استعراض نماذج من التاريخ ومن الحاضر ومن الخبرات والتجارب الإنسانية القائمة في عالم اليوم بزغ مفهوم تعارف الحضارات لتطوير المعرفة ونفي الجهل بين الحضارات. ذلك أن تعارف الحضارات أضحى بنية أخلاقية تقود نحو حياة مشتركة بصبغة كونية، ومبدأ تواصلي واستراتيجي جوهري يقره الإسلام والمبادئ الإنسانية السامية. وبغية استكشاف ما يمكن أن يقدمه مفهوم تعارف الحضارات من رؤى وأفكار ومفاهيم على مستوى النظر، ومن خبرات وتجارب وممارسات على مستوى العمل، نظمت مكتبة الإسكندرية مؤتمر «تعارف الحضارات» من أجل استعراض نماذج من التاريخ، ونماذج من الحاضر، ونماذج من الخبرات والتجارب الإنسانية القائمة في عالم اليوم، وعلى أساس منظورات مختلفة، وفي مجالات متعددة مثل: العلم، التعليم، التجارة، الرحلات، الحرب والسلام، الترجمة، الدبلوماسية ... وفي ظل ثورة المعلومات، وتطور تكنولوجيا الاتصالات وشبكات الإعلام، وفي ظل تغير موازين القوى الحضارية في العالم. وتداولت جلسات المؤتمر محاور مهمة همّت تعارف الحضارات في الفكر الإسلامي، وتعارف الحضارات.. الخبرة والممارسة، وتعارف الحضارات في المجالات المختلفة، وتعارف الحضارات وتغيير العالم، وتعارف الحضارات والشراكة الحضارية: رؤية مستقبلية. وشهد المؤتمر قراءة متميزة لمشروع «تعارف الحضارات»، قدمها الدكتور محمد بنصالح، ولقيت تجاوبا ملفتا من لدن المشاركين، حيث عرض من خلالها «رؤية الإيسيسكو إلى التعارف بين الحضارات وتعزيز المشترك الإنساني»، مؤكداً أن موضوع العلاقة بين الحضارات من المواضيع المهمة التي عني بها المجتمع الدولي، سواء على مستوى المعالجة التاريخية أو على مستوى الدراسة لواقع هذه العلاقة الراهن والمستقبل المنظور لها. إذ جاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 لتعيد وضع هذا الموضوع في دائرة الضوء ولتدفع الكثيرين إلى استحضار ذاكرة مشحونة بتصورات حول إرث تاريخي مثقل بالتوتر والصور النمطية المتبادلة التي تجسّد تمثّل الذات للآخر أكثر مما تجسّد حقيقة هذا الآخر، ومشددا على أن العلاقة الصحية بين الحضارات ينبغي أن تنبني على أسس المعرفة والاعتراف والتعارف، وأن الحوار بين الثقافات والحضارات-حسب رؤية الإيسيسكو- لا بد وأن يقوم على منطلقات ثلاثة هي: الاحترام المتبادل، والإنصاف والعدل، ونبذ التعصب والكراهية والمركزية الحضارية أو الدينية. وأكد الخبير بمنظمة الإيسيسكو الدكتور بنصالح على وجوب إقرار مبادئ التعددية الحضارية والتنوع الثقافي، وإبراز تاريخ التعايش والتعاون والتعارف بين العالمين الإسلامي والغربي لتعزيز الحوار بين الثقافات والتعارف بين الحضارات «وهذا جزء من المسؤولية التي تضطلع بها الإيسيسكو في سعيها إلى إنجاح الحوار بين الثقافات والتعارف والتحالف بين الحضارات، بهدف تعزيز أسس الفهم والتفاهم والاحترام المتبادل بين الشعوب، لتحقيق العدل والسلام الدائم والتنمية الشاملة». وأبرز الدكتور بنصالح حرص منظمة الإيسيسكو على إدراج الأنشطة والبرامج الميدانية ذات الصلة بهذا الشأن في خطط عملها المتعاقبة، «إيماناً منها بأن ترسيخ مبادئ التعددية والتنوع الثقافي والتعايش بين الشعوب والتفاعل بين الثقافات والتعارف والتحالف بين الحضارات، هو السبيل المفضي إلى عالم تسوده قيم الخير والحق والعدل والأمن والسلام على اختلاف أجناسه وأوطانه وعقائده وثقافاته.... ذلك أن الحوار والتعارف في الحضارة الإسلامية لم يكونا مجرد مقولة نظرية، وإنما ممارسة تربوية وتجارب عملية أورثتنا ثروة فكرية تشهد على تاريخ الاختلاف البنّاء المفضي إلى التعدد والتنوع في مسيرتنا الحضارية، والمجسد لوسطية وعالمية وإنسانية الرسالة الإسلامية، الأمر الذي يبرز غنى التجربة الإسلامية التاريخية في تدبير الاختلاف وإقرار التنوع الثقافي مع الانفتاح على الثقافات الأخرى وإفادتها والاستفادة منها. وتضطلع الإيسيسكو -يضيف الدكتور بنصالح- بدور فاعل في بلورة مفهوم متكامل ومتوازن للحوار يكون التعارف أحد ركائزه الأساسية وأهدافه السامية، سواء على مستوى الحوار بين الحضارات أو الحوار بين الثقافات أو الحوار بين