عندما انطلقت شرارة الثورات العربية في تونس ونجح الشعب التونسي في إسقاط الرئيس الهارب، اعتقد الجميع أن هناك مرحلة جديدة قد انطلقت عنوانها الحرية وترسيخ مبادئ النظام الديموقراطي عبر آليات التداول السلمي على السلطة وإعمال آليات المراقبة والمحاسبة على ممارسة السلطة واحترام حقوق الإنسان، لكن مع مرور الوقت تبين بأن سقوط رأس النظام لا يعني سقوط النظام كمنظومة متكاملة تهيمن على الأمن والقضاء والإدارة ومسالك المال والثروة، فبعد فرار بنعلي تولى السلطة الوزير الأول محمد الغنوشي الذي لم يكن معارضا للرئيس ولذلك استمرت المظاهرات والاحتجاجات توجت باعتصامات "القصيبة" التي أسقطت الغنوشي و"جاءت" بالقايد السبسي الذي جاء تحت شعار استرجاع هيبة الدولة ونجح في طمأنة جزء كبير من التونسيين بعد حالة من الانفلات الأمني التي سادت في أعقاب الثورة، غير أن سياسته لم تكن سوى نسخة من المرحلة البورقيبية، لكن النتائج على الأرض تؤكد بأننا بصدد ثورة مضادة تقوم بها منظومة المصالح الكامنة داخل مؤسسات الدولة والتي لم تسقط مع سقوط رأس النظام، فحزب الرئيس الهارب المنحل تم تفريخه إلى حوالي خمسين حزبا، والبوليس السياسي رجع من جديد إلى ممارساته السابقة ومطالب استقلال القضاء المرفوعة من طرف القضاة أنفسهم لازالت تراوح مكانها، والإعلام الذي عرف تغييرا خفيفا في البداية لم يعرف إصلاحات عميقة ولم تتم الاستجابة لمطالب الهيئة العليا لإصلاح الإعلام، وأصبح دوره محصورا في خدمة أجندة الثورة المضادة ومنها العمل على تفكيك جبهة المعارضة وإثارة النعرات الإيديولوجية وتحريف النقاش السياسي الوطني من نقاش مستلزمات الديموقراطية الحقيقية إلى مناقشة بعض القضايا الهوياتية ذات الحساسية بالنسبة لرجل الشارع العادي.. في مصر سقط الرئيس حسني مبارك وسقطت معه مجموعة من "الديناصورات" السياسية وتم حل الحزب الوطني وتم جر رموزه إلى المحاكمة وعلى رأسهم الرئيس المريض برفقة ابنيه جمال وعلاء.. بعد الرئيس المخلوع تولى المجلس العسكري السلطة بصفة انتقالية، لكن إدارته للفترة الانتقالية لم تنجح في بناء الثقة المطلوبة خاصة مع عودة المحاكمات العسكرية للمدنيين وتأجيج الاستقطاب الطائفي بين المسلمين والمسيحيين الأقباط عبر توظيف أطراف داخل الكنيسة القبطية تستفيد من استمرار هذا المشكل وتوظيف أطراف من الجماعات الإسلامية تعتبر نفسها وصية على حماية الإسلام داخل المجتمع وتقوم بتصريف خطاب ينزع نحو الكراهية والتمييز اتجاه المخالفين في الاعتقاد، مع تسجيل عودة القبضة الأمنية من جديد..مع التأكيد على أن المستفيد من عودة التوتر الطائفي المصحوب ب"الانفلات الأمني" هو المجلس العسكري الحاكم.. والنتيجة أن الشعور السائد حاليا لدى المصريين هو أن منظومة النظام السابق استعادت نشاطها بعد امتصاص صدمة الثورة وهي بصدد القيام بثورة مضادة للانقلاب على نتائج الثورة وإعادة إحكام سيطرتها على مفاصل السلطة في المرحلة القادمة، مدعومة بإرادة حكومات غربية تستشعر أن مسلسل الثورات الجاري في المنطقة العربية لا يخدم مصالحها الاستراتيجية