فك الاحتجاز القسري الصحي لحوالي 800 مريض عقلي أمر واجب على وزارة الصحة والحكومة، ويدخل ضمن اختصاصاتها، وهو أمر عادي وليس فتحا مبينا كما تدعي الحكومة وأحزاب الأغلبية لاسيما حزب "اليسار الفوضوي" الذي ينتمي إليه وزير الصحة. إن من اختصاصات الحكومة حماية المواطنين، وبذل الجهود المؤسساتية والقانونية والاقتصادية لتمكينهم، وتمتعهم بحقوقهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ولكن العصي عن الفهم بالنسبة لهذه الحكومة هو تقديمها لاختصاصات عادية وواجبة وكأنه اكتشاف عظيم. ويبدو أن هدف الحكومة ليس هو الإنجاز بل البحث عن فقاعات إعلامية للتعويض عن مردوديتها المتواضعة؛ فبعد الضجة الحكومية حول التغطية الصحية وتخفيض ثمن بعض الأدوية، وما رافقها من تسخير لجميع الأبواق، وبعد نتائجها المعطوبة في هذا الإطار تخرج الحكومة لتسوق لملف بسيط لا يهم إلا نسبة ضئيلة جدا من المغاربة، لا يمكن أن يشكل وزنا كبيرا ضمن إنجازات الحكومات الديمقراطية، محاولة قدر الإمكان التغطية على فشلها في مباشرة الإصلاحات الحقيقية في القطاع الصحي، وعلى ذعرها من مواجهة اللوبيات المسيطرة في قطاع الصحة، والتي يكتوي المواطن المغربي يوميا من سلوكياتها وممارساتها. إن الإصلاحات الحقيقية لا تتخذ بالفقاعات الإعلامية، ولا بالخطاب المتحمس، بل تطبق من خلال سياسات عمومية هادفة وحقيقية، تركز على عمق المشكلات في قطاع معين، وتستهدف أغلبية المواطنين، ذلك أن الشجاعة السياسية الحقيقية في المجال الصحي لا تتمثل في ملف "بويا عمر" والذي لا توجد وراءه مصالح اقتصادية كبرى، ولا جماعات ضاغطة، فمن السهل مواجهة بعض المنتفعين الصغار من هذا الضريح، وبعض العائلات المعترضة على ترحيل المرضى، بقدر ما تتمثل في مواجهة جماعات ضغط الأدوية ومختبراتها، ولوبيات مختبرات التحاليل الطبية والأجهزة، ولوبيات المصحات الخاصة، وأطباء القطاع الخاص. إن الشجاعة الحقيقية هي محاربة الظواهر المخزية التي يعرفها القطاع الصحي العمومي والخاص، ويكفي الإشارة ها هنا إلى: الاعتماد المفرط على الأطباء الداخليين والطلبة الدكاترة في المستشفيات الجامعية، وترحيل الخدمات الصحية المربحة من طرف دكاترة القطاع العام إلى المصحات الخاصة، والإفراط في العمليات الجراحية، وتكرار الفحوصات وزيادتها المجانية من طرف أغلب الدكاترة، وتشبيك زبوني للخدمات الصحية بين أطباء ومصحات ومختبرات، والتدليس في الفحوصات والخدمات وتضخيم فواتير العلاج. إن الشجاعة السياسية الحقيقية هي إلزام الأطباء والمصحات بالشفافية والوضوح في تقديم خدماتهم وفي تقدير أثمنتها، وتمكين المواطن ليس فقط من سبل العلاج في المستشفيات العمومية بل وتمكينه أيضا من وسائل فعالة تتيح له الوقوف في وجه الاحتكار وسلوكيات الأباطرة في القطاع الصحي، وحمايته من تجاوزاتهم سواء تعلق الأمر بالأخطاء الطبية أو تعلق الأمر بالخدمات المقدمة وتقدير قيمتها المادية. إن الشجاعة الحقيقية هي مواجهة هذه الأثمنة القياسية للدواء في المغرب، حيث يصل الفرق بين ثمن الكثير من الأدوية بين المغرب وأوروبا إلى أزيد من 200 في المائة، وتحكم الصيادلة الكبار ومختبرات صناعة الأدوية. إن الشجاعة الحقيقية هي محاربة التهرب الضريبي من طرف القطاع الصحي الخاص، ونتساءل هاهنا؛ هل تعلم الحكومة حجم الأموال المتداولة في هذا القطاع؟ وكم يصرح به الأطباء والمصحات الخاصة كمداخيل سنوية؟ وكم يبلغ مقدار الضرائب المستخلصة من القطاع الصحي؟ إن الوضع الصحي في المغرب يستوجب تدخلات عاجلة وسياسات عمومية للإنقاذ، تستهدف الأعطاب الحقيقية، ويمكن أن يشكل خلق مجلس أعلى للصحة، وإحداث محاكم إقليمية مختصة في قضايا الطب والصحة، وإعداد خبراء محلفين يكونون رهن إشارة المتضررين، وإدراج بعض المواد الصحية بشكل إجباري في مختلف التخصصات الدراسية من أجل تمكين الموطن من رصيد معلوماتي يمكنه من معرفة حقوقه في هذا المجال.. مدخلا لإصلاح قطاع الصحة إلى جانب مداخل أخرى.