من بين المحاور الأساسية التي تناولها تقرير المجلس الأعلى للتعليم( 2015) حول منظوره للإصلاح، محور الهندسة اللغوية، و لعل البعد المفاهيمي الموظف ليشي بطبيعة المقاربة الموظفة في الإصلاح اللغوي المنشود، حيث تم التركيز على البعد التقني (هندسة) في تناول قضية خطيرة جدا في تاريخ منظومة التعليم في المغرب، هذه القضية التي يحاول التقرير تعويمها ضمن شعارات جوفاء من قبيل التعددية، التناوب، الانفتاح ... لكن هذا البعد التقني الموظف في المقاربة يضمر أكثر مما يعلن، فهو من جهة يحاول تحقيق الإيهام بأن مقاربة الإشكالية اللغوية في المغرب لا تنطلق من تصور إيديولوجي بل تركز على البعد التقني/الهندسي، و ذلك بهدف إقصاء أي نقاش يمكن أن يوظف البعد الهوياتي المنصوص عليه دستوريا، في علاقة باللغة العربية ذات الطابع الرسمي بمنطوق الدستور، مما يؤهلها قانونيا للعب الدور المحوري في العملية التعليمية التعلمية. و من جهة ثانية، يتم توظيف هذا الادعاء التقني لفرض تصور لغوي بديل تحتل فيه اللغة الفرنسية مكانة محورية، و هذا ما يفضح الخلفية الإيديولوجية المتحكمة في اللوبي الفرنكفوني الذي وجه النقاش اللغوي داخل المجلس، و تمكن من صياغة التقرير من منظور أجنداته الإيديولوجية الخاصة. و لعل من بين المؤشرات التي تفضح ادعاء العلمية و التقنية و الهندسية في صياغة التقرير، هو المكانة المركزية التي احتلتها الفرنسية ضمن هذا التقرير الإيديولوجي الملغوم، فبادعاء التعددية و التناوب اللغوي قفزت الفرنسية، بقدرة قادر، من لغة الانفتاح، كما هو شأن جميع اللغات الأجنبية في جميع منظومات التعليم عبر العالم، إلى لغة أساسية تتمتع بحق الترسيم الواقعي، و لعل التناقض الخطير الذي وقع فيه التقرير هو اعتباره أن الفرنسية لغة انفتاح، بينما فرضها كأمر واقع، بادعاء التناوب اللغوي، حيث تم إدماجها ضمن التعليم لأولي والابتدائي، كمرحلة يجب التركيز فيها على اللغة الأم، و بالإضافة إلى ذلك تمت ترقيتها إلى لغة أساسية في تدريس بعض المواد الدراسية (المواد العلمية و التقنية غالبا) ابتداء من مرحلة التعليم الإعدادي، و بالتأكيد المرحلة الثانوية و الجامعية كاستمرار لسابقتهما. إن هذا التوجه الفرنكفوني الواضح الساعي إلى فرض اللغة الفرنسية كأمر واقع على منظومة التعليم في المغرب يتناقض مع توجه الإصلاح الاستراتيجي الذي يمثله الميثاق الوطني للتربية و التكوين نفسه، حيث كان التوجه نحو تفعيل الطابع الرسمي للغة العربية في التعليم الجامعي في علاقة بالتخصصات العلمية و التقنية، و ذلك لتحقيق الانسجام بين لغة التدريس في الثانوي و الجامعي، في أفق توحيدها في اللغة العربية كلغة رسمية للدولة بمنطوق الدستور. و لذلك نجد الدعامة التاسعة من الميثاق تقدم تصورا واضحا لهذا التوجه الخاص بإدماج العربية كلغة أساسية للتدريس في جميع أسلاك التعليم . يتم تجديد تعليم اللغة العربية و تقويته، مع جعله إلزاميا لكل الأطفال المغاربة في كل المؤسسات التربوية العاملة بالمغرب مع مراعاة الاتفاقيات الثنائية المنظمة لمؤسسات البعثات الأجنبية. يستلزم الاستعداد لفتح شعب للبحث العلمي المتطور و التعليم العالي باللغة العربية، و إدراج هذا المجهود في إطار مشروع مستقبلي طموح ذي أبعاد ثقافية و علمية معاصرة. و لتنزيل هذا التوجه الاستراتيجي تم التنصيص على إحداث أكاديمية اللغة العربية، ابتداء من السنة الأكاديمية 2000-2001 باعتبارها مؤسسة وطنية ذات مستوى عال مكلفة بتخطيط المشروع و تطبيقه و تقويمه بشكل مستمر. كل هذا التنظير الاستراتيجي المتوافق عليه وطنيا، و النابع من توجهات وطنية صرفة يقودها الموقع الرسمي للغة العربية في جميع التعديلات الدستورية، كل هذا يبقى حبرا على ورق، و ذلك لأننا نعيش على وقع مفارقة غريبة بين التوجه