الأديان. وحددت ورقة العمل رؤية الإيسيسكو لشروط الوصول إلى نتائج إيجابية تعلي من شأن القيم الإنسانية المشتركة، وتعزز مبادئ التعايش بين الناس كافة وتحقق التعارف بينهم، وتدعم العلاقات الدولية وتقويها، وتسهم في إقرار الأمن والسلم والاستقرار في العالم، أو تسهم في تغيير العالم. كما أكد ممثل الإيسيسكو في المؤتمر أن ضمان مستقبل أفضل للبشرية رهين بالعمل على تعزيز الاحترام المتبادل وإغناء الرصيد الثقافي المشترك، والقيم الإنسانية المشتركة، والمصالح المشتركة، والإقرار بضرورة احترام الخصوصيات والاعتراف بقيم التعددية والتنوع الثقافي، والعمل على إعادة هندسة المخاييل الجمعية وتفكيك الصور النمطية المتبادلة بين الشعوب، حتى يتأسس التعارف بينها على المعرفة الحقيقية، وحتى يكون التفاهم بينها ثمرة للفهم والتفهم، وهو ما لن يتأتى إلا عبر الاستثمار في الثقافة والتربية، والقيام بمبادرات هادفة من قبيل منتديات الحوار بين الأديان والثقافات والتعارف والتحالف بين الحضارات، وتوجيه المنظومات التربوية والسياسات الثقافية إلى إقرار التنوع والتعدد واحترام الاختلاف وبناء علاقات متينة مبنية على الثقة المتبادلة لتحرير العقول من إسار الصور النمطية والتصورات الذهنية وانتشالها من ظلمات اللاوعي إلى أنوار الوعي. وأفاد الدكتور بنصالح أن أطروحة تعارف الحضارات تعد فرصة سانحة لتقديم الصورة المثلى للفكر الإسلامي الوسطي، وتحويله إلى ثقافة معيشة في حياة المسلمين وصوت يعبّر عنهم وطرف محاور وفاعل ومتفاعل ومتعارف مع الكيانات الحضارية الأخرى. فالفكر الإسلامي يحتاج إلى بناء «نظرية تعارفية»، نظرية بنائية استئنافية تنفتح بوعي على النماذج الحضارية والأنساق الثقافية المختلفة إعماراً للأرض وإعلاءً لصروح الحضارة وتعزيزاً للمشترك الإنساني، نظرية تعارفية معرفية تتفاعل مع الوحي المرشِّد والمسدِّد بمنهاج الاستمداد الموفِّق بين النقل والعقل والواقع، وتكون هي الضمانة الحقيقية لنجاح كل محاولة تتغيا تجديد الفكر الإسلامي الموجَّه بالآيات القرآنية والكونية والباني للإنسان والحضارة الإنسانية، بما يصحح العلاقة مع الذات في سعيها إلى النهوض الحضاري، ومع الآخر في علاقتها بالتعارف الحضاري.وأشار ممثل المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة إلى أن الإيسيسكو «لا تنظر إلى مفهوم» التعارف بين الحضارات» بديلا عن مفهوم «الحوار بين الحضارات»، وإنما تنظر إلى التعارف بوصفه أحد مداخل الحوار وإلى الحوار بوصفه أحد وسائل التعارف، كما تعتبر أن مفاهيم الحوار والتعارف والتلاقح والتدافع والتعاون والتفاعل في علاقاتها بالثقافات والحضارات تؤدي المعنى ذاته وترسم الأهداف نفسها، وبالتالي فالعلاقة بينها تكاملية غير تنافسية، وما ينقصها هو بحث السبل الكفيلة بأجرأتها وتفعيلها وتحقيق أهدافها». وذكر الدكتور بنصالح بعض الخطوات التي قطعتها منظمة «الإيسيسكو» في مجال الحوار بين الثقافات والتعارف بين الحضارات، ومنها التعاون مع اليونسكو وجامعة الدول العربية ومؤسسة أنا ليند الأورو- متوسطية للحوار بين الثقافات والمركز الثقافي السويدي في الإسكندرية، باستكتاب خبراء دوليين من أوروبا والعالم العربي لإعداد «الدليل الإرشادي حول تصحيح صورة ثقافة الآخر في كتب التاريخ المدرسية في أوروبا والعالمين العربي والإسلامي» فضلا عن برنامج كراسي الإيسيسكو الجامعية حول الحوار وبرنامج سفراء الإيسيسكو للحوار بين الثقافات والحضارات وبرنامج الزيارات المتبادلة في إطار برنامج تحالف الحضارات...كما استشهد بكتابات المدير العام للإيسيسكو الدكتور عبد العزيز التويجري، في هذا الصدد، وذكر بمواقفه وإسهاماته المهمة في كبرى المؤتمرات والمنتديات الدولية ذات العلاقة بموضوع الحوار بين الثقافات والتحالف بين الحضارات.يشار إلى أن مؤتمر «تعارف الحضارات»، عرف مشاركة أكاديميين ومتخصصين من مصر، والمغرب والمملكة العربية السعودية، والجزائر،، وتونس، وتركيا، وإيران، وماليزيا، وألمانيا، بالإضافة إلى مجموعة من المنظمات، وأبرزها المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة «إيسيسكو».