يعتبر وجود مؤسسات المجتمع المدني في أي بلد، دليلا على رقيه، وعلى تحرر المواطنين وتمتعهم بأسس الحرية والديمقراطية، وهي سمة تظهر وعي الشعوب واهتمامهم بانجاز مصالحهم دون اللجوء باستمرار إلى المرافق العامة للدولة. وقد شكلت مستويات الوعي المتنامي عند الإنسان في عصرنا الراهن، سيما والتحولات الكبرى التي أضحى العالم يعرفها، دافعا أساسيا أدى إلى ظهور الكثير من المؤسسات والمنظمات غير الحكومية، والمغرب بدوره فسح المجال أمام مؤسسات المجتمع المدني، لتنشأ تشكيلات مستقلة عن الحكومة، تضطلع بأدوار فاعلة تفيد المجتمع وتعزز المسارات التنموية للبلاد، بل أوجد لها ضمانات دستورية وقانونية تضمن لها صفة الشرعية. فأصبحت بمثابة قنوات تؤطر الناس في مجموعات لها أسسها الحديثة والمنظمة، بعيدا عن أي فردية، أو أنانية، أو نزعات ذاتية، ليُعبر المواطن من خلالها عن آرائه واحتياجاته، وتكون جسرا تواصليا لتنفيذ الأنشطة والقيام بكل الممارسات التي تفيد المجتمع، وتتيح للمواطنين فرصا لتفعيل وجهات نظرهم، وتصوراتهم لكل مجالات الحياة. فمؤسسات المجتمع المدني فضاءات مستقلة عن مؤسسات الدولة، وتضطلع بموازاة معها بأدوار بناءة تزيد فرص الأفراد لاكتساب حقوقهم وتحقيق طموحاتهم، ولكي تحقق هذه الغاية ينبغي لها أن تعزز نشر الوعي بالقضايا الأساسية، وترسيخ مبادئ الديمقراطية، ودعم سيادة دولة الحق والمؤسسات، وتكريس الوعي بأهمية العمل والإنتاج، فكلما اتسمت عجلة الانتاج بمردوديتها انعكس ذلك بالإيجاب على المجتمع وتحققت التطلعات. ومن المؤكد أن دعم مؤسسات المجتمع المدني يعد من القضايا الهامة التي تشغل الرأي العام العالمي، حتى يتسنى لها تحقيق مشاركة تفاعلية في جميع المجالات، اجتماعيا، واقتصاديا، وعلميا، وثقافيا، وحقوقيا ...، فهذه المؤسسات أضحت شريكا رئيسيا يعمل إلى جانب مؤسسات الدولة على دعم قضايا المجتمع الجوهرية، كالنهوض بالاقتصاد والتعليم ومعالجة المشكلات الاجتماعية التي تمثل تحديا جوهريا للجميع. ومن أهم المرتكزات التي تقوم عليها هذه المؤسسات إلى جانب وجود بنية تحتية متماسكة، ووجود بنية ثقافية فاعلة، يجب التشبع بالروح الجماعية، وإقصاء ملامح التفكير الفردي في اتخاذ القرارات، والإيمان بقيم الحوار والتسامح واحترام الرأي المغاير، والتعامل مع الاختلافات بروح الجودة والاستقطاب، بدل التعصب وفرض التوجهات الأحادية العقيمة، حتى تكون نبراس المجتمعات، الذي ينبجس منه النور والأمل والوعي. - آفاق التعددية الثقافية بالمغرب : إيمانا بدور التعددية الثقافية وانعكاسها الإيجابي على فئات المجتمع وشرائحه، ترسخ مؤسسات المجتمع المدني قيم التعدد والانفتاح، بنشر ثقافة التسامح إزاء الشعوب والحضارات، ومد جسور الحوار فيما بينها، كما تسعى إلى تعزيز هذا الوعي، الذي يرفع من مستوى أداء الشعوب لإثراء ثقافتها وتقاليدها، ويعزز سياسة الاحتواء بقبول الآخر والتماهي معه، ليتحقق التكامل الإنساني المنشود، فالتبادل المعرفي والإبداعي، أو في أي مجال آخر، سواء بين أبناء المجتمع الواحد، أو بين الشعوب، يمثل نموذجا راقيا للوعي الإنساني، ولعل عمل مؤسسات المجتمع المدني في أكثر من اتجاه، يعكس مدى اهتمامها بنشر الوعي وترسيخ القيم الإيجابية، كما يبين أدوارها المتنوعة في تكريس ثقافة الحوار ونشر الوعي بمدى أهمية التعدد الثقافي، باعتباره ركيزة أساسية لمسايرة تطورات العصر، انفتاحا وتطلعا إلى آفاق التقدم والتطور التي تدين أشكال التعصب والتقوقع والانكفاء. ولعل الموقع الاستراتيجي للمغرب، والذي أهله أن يكون قبلة تتوافد عليه