احتضن مجلس المستشارين، مساء يوم الأربعاء فاتح يوليوز 2015، ندوة اتخذت من موضوع دور الفاعل الحزبي في بلورة السياسات الأمنية عنوانا عريضا لأشغالها، وذلك بشراكة مع المركز المغربي للديمقراطية والأمن وبمساهمة عدد من الجمعيات الفاعلة في الميدان. وإذا كان أمرا محمودا انفتاح المؤسسة التشريعية على المجتمع المدني خصوصا حين يتعلق الأمر بموضوع حساس وشائك مثل الأمن، فإن ما أفرزه النقاش يدعو لكثير من مراجعة الأوراق، حتى لا تبقى المؤسسات المنتخبة غائبة عن القيام بأدوارها الدستورية، وحتى لا يبقى الفاعل الحزبي مفعولا به في دواليب الدولة، دون أدوار حقيقية لا في الحكم ولا في التشريع ولا في المراقبة. والحقيقة أنني لم أتفاجأ كثيرا باعتراف السياسيين الذين شاركوا في هذه الندوة، بأن الأحزاب التي يمثلونها لا تملك رؤية للكيفية التي يجب أن تعمل بها الأجهزة الأمنية والاستخباراتية المغربية، وهو ما ينعكس في صورة غياب كامل لأي دور لها سواء داخل الحكومة أو المعارضة، كلما تعلق الأمر بالمسائل المتعلقة بالسياسات الأمنية وبمحاربة مظاهر الجريمة والإرهاب. وهو الشيء الذي عبر عنه مصطفى المنوزي رئيس المركز المغربي للديمقراطية والأمن حين قال في تقديمه للندوة أن الأحزاب السياسية المغربية تتعامل مع هذا الملف بمنطق كم حاجة قضيناها بتركها. ذلك أن الجميع مستسلم لفكرة أن هذا المجال محفوظ للملك، الذي يختص وحده دون سواه في تعيين كبار المسؤولين الأمنيين والاستخباراتيين والعسكريين، الذين لا يخضعون لمساءلة البرلمان، ويعملون وفق أجندات لا يعلم عنها عموم المواطنين أي شيء، ويبقون في مناصبهم إلى أن يغيبهم الموت أو تطيح بهم غضبة ملكية. ورغم أن دستور فاتح يوليوز 2011 الذي جاء نتيجة ضغط شعبي كبير، قادته حركة 20 فبراير من أجل إسقاط الفساد والاستبداد، قد نص في فصله 54 على إحداث مجلس أعلى للأمن بصفته هيئة للتشاور بشأن استراتيجيات الأمن الداخلي والخارجي للبلاد، وتدبير حالات الأزمات، والسهر على مأسسة ضوابط الحكامة الأمنية الجيدة، فإن التماطل في تنزيل مقتضيات هذا الفصل على أرض الواقع يكرس وضع كل الفاعلين الحزبيين مهما كانت مناصبهم ومسؤولياتهم خارج دائرة صنع القرار الأمني ولو على سبيل التشاور. ورغم أن ذات الدستور قد أعطى لرئيس الحكومة في باقي فصوله صلاحيات واسعة في بلورة كل السياسات التي تسير وفقها مختلف أجهزة الدولة ومؤسساتها، ومنحه سلطات معتبرة في تعيين كبار المسؤولين والموظفين العموميين، فإن القراءة غير الديمقراطية لفصوله قد أنتجت لنا في نهاية المطاف قوانين تنظيمية معيبة كرست منظومة الاستبداد، وأعادت عقارب الساعة سنوات إلى الوراء، حيث كل السلطات والاختصاصات تجتمع في يد الملك وحده دون شريك له. إن بلورة السياسات الأمنية خارج الرقابة الشعبية التي من المفترض أن يمثلها نواب الأمة في البرلمان، هو ما جعل نظام بنعلي في تونس يسقط بمجرد أن صفعت شرطية مواطنا في الشارع العام، ذلك أن التونسيين اقتنعوا حينها أن إقرار العدل يستحيل في ظل نظام غير ديمقراطي لا تخضع فيه الشرطة للمساءلة ولا تخضع عناصرها للقانون، وأن سبيل الخلاص لا يمكن أن يكون إلا عبر ثورة شعبية تسقط النظام القائم على حكم الفرد، من أجل بناء نظام جديد يقوم على الفصل بين السلط وعلى ربط المسؤولية بالمحاسبة، حتى لا تبقى السياسات الأمنية رهينة أجندات غير وطنية تقوم أساسا على حماية الحاكم، مقابل إطلاق يد العناصر التي تقوم على تنفيذها للاستفادة من امتيازات خارج القانون. فهل هذا هو المصير الذي يريده البعض للمغرب من خلال الإصرار على جعل الأجهزة الأمنية فوق المحاسبة وبعيدة عن المساءلة؟؟؟ في الولاياتالمتحدةالأمريكية كثيرا ما تطالعنا نشرات الأخبار بارتكاب عناصر شرطتها لجرائم يندى لها الجبين، تصل حد القتل بدوافع عنصرية مقيتة. ورغم ذلك فالبلد يبقى محصنا من الهزات والانتفاضات والثورات، لعلم الناس هناك أن الشرطة ليست فوق القانون وأن القضاء المستقل الذي يثقون في عدله سيأخذ للمظلومين حقوقهم، وأن الرئيس نفسه ليس في منأى عن المحاسبة والمساءلة التي تصل مداها إبان الانتخابات حيث بإمكان الشعب إسقاطه بعد ولايته الأولى، قبل أن يتكلف الدستور بإسقاطه جبرا بعد ولايته الثانية مهما كانت إنجازاته. لذلك فما على الدولة المغربية سوى أن تختار بين نموذج نظام بنعلي الاستبدادي الذي قاد شعبه في نهاية المطاف للثورة عليه، ونموذج الدول الديمقراطية التي حصنت نفسها ضد الثورات من خلال إشراك الشعب عبر منتخبيه في بلورة كل السياسات التي تلامس جوانب حياته، وعلى رأسها السياسات الأمنية، تشريعا وتنفيذا ومراقبة، وهو الشيء الذي يستحيل تصوره دون المرور إلى ملكية برلمانية يسود فيها الملك ولا يحكم. -رئيس مركز الحريات والحقوق