لا أحد من المشتغلين بالمعرفة البشرية اليوم ينكر تداخل أجزائها وتشابك فروعها، حتى إنها عبارة عن سلسلةمتواصلة الحلقات يستحيل فصل بعضها عن بعض فصلا نهائيا تاما. وخصوصا قضايا الفكر والنظم المرتبطة بالتفكير الفلسفي والعلوم الاجتماعية، تفكير يطارد موضوعاته الجديدة؛ يتلون بألوانها، ويتطور بتطورها، ويغتني بتقدم البحث فيها، وهو سر بقاء التفكير الفلسفي حيا على الدوام ومتجددا باستمرار. ولم يمنع من التداخل حرص الفكر الفرنسي،الذي يستلب الفكر المغربي لذاته ومايزال في مختلف فروع المعرفة، على فصل فلسفة العلوم عن دراسة المناهج العلمية؛ أي الميتودولوجيا. هذه الأخيرة صنفها التقليد المدرسي الفرنسي باعتبارها جزءا من المنطق؛ سواء كان منطقا عاما مهتما بصورة المعرفة وليس بمادتها،أو منطقا خاصا؛أي منطقا تطبيقيا،يدرس المناهج الخاصة بكل علم. وقد تطور هذا المنطق التطبيقي في الوقت الحاضر ليؤسس مجالا مستقلا بذاته هو مجال الميتودولوجيا Méthodologie، أصبح يطلق عليه (علم المناهج). ويذهب الأستاذ الجابري، رحمه الله، إلى أن معجم لالاند LALANDE الفلسفي لم يسلم من الخلط، وهو يحرص على الفصل بين الإبستيمولوجيا وبين الميتودولوجيا وفلسفة العلوم، مع استبعاده نظرية المعرفة التي لم تكن تدرج بنظر الفكر الفرنسي، في مجال الإبستيمولوجيا بمعناها "الخاص""والتقني". ويبقى البحث في بيان شروط المعرفة البشرية وفي قيمتها وفي حدودها هو هدف أساس لكل هذه المجالات، سواء كانت: ميتودولوجيا، أو منطقا، أو فلسفة العلوم، أو نظرية المعرفة، أو نظرية اليقين، أو إبستيمولوجيا، أو كنوزيولوجيا، GNOSEOLOGIE، أو علم المعايير CRITERIOLOGIE أو النقد المعرفي... وهو ما يذهب إليه عادة الإنجليز والإيطاليون، مع اختلاف محدود مع الألمان الذين يفصلون جزئيا بين نظرية المعرفة والإبستيمولوجيا، ويتوسعون في تعريف الإبستيمولوجيا لتشمل جميع فروع فلسفة العلوم. ويبقى التمييز بين موضوعات العلوم ضرورة منهجية، حتى إن العلوم تختلف باختلاف موضوعاتها أو باختلاف مستويات المقارنة والتحليل، عندما يكون الموضوع واحدا. وقد دأب الفكر الإبستيمولوجي التقليدي على ربط استقلال علم ما بتحديد موضوعه. ويبقى الإشكال، هو صعوبة تحديد الموضوع الخاص بهذا المجال العلمي دون الآخر، أمام حالة التشابك المعقدة بين المجالات العلمية؛ فنقد مبادئ العلوم مثلا وفروضها ونتائجها قصد التحقق من قيمتها إذا كان من وظيفة الإبستيمولوجيا، فإن هذا العمل مسبوق، وجوبا، بنقد المناهج التي اتبعت للحصول على تلك الفروض، وهو من مهام (علم المناهج). أما تأويل النتائج فهو من اختصاص فلسفة العلوم، مما يدخل أيضا في مجالات (نظرية المعرفة)، عند ربط تلك الفروض بعلاقتها بالحقيقة الموضوعية. وسعى الأستاذ الجابري، رحمه الله، في هذا السياق، إلى إعطاء قيمة خاصة للإبستيمولوجيا، ورفض فصلها عن الفلسفة، بل كشف وشائج القربى بينهما ، سواء كانت وشائج مع الفلسفة بكيفية عامة، أو مع أحد مباحثها المعروفة في الكتب الفلسفية التقليدية؛ أي مباحث: الوجود والمعرفة والقيم. كما يربط الجابري بين الإبستيمولوجيا ونظرية المعرفة، إحدى موضوعات الفسلفة التقليدية، ولا يذهب إلى الرأي الإبستيمولوجي المتطرف الذي يرى أن الإبستيمولوجيا تهتم بالمعرفة العلمية وحدها،بمفهومهاالطبيعي ،لكن