن الأسر من تقدم له بعضا من "بوشيار" كطعام للسحور، على اعتبار أن شريحة واسعة من سكان المنطقة يعد "بوشيار" المدهون بالزبدة والعسل والشاي الساخن وجبتهم اللذيذة والمفضلة لتناولها في السحور، لاسيما في الليالي الباردة في فصل الشتاء. بتونفيت التابعة إداريا لإقليم ميدلت، والمنتمية جغرافيا لسلسلة جبال الأطلس الكبير الشرقي، نجد "المسحراتي" أو صاحب الطبلة يجوب ساعتين تقريبا حيا من أحياء "تامازيرت" من أجل إيقاظ الساكنة لتناول السحور قبل أن يعلن المؤذن عن موعد الإمساك عن شهوتي البطن والفرج، وغالبا ما يكون هناك أكثر من "مسحراتي" واحد، إذ لكل حارة بمنطقة تونفيت صاحب طبلة معروف ومألوف لدى الناس المسمى في حيّنا نحن ب "أوداني موحى". ذلك الرجل الستيني، ذو الجسم النحيف والقامة القصيرة والبشرة الداكنة الذي يكاد لا يفارق المسجد الكائن قرب المقبرة كلما حان أوان الصلاة، اعتاد على هذا التقليد منذ مدة، وألفه الكبار قبل الصغار، واعتادت على دقات طبلته النساء كذلك بشهادة الكثيرين من المعمرين، يؤكد أنه منذ ريعان شبابه وهو يمارس هذا التقليد المرتبط بشهر رمضان الأبرك، رغم أنه يصادف صعوبات في فصل الشتاء كلما كانت الثلوج تتساقط بغزارة، وكلما كانت درجة الحرارة منخفضة لما دون الصفر، خصوصا وأن الليالي هي مرتع نشاطه، لأن المنطقة معروفة بتضاريسها الوعرة ومناخها البارد وموقعها الجبلي، إذاك يصعب عليه أن يمر من كل تلك المواقع التي ألف الجولان بها حينما يكون الجو حارا في فصل الصيف، كما هو الحال في اليوم الذي أتبادل معك فيه أطراف الحديث، هكذا يصف "عمي موحى" ليالي رمضان في فصل الشتاء القارس وهو يجول زقاق المنطقة أملا في إيقاظ الناس. بالإضافة إلى العوائق الطبيعية والمناخية التي تحول دون تمكن "المسحراتي" من القيام بمهمته على أكمل وجه، نجد تزود السكان بالكهرباء الذي دخل بيوتهم كالصاعقة، وأيضا وفرة الساعات اليدوية والهواتف الذكية والحواسيب المحمولة والثابتة المجهزة بأحدث التكنولوجيا المعتمد عليها للقيام للسحور كساعة المنبه دون مسيس الحاجة إلى صاحب الطبلة الذي يعتبره البعض اليوم، ممن يسمون أنفسهم حداثيين نتيجة محاربتهم الأمية في يوم من الأيام، مصدر ضجيج وصخب، ويتوجس شرا كلما مر بالقرب من مسكنه، لأن الساعة في نظر هؤلاء سدّت مسد "المسحراتي" الذي أكل عليه الدهر وشرب، ولم يعودوا في حاجة لخدماته شبه المجانية، دون أن ننسى أن سهر الشباب ليلا في المقاهي رفقة حواسيبهم المزودة بالأنترنيت، يجعل الأسر تستغني عن خدمات صاحب الطبلة الذي كان سابقا المعول الوحيد عليه في نهوض للسحور، لأن فردا من كل أسرة لا يزال خارج البيت خصوصا في فصل الصيف، لهذا فهو من يتكفل بمهمة إيقاظ والدته كلما قصد منزل أبويه ساعتين قبل أذان الفجر. عموما، فالمسحراتي ورمضان وجهان لعملة واحدة، إذ لا يمكن أن نفصل أحدهما عن الآخر، وإلا سيفقد رمضان حلاوته وطعمه وخيره وبركته كما هو الشأن في المدن الميتروبولية التي لا يعرف المسحراتي إليها سبيلا. وعليه، فصاحب الطبلة صورة لا يكتمل رمضان بدونها، لأنه يرتبط ارتباطا وثيقا بوجداننا الرمضاني وثقافتنا الشعبية وتقاليدنا القديمة قدم الإنسان. وبالرغم من تقدم البشرية، ينبغي الاهتمام بمثل هذا الموروث الثقافي حتى لا يتوارى عن مدارك الأجيال اللاحقة، ويجب القيام بدراسات ومقاربات سوسيولوجيا على شكل مقالات وبحوث جامعية وأكاديمية لمثل هذه الحرف والمهن التقليدية التي تدق ناقوس الخطر واللامبالاة باستمرار، من أجل نفض الغبار عنها حتى لا تبقى حبيسة الذاكرة الفردية والجماعية لجيل دون آخر.