الحضارات الكبيرة، فكانت إما عابرة أو مستقرة، ما يعني أن التعدد الثقافي يبقى سمة ملازمة للمجتمع المغربي، إذ تعايشت فيه لغات متعددة، وثقافات مختلفة، فعبر تاريخه تواجدت فيه حضارات تعايشت وانسجمت مع الحضارة المغربية، وأعطت ألوانها الزاهية مع مكوناته الثقافية، فهناك الفينيقيين والبيزنطيين والرومانيين والعرب، إذ تعايش الكل في تداخل وانسجام، لتندمج الثقافات الوافدة مع الثقافات الأصلية، ليظل المغرب منذ عصور قديمة نموذجا إشعاعيا وحضاريا يقدم صورة مثلى لتعايش الشعوب باختلافاتها وتقاليدها وطقوسها. تأسيسا على ما سبق تحاول مؤسسات المجتمع المدني، إلى جانب إسهامها في جميع المجالات التي تهم المعيش اليومي للمواطن، تعزيز وتقوية التعددية الثقافية بالمغرب، لما لذلك من دلالات، فهو يقدم نموذجا متكاملا للتصور الإنساني السليم، الذي يرفض الحدود ويتخطى الحواجز التي تعيق التلاقح الثقافي، والتكامل الإنساني. يتضح إذن، أن قضية التعدد الثقافي تصدر عن فلسفة خاصة، تمثل لحمة المجتمع المغربي وسداه، إذ التعايش والتضامن، من طوابع المغرب عبر سيرورته التاريخية، ساهم إلى اليوم في خلق صرح المواطنة، عبر التشبث بالهوية الوطنية العربية والإسلامية والأمازيغية، وكذلك مختلف المكونات الأخرى المتصلة بالتعدد اللغوي والتداخلات الثقافية ما يمثل تفردا ويفرز خصوصية في بلورة كل الألوان التي توجد بين ظهرانينا. وتسعى مؤسسات المجتمع المدني بكل أنشطتها ومساهماتها في إعطاء مقاربات تدعم التنمية وتحارب الأمية والتخلف، وتنشر الوعي بمفاهيم التعدد الثقافي والهوية وثنائية الأنا والآخر، فالعولمة ترخي بظلالها على الجميع، لذا يتحتم وضع رؤية إستراتيجية يتعاون فيها الجميع لتجاوز التحديات المفروضة، وتحقيق الرهانات الضرورية، للاستفادة من إيجابياتها والحذر من سلبياتها. فالوعي بالتعدد الثقافي من ضروريات المرحلة الراهنة التي نعيشها، لذا وجب دعم مؤسسات المجتمع المدني، لإنجاح مبادراتها وأدوارها وبرامجها، ودعم المجهودات الوطنية الهادفة إلى تطوير وتعميق التواصل والتعاون بين المواطنين، وهذا ما يحتم علينا فتح المجال أمام هذه المبادرات الحيوية لتعميق ثقافة التكافل والتعاون والتعددية والاختلاف في المجتمع، لأن هذا في مجمله يؤدي إلى نظرة تعاونية تشاركية تسهم في تكريس مفاهيم التكافل والوحدة والاندماج، إذ يكون المشهد الوطني موحدا ذا فسيفساء، يتسم بمحيط معيشي يحتوي الجميع، ويتعاون فيه الجميع. - مؤسسات المجتمع المدني، التطلعات المحلية والكونية: أصبح تواجد مؤسسات المجتمع المدني أمرا واقعيا وضروريا في دول المعمور، نظرا لأدوارها المتميزة ووظائفها الهادفة التي تقوم بها، لتنشأ بينها وبين مؤسسات وطنية ومنظمات دولية علاقات وطيدة، تتفاعل فيما بينها لتحقيق برامجها واستراتيجياتها. وتعد اليونسكو، منظمة الأممالمتحدة للتربية والعلوم والثقافة، من أهم المنظمات التي اعترفت بأدوار المؤسسات غير الحكومية خاصة تلك التي لها اهتمامات قريبة من اهتماماتها، أي في مجال التربية والثقافة والعلوم، فكونت نسيجا قويا من علاقات التعاون بينها وبين هذه الجمعيات، ما مكنها من العمل مع مؤسسات المجتمع المدني لتحقيق أهدافها ونشر قيمها، خصوصا للنهوض بمجالات اشتغالها، فكان ذلك نموذجا واعدا يقدم صورة حية لأبعاد التعاون الدولي لخدمة الشعوب. فقد أولت اليونسكو منذ نشأتها أهمية كبيرة للشراكة مع مؤسسات المجتمع المدني، ليتعاظم دور ممثلي المجتمع المدني ليصيب كل قطاع من قطاعات الحياة اليومية، فغدت الشراكة مع منظمات المجتمع المدني أمرا