من دون التنكر للفرق الموجود موضوعيا بين المعرفة العلمية ، بمفهومها الطبيعي والتقني؛ أي التي تعتمد القياس والتجربة والنقد الصارم والمراجعة المستمرة، وبين المعرفة العامية الحسية التي بإمكان عامة الناس الحصول عليها عبر حواسهم وعقولهم وخبرتهم اليومية، بل قد نظيف،بنظر الجابري،نوعا معرفيا آخر، يقوم على الحدس؛ أي ما يعرف (بالمعرفة القلبية) عند نوع من العلماء والفلاسفة والعرفاء. وتبقى المعرفة العلمية، مهما بلغت من الدقة والصرامة والتجريب في حاجة إلى شخص يقرأ ويسمع ويلمس ويفسر ويتذكر ويقارن ويؤول، ليحول كل هذه المكتسبات العلمية إلى الدماغ ثم يحولها بعد ذلك إلى معرفة علمية قابلة للاستعمال مرة أخرى. وفي هذه المحطة من إنتاج المعرفة العلمية يبرز إشكال علاقة الذات بالموضوع، وقيمة المعرفة المستمدة من الفعل، أو من الحس،بل علاقة العقل بالحس، ومدى موضوعية العالم الخارجي، وغيرها من المشاكل التي تشكل موضوعات معقدة للنظر الفلسفي والعلمي معا؛ فقد لاحظ مثلا علماء الميكروفيزياء أن طرق القياس وأدواته تؤثر في النتائج المحصل عليها، مما يقوي احتماليتها، ومما يشكل ميدانا خصبا لاشتغال (نظرية المعرفة). وبرغم ما حصل من توثر بين العلماء والفلاسفة، على صعيد البحث في الإبستيمولوجيا وفي نظرية المعرفة، إلى درجة القطيعة، فقد بقيت مباحث الإبستيمولوجيا بدقتها واختصاصها، متداخلة مع قضايا (نظرية المعرفة) بمنهجها التأملي وطرقها التحليلية. وبقي البحث الإبستيمولوجي، في تصور الأستاذ الجابري، أهم وأعمق من البحث الميتودولوجي (المنهجي)؛إذ بقيت مناهج العلوم، بما هي جملة من العمليات العقلية والخطوات العملية ، على خط البحث، من بدايته إلى نهايته، لاحقة للعمل العلمي وليست سابقة عليه، بما أن كل علم يتميز بمنهجه بحكم أنه يتميز بموضوعه؛ فالمشتغل بعلم المناهج لا يرسم للباحث الطريق، بل يتبعه في بحثه ويلاحق خطواته، وصفا وتحليلا وتصنيفا ونقدا، ورغبة في بناء أنساق نظرية ومنطقية، تجعلنا قادرين على الوعي الدقيق بطبيعة العمل العلمي. وعليه فإذا كانت الإبستيمولوجيا تهتم بنقد مبادئ العلم وفروضه ونتائجه، فإن الميتودولوجيا تدرس مناهج العلوم وصفا وتحليلا، مع رصد العلاقة بين الفكر والواقع أثناء عمليات البحث العلمي؛ فإذا كان الميتودولوجي يسعى إلى بناء الإطار النظري والمنطقي للعلم، فإن الإبستيمولوجي يطمح إلى صياغة الإطار الفلسفي الذي يحتضن التفكير العلمي، بل إن البحث الإبستيمولوجي يخضع البحث الميتودولوجي ذاته للدراسة والنقد، كشفا عن ثغرات المناهج ومحدوديتها وقدرتها التفسيرية أو التحليلية. وينمو البحث الإبستيمولوجي أكثر كلما اصطدم بأزمات العلم، وبأخطائه على صعيد المنهج، بل تجعل الإبستيمولوجيا نفسها معنية بمواضيع عادة ما تدرج ضمن مجال (فلسفة العلوم)؛ أي البحث في النتائج الفلسفية للعلم، أو في قيمته المنطقية والأخلاقية؛ ذلك أن التفلسف في العلم يكون،بمعنى من المعاني، عبر دراسة علاقاته بالمجتمع؛ أي العلم كظاهرة اجتماعية، أو دراسة العلم ضمن منظومة القيم الإنسانية، أو الطموح إلى بناء فلسفة للطبيعة انطلاقا من نتائج العلم، أو من خلال التحليل المنطقي للغة العلمية. وعندما ترتبط الإبستيمولوجيا بفلسفة العلم، يتسرب الغموض إلى التفكير الإبستيمولوجي ذاته؛ إذ تتزاحم فيه وجهات