ومدعومة أيضا ببعض القوى الإقليمية العربية التي جندت سياستها الخارجية لضرب "ظاهرة" الثورات العربية عبر جميع الوسائل الممكنة، ولذلك لم يتردد شباب الثورة في مصر في المطالبة برحيل المشير طنطاوي ونقل السلطة إلى المدنيين في أقرب وقت عبر انتخابات حرة ونزيهة.. منظومة النظام السلطوي نشأت في غياب التداول السلمي على السلطة، وجعلت من مؤسسات الدولة مؤسسات مهيمنة وليست مؤسسات خدمات، ذلك أن مؤسسات الدولة لم تكن مجالا للتنافس السياسي وإنما كانت طرفا فاعلا ومهيمنا على السلطة والثروة وليس هناك استعداد لدى القوى المتحكمة فيها للتنازل عن مصالحها وامتيازاتها الكبيرة. في المغرب لم تكن تظاهرات حركة 20 فبراير تعبيرا عن إرادة ثورية، ولم يرفع المتظاهرون شعارات تطالب بإسقاط النظام، ولكن تطلعات عشرات الآلاف من المتظاهرين كانت تطالب بالتغيير الحقيقي: دستور ديموقراطي يرسخ مبدأ الفصل بين السلطات ويرسي قواعد المحاسبة والمراقبة على ممارسة السلطة وينقل الملكية من ملكية تنفيذية إلى ملكية برلمانية، وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، وإسقاط رموز الفساد والفصل بين السلطة والثروة وإصلاح الإعلام، هذه المطالب هي التي يختزلها شعار: إسقاط الاستبداد وإسقاط الفساد.. الدولة أظهرت يوم 9 مارس تجاوبا سريعا مع مطالب المحتجين، تمثل في قرار مراجعة الدستور، كما تم إطلاق المعتقلين السياسيين الستة في قضية بليرج وبعض المعتقلين السلفيين، ولمسنا انفتاحا موزونا في وسائل الإعلام على بعض الأصوات المعارضة بما فيها شباب 20 فبراير، لكن في لحظة الاستفتاء على الدستور الجديد أظهرت السلطة عودة قوية لأدواتها القديمة من أجل التأثير في إرادة المواطنين عبر تضخيم نسبة المشاركين في يوم الاستفتاء بواسطة أساليب التزوير في المحاضر، كما توقف ملف إطلاق سراح المعتقلين بعد الاستدراج الاستفزازي لبعض المعتقلين السلفيين داخل السجن وافتعال أحداث يوم 16 ماي 2011، وظهر واضحا أن هناك إرادة للانقلاب على روح الدستور الجديد وتأويل مضامينه بطريقة سلطوية وهو ما تجلى بشكل واضح في القوانين الانتخابية التي لم تختلف في مفاتيحها الرئيسية عن القوانين السابقة التي تضمن استمرار آليات التحكم القبلي في جزء أساسي من العملية الانتخابية، بل يمكن القول أننا بصدد تسجيل مؤشرات تراجعية حتى على فترة ما قبل 20 فبراير مثل عودة الحزب السلطوي المدعوم من طرف الدولة عبر تحالف 4+4، في إشارة واضحة على طبيعة الحكومة القادمة، ولم يلمس المواطنون تفعيلا للدستور الجديد يشعرهم بأن هناك تحولا حقيقيا عن مرحلة الدستور السابق بقدر ما سجلوا استمرار الحضور القوي لرئيس الدولة في وسائل الإعلام العمومية في مقابل الحضور الباهت لرئيس الحكومة، مع استمرار هيمنة وزارة الداخلية على الشأن الانتخابي.. إننا أمام ثورة مضادة تقوم في العمق على احتقار حركة الشارع المغربي، وعدم الاعتراف بحقيقة الواقع الذي لا زال إلى اليوم يرفع مطالب إصلاحية ولا أحد يستطيع التنبؤ بطالبه غدا بعد انتخابات ظهر بأنها تتوفر على جميع الشروط المخيبة للآمال....