لا تستغني عنه المنظمات الحكومية والدولية لتحقيق أهدافها وخططها واستراتيجياتها. وأمام هذا النشاط المطرد لمؤسسات المجتمع المدني، وبالنظر للنمو المتواصل في عددها وأدوارها، أوجدت منظمة اليونسكو صيغا جديدة للتعامل معها، وذلك بإيجاد تدابير ناجعة لتكريس أدوار التعاون فيما بينها، لأنه كلما ازدادت التحديات أضحى من الضروري وضع الاستراتيجيات وسن الخطط لتحقيق الأهداف المنشودة، ومع هذه التحديات التي واكبت القرن الحالي، كان من الضروري على منظمة اليونسكو ومؤسسات المجتمع المدني أن تعزز مجال عملها بعلاقات عملية ميدانية، لتحقق أكبر نشاط فعلي في الميدان، وبعلاقات رسمية تهدف إلى إقامة تعاون مستدام مع اليونسكو في كل مجالات اختصاصاتها، يقوم على تصور فكري وأخلاقي بالأساس. يكتسي تعاون المنظمات الدولية مع مؤسسات المجتمع المدني اعترافا واضحا بمساهماتها الكبيرة في دعم مصالح المجتمع، ونشر القيم النبيلة بين فرقائه وشرائحه، بإيجاد مناخ سليم من الحوار والنقاش بشأن المواضيع المختلفة والقضايا المطروحة، لأن طرح الآراء المتنوعة يؤدي إلى فتح المجال أمام الجميع لكي يقدموا أفكارهم وانتقاداتهم وتطلعاتهم، وبهذا نكون إزاء قدر كبير من الأفكار والمقترحات، وأمام تعدد فعلي يساهم في إنجاح أو تطوير أي عمل نقوم به، أو أي تصور نرتضيه، كما أن مؤسسات المجتمع المدني تقوم بالكثير من الإنجازات أو الأنشطة بمبادرات خاصة منها، وهذا يقدم خدمة مباشرة للمؤسسات الحكومية بتخفيف الأعباء عنها، مما يجعلها تلتفت لقضايا أخرى لتتحقق المنفعة المزدوجة لصالح المجتمع، فهذه المؤسسات تشرع أبوابها للجميع لكي يقدموا مساهماتهم بحسب تخصصاتهم لنكون أمام تلوين فاعل يعود نفعه على الجميع. يتضح إذن أن التعدد الثقافي سمة إنسانية، بل في الاختلاف رحمة للعالمين، كما يمثل تراثا مشتركا يغني الرصيد المعرفي للإنسانية جمعاء، ويزيد في قدراتها التصورية التي تقدم تجارب متكاملة ينبغي تعزيزها والمحافظة عليها، ليفرز لنا مناخا متنوعا وغنيا تتسع معه خياراتنا المتاحة، وتظهر فيه الطاقات البشرية بشكل خلاق ينسجم والقيم الإنسانية التي تشكل ركيزة أساسية للتنمية المستدامة للشعوب والمجتمعات. انطلاقا من هذا التصور الشمولي الذي تؤسس له مؤسسات المجتمع المدني، للرفع من مردودية المجتمعات، فهي بذلك، تعزز قيم الديمقراطية، والتسامح، والعدالة الاجتماعية، والاحترام المتبادل بين المواطنين وبين الحضارات والشعوب، لأن هذه المؤسسات بفضل أنشطتها ومساهماتها المتعددة والمتنوعة، تنشر الوعي الصحيح بالقيم التي تمثل بيئة ملائمة وطبيعية، للنهوض بالمجتمعات. والاعتبار الأساسي الذي يتعين علينا الإحساس به والالتفات إلى أهميته، هو الدور التنموي الذي يستأثر به التعدد الثقافي، فالثقافة بصفة عامة لها بعد استراتيجي عميق في السياسات الإنمائية في المجتمع الدولي ككل، كما يرتبط التعدد الثقافي بتعدد الهويات واختلاف أشكال التعبير للشعوب والمجتمعات، ليمثل الحفاظ على المعارف التقليدية وإسهامات الشعوب الأصلية وإنتاجاتها خطوة بارزة في تحقيق التنمية المستدامة . فكلما هدفت مؤسسات المجتمع المدني إلى القيام بأنشطة مختلفة تهم جميع المجالات، وتخاطب كل الشرائح والفئات، لتعزيز الوعي بأهمية التعاون والتآزر، وترسيخ البعد المعرفي والثقافي، في مناخ منفتح يؤمن بقيم التعددية والحوار، فإنها بذلك تشيد ركائز التنمية الدائمة، وقيم التلاحم الاجتماعي بشكل عام، فتضافر جهود شرائح المجتمع يحقق نوعا من التلاحم والتعاون والانسجام الذي يعم خيره الجميع. [email protected]