النظر الاجتماعية والأخلاقية والفلسفية والمنطقية والمنهجية. وعليه، برزت الأفكار الوضعية لأوغست كونت (1798-1875) لتجاوز فوضى الرؤى والأفكار، وتأسيس نموذج علمي يقوم على الانسجام في ميدان الفكر؛ نموذج قادر،بنظره، على التخفيف من الإيديولوجيا، ومن حدة تنازع العواطف. وقد حمّل أوغست كونت الفلسفة والدين مسؤولية الفوضى الفكرية، بما أنهما يبتعدان في مراقبتهما عن الواقع ليغوصا في البحث في جواهر الأشياء وأسبابها الأولى وغاياتها، مؤسسين لنموذج ميتافيزيقي وتجريدي غير نافع. إن البحث العلمي المنظم والمحقق لصفة (الانسجام) بنظر أوغست كونت، هو الذي يبتعد عن التأملات الميتافيزيقية، ويركز عمله على ملاحظة الظواهر ورصد العلاقات بينها،لصياغة القوانين التي تتحكم فيها،وبالتالي التنبؤ بها مستقبلا، فتتم الاستفادة منها فكرا وعملا، وهي حالة (الحقائق الواقعية)، أو (الحالة الوضعية)؛ حالة تلغي الفوضى والاختلاف، وتحقق النظام والاتفاق في مجال البحث ! ولم يخف كونت سحره بالعلوم الوضعية الطبيعية من فيزياء ورياضيات وطبيعيات، بل أسس مدرسته الوضعية في العلوم الاجتماعية على قواعد العلوم الطبيعية ومناهجها، ولهذا صنف العلوم بحسب دقتها وتعميمها وتجريدها إلى ستة أصناف، أعلاها الرياضيات وأدناها السوسيولوجيا، أو ما يسميه بالفيزياء الاجتماعية؛ وبينهما الفلك والفيزياء والكيمياء والبيولوجيا، أما بقية العلوم فهي إما مجرد تطبيق لعلوم أخرى، أو أنها علوم في الظاهر وهي ليست كذلك في الحقيقة والواقع مثل (علم النفس). لقد تحمس إذن أوغست كونت لبناء علوم اجتماعية، على نمط الفيزياء من حيث الموضوع والمنهج. ولما أحس بأنه يجزئ العلوم إلى تخصصات مغلقة، ويتيح الفرصة للميتافيزيقيين للعمل على حدود العلوم/ التخصصات بل وفوقها، دعا إلى تكوين مجموعة من العلماء غير مستغرقين في التخصصات، تكون مهمتهم تحديد (روح) كل علم، وتلخيص مبادئه في مبادئ عامة ومشتركة، وربطها بالمبادئ الكلية للمنهج الوضعي. وفي هذا السياق برزت (فلسفة العلوم) كخلفية نظرية وتركيبية للمنهج الوضعي، وبديلا للفلسفة الميتافيزيقية. فلا يخفى إذن أن تأسيس المنهج الوضعي جاء في سياق معركة العلماء مع الكنيسة، في فرنسا على الخصوص؛ إذ أصبحت المدرسة الوضعية الفلسفة الرسمية للعلم في القرن التاسع عشر في أوروبا، بل شهدت ألمانيا تطور نزعة وضعية ظاهرية مع أرنست ماخ (1838-1916)، في رد فعل عنيف على الفلسفة المثالية الألمانية مع فيختة وشلينغ وهيغل. وقد هاجم ماخ (فلسفة المطلق)، واعتبر الحس مصدرا وحيدا للمعرفة؛أي أن الأحاسيس هي الأشياء ذاتها، وليست رموزا لها،وموضوع العلم هو كل ما يخضع للملاحظة وحسب، مع رفض البحث في ما وراء الظواهر عبر الفرضيات وغيرها. وعليه، تأسست وضعية جديدة على أساس هذه الرؤية الظاهراتيةPhenomenisme ، ونمت بشكل كبير في بريطانيا وأمريكا، مستلهمة أفكار (مدرسة فيينا). وقد عرفت هذه الأطروحة في الكتابات العلمية والفلسفية ب(الوضعية الجديدة)، و(التجريبية العلمية) ، و(التجريبية المنطقية). إن المعركة الإيديولوجية بين العلماء والكنيسة في أوروباهي التي جعلت الوضعيين الجدد يرفضون مقولات: (الأفكار القبلية)، و (البداهة العقلية)، وكل مباحث الميتافيزيقا، كما رفضوا فكرة (اليقين المطلق)، لأن المعارف والحقائق،بنظرهم، متغيرة