حضرت مؤخرات بالصدفة، نقاشا مستفيضا، تسربلت خيوطه بين أفراد جماعة من المهتمين بالشأن الثقافي، انصب موضوعه على وازع الكتابة لدى المثقف المغربي أو مصيريتها بالنسبة لمساره الذاتي والمحيط المجتمعي ككل. وانطلاقا، من تلصصي على مجريات الجدال، فقد التقت مختلف الآراء المطروحة، على ضرورة تبني المثقف لصرح معرفي، تشكل الكتابة نواته التوليدية، لأنه ببساطة لا دلالة وجودية لمثقف بدون المشروع والكتابة. هكذا، تعددت مقارباتهم للمثقف المغربي، صوب القصديات التالية : 1 الكتابة، ماهية المثقف. 2 مثقفون، يكشفون عن غنى فكري ومفهومي، أثناء مداخلاتهم الشفوية، لكنهم لا يكتبون أو كتاباتهم قليلة جدا إن لم تكن نادرة. 3 مثقفون، جعل منهم الإعلام إيقونات، وتحولوا إلى أسماء مكرسة في الساحة الثقافية، بغير أن يوازي ذلك حمولة كتابية مجتهدة ومقنعة تمنح شرعية للهالة المحيطة بهم. 4 مثقفون، يشتغلون على أطروحات جيدة جدا، لكنهم لا يتكلمون بطريقة ملهمة أو لا يتوفرون على قدرة التواصل، بحيث يبدو خطابهم كأنه ينم عن ضعف في الرؤية. 5 مثقفون، يعرفون ماذا يقولون وكيف يقولون، كما يوازنون بين الأنساق المفهومية المعقدة واللغة التقريرية المباشرة. 6 المثقفون، الذين لا يكتبون، يعانون ربما، خللا في التكوين ؟. إجمالا، انبنت الآراء على تصور جوهري : الكتابة، عقيدة وحرفة وموقف، يصقلها هاجس معرفي عبر بوابة القراءة والتفكير. انطلق هذا الحديث، من شرارة بعثها أحدهم، أكد معها بأنه استضاف إلى جمعيته الثقافية، اسما فلسفيا مغربيا لامعا، أنهى منذ سنوات عمله كمدرس بالجامعة، في إطار ما سمي بالمغادرة الطوعية. ولعل، من أقوى المبررات التي ساقها إليهم الضيف، أنه وبعض الباحثين من أمثاله، أحسوا بغربة قاتلة خلف أسوار الجامعة خلال العقد الأخير، نظرا لانحدار المستوى العلمي واضمحلال الإشعاع الثقافي الرصين، ومن ثمة هيمنة مشاعر الإحباط قياسا لما كان عليه الأمر في الأزمنة السابقة، فالسعي لتفكيك آليات المنظومة الرسمية، حرّض باستمرار العقول على خلق نقاش مجتمعي بين مختلف الأطراف والمكونات بخصوص إرساء ثوابت المشروع الثقافي المجتمعي، باعتباره أيضا مدخلا أوليا للمجتمع السياسي الجديد الذي ترقبته الأنفس بلهفة حارقة... . استطرد متدخل ثان، بأن الرعيل الأول من مثقفي المغرب، وهو جيل عصامي أساسا، بنى الجامعة بأفقه الكوني وقراءاته وكتاباته، وناضل جسديا ونفسيا، وبكل ما يملك بغية ربطها بالثقافة المعاصرة، ومواجهة سلطة سياسية محكوم عليها انسجاما مع طبيعتها ومنظومتها السوسيوثقافية، أن تكون متخلفة عن الركب الحضاري. هنا، قاطعه آخر، معضدا وجهة نظره لكن ينبغي التأكيد كذلك حسب اعتقاده، بأن الفضل في هذا المنحى، لا يعود فقط لاجتهاد هؤلاء الرموز، بل السياق المجتمعي ساعدهم كثيرا، فيكفي أن يصدر الواحد منهم دراسة أو مجرد مقالة، كي تجد أفكاره صدى إيجابا وسلبا، تمحيصا وتعقيبا، مما يخلق لدى المثقف شحنة معنوية كي يواصل عمله بحواس حية. ولا أدل على ذلك، حين نستحضر أولى نصوص أغلب الأسماء التي صارت فيها بعد وازنة، نجدها عادية، لكن دينامية التلقي والتعطش إلى استشراف أسئلة مغايرة، نحت لها مجرى متدفقا، هكذا من حقنا التساؤل : ماذا لو انتظر مثلا محمد شكري، حتى اللحظة الراهنة، كي يكتب عمله الشهير "الخبز الحافي" ؟ فأغلب الاحتمالات أنه لن يحتل نفس الحيز الذي استحوذ عليه في مشهدية الثقافة المغربية الحديثة. بمعنى، الجرأة والظروف الشخصية لصاحبها، والتيمات المتناولة، رجحوا كفة ميزان اللحظة النوعية، أكثر من القيمة الفنية والجمالية للنص. آراء أخرى، نزعت إلى الوجهة المناقضة كليا، مدعية بأن الكتابة على الرغم من كل شيء، ليست امتيازا أو تحديدا مفصليا، إذا أبقينا على معيار أسمي منها، يعرف بالموقف. المثقف موقف في نهاية المطاف، أبينا أم كرهنا، تحقق يجعلك تحترم جدا شخصا دون ذاك، والشعوب تراهن في تقدمها خاصة على المثقفين أصحاب الآراء والمبادئ الذين يقفون سدا منيعا أمام كل أشكال التبخيس التي تمس الكرامة البشرية. بالتالي، فالكتابة المفتقدة لاستراتيجية تنويرية، ومهما كان مستواها تبقى مجرد فرقعات صابون. بهذا الصدد، ما هي القيمة المضافة التي رسختها كتابات مجموعة من الأسماء أدركت قيم العالم في أحضان الفكر التقدمي، لكن ما إن انتفخت أوداجها بنعيم المال والسلطة، حتى تنكرت بالمطلق لما كانت تنظّر له، وأضحت أكثر خطورة من الرجعيين. فأيهما أجدى وأبقى للتاريخ، خطاب أم موقف ؟ وإذا سبق ل "بوفون" أن أكّد بأن "الأسلوب هو الإنسان"، فعلى المنوال ذاته، الموقف أبسط تعريف للمثقف دونما حاجة إلى تحديد أنثروبولوجي. المثقف، حيوان لغوي إلى أن تثبت الشروط عكس المجاز. وفي أغلب الأحيان، يبدو بأن إنسانا عاديا يستحق الثناء، ما دام لا يخادع ولا يخاتل، على السجية تراه دائما، ويعكس ما تفيض به طويته دون مواربة. إن سؤال المثقف المغربي والكتابة، قد لا يكون في كل الأحوال حاذقا وخصبا، إلا إذا انبنى على مدارات تساؤلية عميقة ومقتحمة تهم ماهية المثقف ؟ وجدوى الكتابة ؟ فالاكتفاء بالبداهات ذاتها والاستناد إلى نفس المنطلقات، سيؤديان بلا ريب إلى سوء تقدير في الخلاصات. هكذا، العودة إلى الأصول، تحتم على المرء التحلي بنوع من الجرأة بل والوقاحة الزائدة، البنّاءة بطبيعة الحال، وهي خصلة مهمة بالنسبة لمجتمع، يحتاج قبل كل شيء إلى إعادة التأصيل والتقويم، فينجلي الحجاب الزائف عن استفسارات من قبل : ما الذي يجعل من المثقف مثقفا ؟ هل الوصفات "المفترضة" محليا، لتأهيل الشخص مؤسساتيا كي ينطبق عليه نعت مثقف، خاضعة لمؤشرات دقيقة ؟ ما معنى أن نكتب ؟ لماذا علينا أن نكتب ؟ لمن نكتب ؟ هل ما كتبه المغاربة في فترة تاريخية معينة، يعكس حقا زخم الوعي بالذات والعالم ؟ هل بإمكاننا التأريخ لأجيال بالكتابة ... ؟ لاشك، أن التأويل المألوف لدينا في فهم قضية المثقف والكتابة، يحيل على بنية الإنتاج المادي من خلال الوضع الاقتصادي للمثقف، ونصيبه من حصص توزيع الثروة الوطنية ثم درجات استفادته من كيفيات توزيع أدوار الثقافي، ومواقعه داخل المؤسسات الثقافية، وتأثيرات ذلك على عطائه. لكن، المسكوت عنه والمغيب في مثل هذه القراءة، يبقى عالقا بتفكيك طبيعة المنظومة التفكيرية التي تنبعث من عمق مختلف روافد الإبداع الجماعي. إنها، وظيفة المثقف الجوهرية، بحيث تظهر مهارة عقل المثقف وما هو قادر على صنعه. أخيرا، إذا كانت القراءة بمثابة محرك كمي لتشغيل آلة الإنتاج الثقافي، وهي العنصر الاستهلاكي الذي يبقي بقوة على حياة الدورة الاقتصادية للثقافة، فإن الكتابة على العكس منها تعتبر مسحا نوعيا بهدف توجيه المجتمع نحو حقيقته التاريخية. [email protected]