كان لافتا في نتائج الانتخابات البرلمانية التركية إخفاق حزب العدالة والتنمية في الحصول على أغلبية مطلقة، للمرة الأولى في تاريخه، منذ أن انفرد الحزب بحكم تركيا في 2002، ما اعتبره البعض "صفعة سياسية" لمؤسسه، الرئيس طيب رجب أردوغان، فيما تحدث آخرون عن نجاح الحزب في بلورة تجربة ديمقراطية فريدة. ويقول في هذا الصدد، الدكتور إدريس بووانو إن نتائج الانتخابات البرلمانية التركية يمكن قراءتها من عدة أوجه، كما تنفتح على عدة سيناريوهات"، مبرزا أن "أكبر فائز في هذه الانتخابات هي الديمقراطية التركية، حيث لا يمكن لأي طرف في الداخل أو الخارج أن يطعن في نزاهتها، أو يشكك في مصداقيتها". نموذج ديمقراطي وأكد الخبير في الشأن التركي، في حديث مع هسبريس، أن العالم كان شاهدا على نموذج ديمقراطي في العالم الإسلامي، يضاهي النماذج الديمقراطية الغربية، بل يتعداها، ويتجاوزها في كثير من المسائل والمناحي، لعل أبرزها حجم المشاركة التي بلغت مستوى عاليا جدا". وتابع بووانو بأنه "في النماذج الديمقراطية، وبالأخص في عالمنا العربي، يمكن أن نحتكم لميزان الربح والخسارة؛ هل كسبت الديمقراطية أشواطا من التقدم أم تراجعت، ولكن في النموذج الديمقراطي التركي هذا المقياس لا محل له، فقد يعني الفاعلين السياسيين، أكثر ما يعني النموذج الديمقراطي". ويشرح المحلل بأن كل اللاعبين داخل الساحة السياسية التركية، إسلاميين وحداثيين وقوميين، ارتضوا الديمقراطية وسيلة وحيدة للتدافع السياسي، ولم يعمد أحدهم للاستعانة بأية أداة خارج اللعبة الديمقراطية"، مضيفا أنه "قد يحدث اصطدام بين اللاعبين، ولكن أبدا لم نشهد أي لاعب استعان بأدوات غير ديمقراطية". هذا هو الفائز وشدد بووانو على أنه يمكن اعتبار حزب العدالة والتنمية أكبر رابح في هذه الانتخابات"، مشيرا إلى أنه "إذا اعتمدنا لغة الأرقام، فإنه تراجع عن الانتخابات السابقة، لكن على المستوى الاستراتيجي، استطاع أن يجنب الحياة السياسية التركية من العودة للصراع الهوياتي والإثني". واستطرد المتحدث "يُحسب لحزب "المصباح" التركي أنه احتوى أكبر مكون داخل المجتمع التركي، من خلال خارطة الطريق التي كان قوامها الانفتاح الديمقراطي، والذي أدى إلى اندماج الأكراد داخل اللعبة السياسية، مجنبا البلاد أن تعود لحرب إرهابية تأتي على الأخضر واليابس". وأكمل بووانو بأن "كل المؤشرات كانت تدل على أن الخيار الذي اتخذه المكون الكردي هو أمام مفترق طريق، فإما أن ينجح في الاندماج داخل الحياة السياسية التركية بشكل سلس، أو يبقى خارج اللعبة السياسية يدار من قبل نخبة مستفيدة من الحرب التي يشنها الذراع العسكري لهذا المكون، وهو حزب العمال الكردستاني. وذهب الباحث في الشأن التركي إلى أنه اليوم "لم يعد هناك مبرر لهذا المكون العسكري لأن يرفع السلاح أمام بلاد الأناضول، فأمام المكون الكردي السياسي، كل الوسائل السياسية للتعبير، والمطالبة بحقوقه السياسية"، وفق تعبير صاحب كتاب "إسلاميو تركيا، العثمانيون الجدد". سيناريوهات محتملة وبخصوص السيناريوهات المحتملة، قال بووانو إن السيناريو الأقرب أن يحصل تحالف بين العدالة والتنمية، بقيادة زعيمه الجديد، أحمد داوود أوغلو، وحزب "الشعوب الديمقراطية"، الذي يقوده صلاح الدين ديمرتاش، مضيفا أن "هذا السيناريو تدعمه مجموعة من المؤشرات السياسية والانتخابية". أول المؤشرات، وفق المحلل، أن عددا من الأصوات الكردية التي كانت توجه لحزب العدالة والتنمية، قبل توحد الأحزاب الكردية في "الشعوب الديمقراطية"، هي التي أحدثت الفارق، وبالتالي فهذه الأصوات تقدر أن ل"العدالة والتنمية" دور كبير في الانفتاح عليها، أكثر من أي حزب آخر، وبالتالي سيكون عليه رد هذا الفضل له. والمؤشر الثاني، تبعا لذات المتحدث، أن الصوت الكردي يدرك جيدا أن حزب الشعب الجمهوري، وحزب الحركة القومية، من أكثر الأحزاب التي وقفت دون تمدد مشروع الانفتاح الديمقراطي، والذي كان قد أعلنه حزب العدالة والتنمية اتجاه المكون التركي". وزاد بووانو بأن "هذين الحزبين قاوما بشكل شرس إضفاء الشرعية السياسية على هذا المكون الذي اعتبر امتدادا طبيعيا لحزب العمال الكردستاني"، مؤكدا أن حصول تحالف بين الأحزاب الثلاثة، الشعب الجمهوري، والحركة القومية، والشعوب الديمقراطية، يعتبر سيناريو أقرب إلى المستحيل" وفق تعبيره. "السيناريو الثالث يكمن في التوجه نحو الانتخابات البرلمانية مرة أخرى، إذا تعذر على حزب العدالة والتنمية تشكيل حكومة ائتلافية، وهو سيناريو ممكن إذا حصل تصلب في مطالب حزب الشعوب الديمقراطية، ونزوعه نحو المطالبة ببعض المكاسب السياسية أثناء التفاوض" يورد المتحدث. وأردف بووانو مستدركا بأن "هذا الأمر يمكن تلافيه، من خلال تنازل حزب العدالة والتنمية التركي عن بعض المعطيات السياسية، من أجل استكمال ورش الإصلاح السياسي والاقتصادي والدستوري في البلاد، والذي بدأ مشواره قبل أكثر من عشر سنوات خلت". خلاصة وذهب بووانو إلى أن "العدالة والتنمية" التركي يملك من الرصيد البراغماتي في إدارة كثير من الملفات السياسية، ما مكنه من تجاوز العقبات للوصول بالحياة السياسية نحو بر الأمان، لأن ما يحيط بتركيا من التحديات الخارجية، سيدفع مختلف الأطراف لتقدير المصالح التركية العليا". وخلص المحلل ذاته، في ختام حديثه للجريدة، إلى أن "هذه التجربة السياسية والديمقراطية التركية علمتنا أنها تملك أرصدة أخرى من المصالح العليا التي يسعى وتتشبث بها كل الأطراف السياسية، مهما بلغ تعنت هذا الطرف أو ذاك" على حد تعبير بووانو.