رمضانات مغرب الأمس (سيرة ذاتية) الحلقة التاسعة: في حماية الخالة الباتول ---------------- تمددنا على الرمال المتوسطية الذهبية وكلنا شغف بأننا أمام شاطئ البحر والفصل ليس فصل صيف ولا رقيب يمنعنا من السباحة. كان الساحل فارغ إلا من متعبد يصلي هناك وأجنبي يمارس رياضة المشي مع زوجته هنا. اقتربت منا إحدى الأجنبيات وكانت طاعنة في السن فسألتنا ما الذي نفعله في هذا الوقت لوحدنا في الشاطئ .. فتطوعت أنا للمحادثة معها باللغة الإسبانية .. أخبرتها عن القصة من البداية وحتى النهاية .. وفجأة بدأت تلوك بعض الكلمات بالدارجة المغربية المكسرة. نصحتنا بضرورة العودة إلى بيوتنا والإستسلام لحكم الآباء والإعتراف بغلطنا .. لكننا وبدل الإصغاء لها جمعنا ملابسنا المبللة وابتعدنا عنها ونحن لا نكاد نصدق أن هذه المرأة تريدنا أن نسلم أنفسنا للتهلكة والفلقة والحبس. - آصاحبي خاصنا نتحركو باش نوصلو لتطوان - ألا ماشي دابا .. حتى يقرب المغرب وديك الساعة ماش نجبرو بزاف د ناس ماشيين يفطرو .. - وهو دابا .. المغرب قرب يودن آ بنادم شعاندك ما كاتفهمشي - ويا الله لبس الحوايج باردين - اللهم باردين ولا نبقاو بالزبطة - يا الله آ صاحبي تحركو انطلقنا نحو الشارع العام وبدأنا نؤشر للسيارات المتوجهة إلى تطوان لكننا كنا نمشي في ذات الآن . فبينما ابتعد عنا عبد الرحمن وأحمد كنت أنا وعبد اللطيف نقف في انتظار هذه السيارة أو تلك لعل وعسى يشفق علينا أحد السائقين. ونحن نمشي بتعب وتثاقل شديدين صادفنا حاجزا للجمارك وكانوا يمسكون بسيدتين ممن يمارسن مهنة الحمالة أو التهريب بين مدينة سبتة ومدينة تطوان . استوقفنا منظر النسوة وهن يولولن ويندبن حظهن الذي أوقعهن في فخ الجمارك. - حنا ما لا نحملوشي آ الشريف هاد السخيرة ( البضاعة ) ديالي وشريتها من كاستييخو وماشا بها لوليداتي والله القسم ما لا نكدب - والحمار ديالك - إيه والحمار ديالي وهاد المرا مسكينة غير هازيتها حيت عيانة - واش آ لا لا هازا معاك عشرين بولا ديال الفروماج وكاتقوليا ديال الوليدات شحال ديال هاد الوليدات عندك تبارك الله واش هازة 200 باكية تاع مروخا وتتقولي ليا الوليدات - إيوا شماش دعمل العواول ليعجبهوم وكنشريه لهوم باش ياكلوه - وآنت حشمي على وجهك باراكا من الكدوب راكي صايمة آ المرا - وصافي الشريف و شماش نقولك آ الشريف .. لي عطا الله هو هادا .. وعمل لي بغيتي - والمعمول من عندك آ الشريفة .. ماش نحجزولك السلعة والحمار وغدا آجي للمقر باش نتفاهمو معاك - وعلاش غدا نتفاهمو دابا آ الحبيب ديالي .. أنا والله ما محركا من هنايا إلا والسلعة ديالي معايا - مزيان آجي نتفاهمو دابا .. هاد السلعة ماش تخلصي عليها 5 الآف فرنك وإلا ماش نسيزوهالك - أويلي وحدي والله وتقطعني ما تجبرها عندي - وشوف وكان المرا .. دابا حنا باغيين نسلكوك ونتينا فيك المشاكل .. فهمنا أن الأمر جدي للغاية ووقوفنا نتفرج قد أغضب رجال الجمارك أن المفاوضات قد تطول .. بين رجال الجمارك والسيدة البدوية لكننا فهمنا أكثر أن الحياة خارج بيوتنا لم تكن بتلك الصورة الوردية التي كنا نتصورها وأن عالم الشارع هو عالم آخربل هوغابة يأكل فيها القوي الضعيف. - عزت عليا ديك المرا مسكينة - حتى أنا والله العظيم آ خاي .. - ولكن علاش كيتعداو عليهم .. علاش كيديولوم رزقوم - وصاحبي حيت هما كيجيبو