الدستوري و النصوص القانونية الداعمة للطابع الرسمي للغة العربية في مختلف المجالات، و بين واقع عنيد يتحكم فيه اللوبي الفرنكفوني الذي تمكن من تحقيق استمرارية المشروع الكولونيالي في المغرب، على المستوى اللغوي و الثقافي، و ذلك في إطار توجه عام نحو رهن مستقبل المغرب بمشروع ثقافي و لغوي فاشل على المستوى العالمي. هذا يتجسد من خلال إفشال مشروع أكاديمية محمد السادس للغة العربية، التي كانت جزءا من اسراتيجية تأهيل اللغة العربية لتقوم بمهمتها الدستورية في التعليم، بمختلف أسلاكه، و قد كان إجهاض هذا المشروع الأكاديمي الطموح مقدمة لإجهاض مشروع إدماج اللغة العربية كلغة أساسية في التدريس، خصوصا في علاقة بالمواد العلمية و التقنية، و ذلك لأن جميع اللغات الحية في العالم هي في حاجة إلى تأهيل علمي لتقوم بدورها الفعال في مجال التعليم و البحث العلمي، و ذلك ما حدث مع مجموعة من التجارب الأسيوية الناجحة، و كذلك مع اللغة العبرية التي كانت ضمن اللغات الميتة، و تم إحياءها لتقوم بدورها المدرسي و العلمي. في سياق هذه الحملة الفرنكفونية الشرسة، التي تسعى إلى تحقيق الترسيم الواقعي للغة الفرنسية وإفراغ الطابع الرسمي للغة العربية من محتواه يطل علينا، من حين إلى آخر، بعض الخبراء الذين يحاولون تبسيط الأمور عبر الاستناد إلى تجارب مقارنة ( مع أن المقارنة لا تصح مع وجود الفارق) و يستندون في ذلك إلى التجربة الأوربية في تدريس المواد الدراسية باعتماد لغات أجنبية، و التي يرمز لها بالإنجليزية (CLIL)Content and language integrated learningو يرمز لها بالفرنسية (EMILE)L'enseignement d'une Matière Intègré a une Langue étrangère و قد ظهرت البوادر الأولى لتجربة تدريس المواد المقررة بلغة أجنبية في كندا، إبان مرحلة السبعينات و الثمانينات، حيث كان مفروضا على الكنديين الأنجلوساكسون الذين يريدون الإقامة في منطقة الكيبك. و قد تطورت التجربة، فيما بعد، عند انتقالها إلى الفضاء الأوربي الذي يتميز بالتعددية اللغوية، مما دفع صناع القرار إلى التفكير في نقل التجربة الكندية و تطويرها بهدف تحقيق تداول لغوي ناجح داخل الفضاء الأوربي، و هكذا تم تدشين هذه التجربة إبان عقد التسعينات، و تطورت فيما بعد إلى أن وصلت إلى مرحلة النضج، و استطاعت أن تحل إشكالا لغويا و ثقافيا عويصا كان يعانيه الاتحاد الأوربي، في علاقة بغياب الانسجام الثقافي و اللغوي بين مكوناته، مما كان يساهم في عرقلة المسار التنموي. ( يمكن الاطلاع على تحقيق صادر في الموضوع بعنوان: L'enseignement d'une Matière Intégré a une Langue étrangère (EMILE) a L'école en Europe- Eurydice- Direction Générale de L'éducation et de la culture- Commission Européenne و هنا يمكن أن نتساءل مع هؤلاء (الخبراء) الذين يجنون في سلة اللوبي الفرنكفوني عبر ادعاء الخبرة التقنية: هل هناك من مشترك بين التجربة المغربية في التدريس، و بين التجربة الأوربية التي يتم نسخها من أصلها و لصقها ضمن بيئة ثقافية و لغوية مغايرة ؟ هل يتعلق الأمر، ضمن الفضاء الأوربي، بتبادل لغوي بين تجارب تعليمية متكافئة، أم إن هناك ميتروبول استعماري يسعى إلى توظيف لغته لتحقيق الهيمنة و السيطرة ثقافيا و لغويا في البدء، ثم اقتصاديا و سياسيا في المنتهى ؟ ! هل هناك من نظام تعليمي، داخل الفضاء الأوربي، تخلى عن سيادته اللغوية الموثقة دستوريا لصالح لغة بديلة، أم إن الأمر يتعلق فقط بالانفتاح على لغات إضافية دون المساس بالسيادة اللغوية لأية دولة ؟ ما دام المجلس الأعلى للتعليم، و معه خبراؤه، يعسون إلى ربط التعليم المغربي بالتجارب العالمية الناجحة، من خلال توظيف اللغات الأجنبية في التدريس، أليس الأولى أن تعطى الأسبقية للغة الإنجليزية، التي يجب أن تأخذ مكانة اللغة الفرنسية، و ذلك من منظور قانون السوق اللغوية Le marché linguistique بتعبير السوسيولوجي الفرنسي بيير بورديو ؟ لماذا تم إعطاء الأولوية للغة الفرنسية كلغة أساسية في التدريس منذ التعليم الأولي، و بالتأكيد إلى حدود التعليم الجامعي، دون الالتفات إلى وضعية هذه اللغة في السوق اللغوية العالمية، حيث تعيش على وقع تراجع خطير جدا يعترف به الفرنسيون أنفسهم، و يسعون إلى توظيف اللغة الإنجليزية في التدريس ؟ و في المقابل، لماذا عبّر المجلس الأعلى للتعليم عن انفتاح محتشم على اللغة الإنجليزية، حيث تم تأجيها إلى السنة الأولى إعدادي، بينما كان الأحرى أن تأخذ مكانة الفرنسية، ما دام أن التفكير منصب حول تحقيق انفتاح حقيقي على العلوم و المعارف الإنسانية المتداولة عالميا ؟ من حق أي متابع أن يتساءل، حقيقة، عن الخلفيات المتحكمة في هذا التقرير الإيديولوجي الملغوم، الذي يمارس لعبة خطيرة حينما يغامر بمستقبل التعليم في المغرب، و يرمي به في أحضان فرنسا التي تمتلك رصيدا جد محترم في استئصال الخصوصيات الثقافية و اللغوية لمجموعة من المجتمعات الإفريقية التي تمت فرنستها بالكامل، لكن ذلك كان جزءا من المشكلة السياسية و التنموية في إفريقيا، و لم يكن جزءا من الحل. و في علاقة بالمغرب، يجب أن نذكر بأن المشروع الذي (يبشرنا) به المجلس الأعلى للتعليم فيما يخص المسألة اللغوية، هو نفس المشروع الكولونيالي السابق الذي سعت فرنسا إلى استنباته في المغرب، عبر تجربة المدارس الفرنسية-البربرية التي كانت توظف اللغة الفرنسية كلغة أحادية في التدريس، منذ المراحل التعليمية الأولى، مع منع اللغة العربية من العملية التداولية برمتها. إن اللوبي الفرنكفوني المهيمن على المجلس الأعلى للتعليم، و هو يوصي بتعليم الفرنسية ابتداء من التعليم الأولي، مع توظيفها لتدريس بعض المواد الدراسية ابتداء من المرحلة الإعدادية، يكون قد نجح في إجهاض المشروع المجتمعي الوطني المنشود تحقيقه في المغرب، و الذي تلعب فيه اللغة العربية دورا محوريا، و في المقابل يكون قد نجح في فرض أجندته الخاصة عبر الولوج من بوابة التعليم، بعدما حقق اختراقا لمنظومة الإعلام و ساهم في توجيه فئات عريضة من المجتمع المغربي إلى الوجهة لفرنسية، ضدا على إرادتها و طموحها في الانفتاح على تجارب عالمية مغايرة و ناجحة. هل يجب أن نستسلم لهذه الوضعية الجديدة المدعومة بقوة الرأسمال المادي و الرمزي ؟ تعلمنا التجارب السابقة أن الشعب المغربي كان دوما عصيا على الاختراق، و قد جربت فرنسا جميع الوصفات لإخضاعه لكنها كانت دائما تفشل في تحقيق رهانها، لقد تسرب إلى اللاشعور الاجتماعي المغربي نوع من الفرنس-فوبيا، و لا يمكن لأي مغربي يقيم علاقة تصالح مع ذاته الجماعية أن يقبل أية وصاية ثقافية أو لغوية فرنسية، و هنا يجب أن نذكر بأن الأغلبية الساحقة من الشعب المغربي لا تقيم علاقة ود مع اللغة و الثقافة الفرنسية لأنها واعية بأنها جزء من المشروع الكولونيالي السابق الذي تطور، اليوم، إلى مشروع نيوكولونيالي يوظف أسلحة رمزية لتحقيق نفس الأهداف الاستعمارية السابقة. لذلك، يجب على الفاعلين الثقافيين و السياسيين و المدنيين الوطنيين أن يستثمروا هذه الحالة النفسية و الاجتماعية لخلق حركية مقاومة للمشروع الفرنكفوني في المغرب، من خلال فضح جميع المحاولات التي توظف مؤسسات الدولة لإعلان حرب مكشوفة على مكونات الهوية الوطنية التي تشكل اللغة لعربية محورها الأساس، نعم للانفتاح على اللغات العالمية الحية التي تساهم في تقدم الدولة و المجتمع مثل: الإنجليزية و الألمانية و الصينية في الطريق، و لا للفرنسية التي ساهمت في تخريب كل الامتداد الإفريقي عبر استئصال ذاكرته الجماعية و تخريب حاضره السياسي و الاقتصادي. أبدا لن نكون فئران تجارب مرة أخرى .