باستمرار ما دامت مستمدة من المعطيات التجريبية. وعلى هذا الأساس أقام كارناب بناء نظريا أسماه: (منطق العلم). ودعا إلى تحرير العلم من الفلسفة المغرقة في الميتافيزيقا؛من مثل البحث في :السبب الأول للعالم، وماهية العدم... مما يعني: قتل الفلسفة والميتافيزيقا، لتصبح المواضيع الجديرة بالبحث هي التي تنتمي إلى الرياضيات،وإلى الفيزياء، وإلى العلوم الطبيعية،أو التي تنتمي إلى العلوم التي على شاكلتها. وقد انتبه الأستاذ الجابري، رحمه الله، إلى خطورة هذه النزعة (العلموية) القائمة على رأي إيديولوجي حاد هو رفض الميتافيزيقا، بما هي خارج اهتمامها.وانتقد هذا المنزع المتحيز،من منطلق أن العلم لا يبدي عادة موقفه من المسائل التي يعتبرها خارج نظامه،كما أن حصر نظرية المعرفة في النطاق الضيق لهذه الأطروحة الوضعية ليست إلا موقفا إيديولوجيا؛ ذلك أن العلم لا يكون عادة من مشاغله الحسم، تقريرا أو نفيا، لإمكانات أخرى للعلم خارج نطاقه. كما أن إخضاع اللغة، وغيرها من الظواهر الاجتماعية، للتحليل المنطقي الصارم، من خلال المفاهيم والفروض والنظريات، مجرد تحليل صوري، يضع أدلة وبراهين وحسب، بل يفقر العلم ذاته، بتجاوز الاستفادة من القدرات العقلية، من حيث الخيال التوليدي والنقد والتركيب... إن إيديولوجيا مطاردة الأفكار الميتافيزيقية في العلم، إفقار للعلم ذاته وإهدار للطاقة العقلية في الخلق والابتكار. ولم تستطع الأطروحات،غير الوضعية جزئيا أو كليا، مزاحمة الوضعية بمختلف فروعها المنهجية والفلسفية، وظلت إيديولوجيا العلم وما زالت، في الكثير من حقول العلم الطبيعية والاجتماعية، رغم بعض الاختراقات المحدودة التي جاءت مع النزعة التطورية لهربرت سبنسر (1820-1903)، الذي أعاد الاعتبار للفلسفة والدين، في مجال المعرفة العلمية، مع إلحاح على ضرورة الفصل بينهما؛ فقد حدد وظيفة الدين في (مجال المجهول) أو المطلق، ووظيفة الفلسفة في تلخيص النتائج العلمية وترتيبها في وحدة شاملة، اعتمادا على قانون التطور، هذا القانون الذي سيكتسب قوته النظرية والفلسفية، بل والعقائدية، مع المادية الجدلية، بما هي (نظرية في الكون والإنسان) تقوم على التطور الدياليكتيكي، وعلى الصراع، مع نقد النزعة التجريبية الوضعية، وإعادة الاعتبار للفكر النظري، ومعرفة التطور التاريخي للفكر البشري، وكذا استعادة الدور الفكري للفلسفة، والقائم على المنظور المادي الجدلي، منهجا وإيديولوجيا. إن الصراع بين النظرية الماركسية والنظرية الوضعية، ليس إلا صراعا إيديولوجيا؛ فالوضعيون كانوا يعبرون عن عدائهم الصريح للماركسية، والماركسيون ينظرون إلى الوضعية كمنصة نظرية ومنهجية لليبرالية. وسيتعمق هذا الصراع الإيديولوجي (العلمي والمنهجي)، مع ما يسميه الجابري، رحمه الله، بمناهج (الفلسفة المفتوحة)، مع عالم الرياضيات السويسري فردينان كونزت FERDINAND GONZETH (1890-1976)، والذي ربط بين ما هو تجريبي وما هو عقلي في البحث، في إطار مبدأ الثنائية الذي صاغه؛ ذلك أن في كل عملية تجريد راسب من حدس الواقع، كما أن الباحث يمارس بحثه من داخل ماضيه المعرفي الذي يقدم له الأدوات والأفكار والمفاهيم. وعمق هذا الاتجاه غاستون باشلارG. BACHELARD في إطار ما أسماه ب (فلسفة النفي) LA PHILOSOPHIE DU NON ليصبح العلم هو تاريخ نقد العلم، أو تاريخ أخطاء العلم. واستكمل بناء أركان هذه (المدرسة المفتوحة) عالم النفس السويسري جان بياجيه. JEAN PIAGET. وقد انتقد هاجس الفلاسفة في البحث دوما عن المبادئ والحقائق النهائية، من أفلاطون إلى كانط، ودعا إلى اعتبار كل القضايا العلمية، مما يسمى (مبادئ)، قضايا قابلة للنقد والمراجعة، والتصحيح؛ إذ المعرفة،عنده، عبارة عن عملية تطور ونمو PROCESSUS. وقد استثمر بياجيه في بنائه النظري نتائج أبحاثه، كعالم نفس، في العلاقة بين المعرفة والنمو السيكولوجي للمبادئ والمفاهيم الفكرية؛ مثل مبادئ: الهوية، وعدم التناقض، والسببية، والعدد، والمكان، والزمان... فأسس نظرية (الإبستيمولوجيا التكوينية)، والتي مزج فيها بين التحليل المنطقي، والتحليل التاريخي، والتحليل النقدي، أو التكويني، (مما ضمنه: كتابه: مدخل إلى الإبستيمولوجيا التكوينية (INTRODUCTION A L'EPISTEMOLOGIE GENETIQUE). وقد تأثر الأستاذ الجابري في مشروعه الفكري بهذه المدرسة المفتوحة، بما تصوره واقتنع به عنها؛أي أنها تقدم الإبستيمولوجيا كنظرية علمية في المعرفة، ولا تتقيد بنسق فلسفي معين، وتتمسك بنسبية المعرفة، والقابلية للمراجعة والنقد، وتهتم بشكل أساس بمواطن الخطأ والنقص والفشل في الميدان العلمي، وليست مهووسة بالبحث عن (الحقيقة)، بل تواكب العلم وحسب، في تألقه وانحداره، مع معارضة بينة للنزعة الوضعية التجريبية والمنطقية، ومع انفتاح محدود على المنهج التاريخي- النقدي؛ أي الدياليكتيك العلمي، في حدود منهجية مضبوطة. وبرغم ذلك لم تتخلص هذه المدرسة المفتوحة من النزعات الإيديولوجية والمواقف المثالية؛إذ أسقطت من حسابها ارتباط الوعي وأشكاله بالوجود الاجتماعي، وكذا الممارسة الاجتماعية، كما نظرت إلى تاريخ العلم نظرة مثالية تفصل العلم، بمفهومه التجريبي والتقني، عن النشاط المعرفي للإنسان، رغم محاولات جان بياجيه في أبحاثه التكوينية، لكنها لم تغادر زاوية (سيكلوجية المعرفة)، على صعيد المفاهيم المنطقية والعمليات العقلية. ويبقى اختلاف مناهج البحث العلمي مرتبطا باختلاف المنطلقات والمفاهيم والنظريات العلمية ذاتها؛ أي اختلاف الإيديولوجيات،والرؤى الكونية والنماذج المعرفية؛ فالمنهج في الأخير هو مستويات من التنظيروالتأمل والتعميم والتركيب والتجريب، وهي عمليات مملوءة بالتحيز والتعبير الذاتي والانتقاء.. فليس المنهج بحثا في لغة العلم، كما ليست المعرفة العلمية بمعناها الطبيعية والتجريبي، هي المعرفة الحقيقية وحدها، إنها اختيار إيديولوجي مؤطر داخل رؤى ضيقة تدعي الطابع العلمي (الخالص) للمبدأ وكذا للمنهج. و لكن يبقى العلم، نظرية ومنهجا، علاقة وطيدة بين الذات العارفة وبين الموضوع المدروس؛ أي جسر بين العنصرين، من خلال التفاعل والانفعال والفعل، وعلاقة على خط وعي الإنسان ونموه من خلال أعمال مختلفة؛ على مستوى الواقع، أو على مستوى العقل؛ وهو ما ينتج العلم ومنهجه. إن العملية العلمية،في مضمونها، تعبير عن فاعلية فكرية بشرية تحقق إمكانات الذات في فهم الإنسان والعالم، وتسعى إلى تغيير الواقع في سياقات تداولية عامة وخاصة؛ أي في إطار رؤية أو فلسفة هي في الأخير إيديولوجيا، تعكس طموحات الباحث، وروح العصر، أو أسئلة اللحظة، وخصوصيات المجال التداولي؛ أي تاريخية الإنسان كفرد في مجتمع. -أستاذ بجامعة ابن زهر بأكادير،المغرب.