الكونطراباندو من سبتة - اللهم الكونطارباندو ولا ديك الشوكلاط ديال المغرب المغمال - آه هادي عندك فيها آ خاي .. كون ماكانوشي هاد النسا والله ما نجبرو ماروخا ونوتيلا والكولاكاو - وباراكا ما تشهينا آ القمقوم راحنا جيعانين - زعما صايم من الصباح ونتينا كتطحن فالتفاح بدأ الليل يرخي ظلمته على الطريق وبين الفينة والأخرى كانت تمر بالقرب منا سيارة مسرعة عربة كارو وفجأة شاهدنا إقتراب شاحنة تسير ببطء شديد فصاح عبد الرحمن. - العواول .. يا الله لي عندو شي دراع وركابي يجري ويتشعبط ( يتسلق الشاحنة من الخلف ) - هي لي ما تتعاودشي - خليها تمشي شويش .. - عندك يشوفنا الشوفير .. تعلقوا من الوسط باش ما يقدرشي يشوفكم من المرايا - شبر فيا . . آ جري جري نجحنا في تسلق الشاحنة دون أن يحس بنا السائق وفجأة بدأ يسرع في المنحدرات بينما كنا نتشبث بالأحبال التي كان يربط بها بضاعته .. كان البرد قارسا وثيابنا مبللة مما فاقم الأمر .. كنت أنظر وجه أحمد فكانت شفتاه زرقاء من شدة البرد .. - صافي .. هاهي تطوان .. وا وصلنا لتطوان - وا بصح أنا عقلت على هاذ الزنقة .. يا الله نزلو قبل ما يشوفكوم شي بوليس كان عبد الرحمن هو دليلنا نحو بيت لالا الباتول .. بينما كنا نحن نتبعه و ندعو الله أن نجدها بالبيت . كنا جائعين خائفين ولا نملك حيلة نقدمها للسيدة العجوز ونحن ننزل عليها مثل القضاء المستعجل. - آ الله يا وليداتي شني هاد الحالة .. شعاندكوم علاش ماجين فهاد الليل .. - حنا فعار الله وفعارك آ خالتي .. إلا شبرونا ما ش يقتلونا - شكون ماش يقتلكوم .. آ وليلي وحدي - حرقنا .. الغرسة والزرب ( السياج ) ووالدينا حالفين فينا - وانتوما شياطين .. دخلو دخلو .. صبر .. زول السباط .. يا لطيف يا لطيف شني هاد الحالة .. دخلو دخلو.. - الله يرحم والديك آخالتي الباتول .. رغب با - وحتى با أنا آ خالتي راه - صافي سكتو .. سكتو .. كلسو وخليوني نفكر شني ماش نعمل قدمت لنا العجوز المسكينة كل الدفء كل الحب كل الحنان كل الماروخا كل الجبن والكعك والمونة الرمضانية من سلو وشباكية مخرقة ومطلوع ومسمن وبغرير وبريوات تطوانيات المعمولة من الجبن والكفتة والدجاج والبيض .. أما نحن فكأن باب الجنة ( أستغفر الله ) فتح أمامنا وانطلقنا نفترس مثل الضباع الضالة التي لم تأكل منذ عقود وهات ما عندك من تشمير على الأذرع والتسابق نحو الأطباق حتى مسحنا البيت كلية من أي شيء يوضع في الفم بمعنى آخر أننا قمت بعملية حصاد من طراز جراد 10 حيث حطمنا الأرقام القياسية في العض والمضغ والبلع - أيوا صافي شبعتو - وا الحمد ..لله.. آخالتي .. غير وكان .. حنا ما كليناشي إلي كلا هو سعيد وعبد رحمن - علاش نتوما فين كانو يدكوم كونتو رابطنهوم ولا شني ؟ - هما كيسبقونا وكيضربونا - إيوا بني الله كريم لي عطا الله كيترهج ( يؤكل ) راكوم رهجتوها ودابا مشيو تنعسو وهانيوني من البسالة حتى لغدا ونمشي نعيط لوالديكم يجيو نتفاهم معاهم وما تخافوشي والله العلي العظيم ما غا يحاديوكوم بشعرة . حتى واحد ما غا يضربكم بصح آ الحبايب ديالي ماش تحلفو لي على القرآن كلشي ماش تعملوه إلا العافية .. حلفو لي بلي عمركموم ماتلعبو بالعافية وأنا معاكم فاش ما جات .. النار الحبايب ديالي ملي كتشعل كتحرق الخضر باليابس وملي يسوط الريح تكبر النار وتحرق المزيان والعيان الكذاب والصادق الصغير والكبير الغني والفقير ..؟!!!! عملو كلشي آ وليداتي انتوما صغار وطبيعي تلاعبو ولكن بعدو من العافية .. - أقسم - أقسم - أقسم وأقسمت أنا الرابع بأننا لن نستعمل النار أبدا في أي من عملياتنا وألعابنا وحروبنا مع الحاراة المجاورة وكان لنا ذلك القسم خطا أحمرا لا يمكن تجاوزه فقد وضعنا يدنا على المصحف الشريف الذي كانت تحمله يدا عجوز وتحته منديل أبيض مطرز بالأحمر والأصفر ورائحة المسك تفوح من اللفافة التي فتحتها لنؤدي اليمين. نمنا ليلتنا نتقلب في مضاجعنا بين خائف وموسوس ومرعوب من فلقة أو علقة أو نومة مع الفئران بمرحاض الحديقة .. كانت أحياء تطوان الشعبية القديمة تشعرك وأنت نائم فيها بأنها تبادلك الهدوء والإحترام في راحتك فأهل تطوانالمدينة العتيقة كانوا ولا زالوا أناسا على قدر كبير من الإحترام والوقار والإبداع . وكان أهل تطوان الأصليين (مولدا أبا عن جد ) معروفون بحذقهم وأخلاقهم العالية وذكائهم الحاد ودبلوماسيتهم في التعاطي مع خلافاتهم عكس أهل طنجة الذين كانوا يشتعلون مثل النار لأتف سبب وأبسطه. كنا ننام وتطوان نائمة بعد آذان الفجر كان الوضع الأمني في مدينة تطوان كما كل المدن الكبرى في المملكة مشددا عقب إنقلاب العاشر من يوليو 1971على الملك الحسن الثاني يومها وهو الإنقلاب الذي بات يطلق عليه محاولة الصخيرات .. وما تلى هذه المحاولة من تشديد أمني على كل مداخل وموانئ ومطارات المغرب وزرع للبوليس السري في الأحياء والمقاهي لتعقب كل ذي ميول إنقلابية ( وكان نصيب اليسار يومها حظ وفير من التعذيب ). كما كانت حركة التنقل بين المدن مراقبة عبر حواجز أمنية متقطعة سواء خارج المدن أو في نفس المدينة . كنت أعلم يومها أن والدي بحكم عمله في الأمن سيكون جد منشغل سمعته يتحدث في الهاتف مع رئيسه قبل أيام عن إحتمال سفره إلى مدينة الجديدة لتلقي تدريب إجباري راودتني فكرة أن يكون أبي غائبا غدا على مائدة التفاوض مع لا لآ الباتول .. ماذا لو غاب أبي وعدت أنا للبيت ؟ ماذا سيحدث لو أمسك بي ؟ فهو لم يتعهد بشيء أمام الخالة الباتول .. حاولت النوم جلهدا ونجحت. وكما توقعت كان أبي غائبا عن الإجتماع الذي نظمته لا لا الباتول في بيتها بتطوان إذ جاء الجميع بين منقض وحامل لعصا المهم أنهم كانوا حاضرين إلا أبي فقد كان في سفر .. أفلت رفاقي جميعهم من العقاب بحكم شفاعة لا لا الباتول . أما أنا فقد عدت للبيت في اليوم الموالي لعملية الهروب إلى تطوان ووجدت أبي أمامي وقد كشر على أسنانه وهو يكاد ينفجر غيظا .. أكلت ( الله ينجيكم ) كل أنواع الضرب في الكراج بين طرش وتصرفيق وبونيا ولكي تكتمل الوليمة كانت يجب حضور حفلة الفلقة المعهودة فوق المصطبة الخشبية العالية كان ( رحمه الله وأسكنه فسيح جناته) يضع أنبوب الماء الأخضر في الماء ثم يبدأ في الضرب به على الأقدام حتى اذكر أنني أتذكر مرة أنني رأيت كل النجوم بكل الكواكب والمجرات تدور حول رأسي .. عنفني بشكل كبير لأن الحريق الذي تسببت فيه قد ألحق أضرارا كبيرة بالسياج القصبي الذي كان يفصل بيت أبي عن بيت عبد الرحمن. غضبت جدتي رقية لأيام بسبب معاقبتي ثم عادت بعد أن صالحها أبي وعاد معها البيت إلى عاداته الرمضانية التقليدية، إفطار، عشاء ، شهيوات، قهيوات، صلاة تلفزيون نوم ( أحيانا ) فسحور على طاولة كان الأب حاكمها المطاع. صفحة الكاتب : www.acradiousa.com