في مديح ذلك الزمن العابر بعنفوان الكلمة والنغم الرفيع، شدت الفنانة المصرية نهاد فتحي، مساء أمس السبت بمسرح محمد الخامس، بروائع الراحلة اسمهان، أمام جمهور عاشق يحن إلى عبقريات الماضي ويتمسك بجذوة فنه. من وصلة لأخرى، تنضج الرحلة الروحية الخالصة إلى أسطورة اسمهان ومن قطعة لأخرى تطرب المغنية لطرب الجمهور، فتتألق أكثر، صوتا وإحساسا وانسجاما. " الورد جميل"، "يا طيور"، "اسقنيها"، "عليك صلاة الله"، "أنا اللي استاهل"... انتقت نهاد أزاهير فواحة من حديقة تلك الخالدة التي ودعت باكرا وأودعت سرها في أغانيها لتخوض مع الزمن تحدي البقاء في الذاكرة والوجدان. وإذ اطمأنت لذوق جمهور حل في الموعد بتوقعات عالية لا تقبل التنازل، فإن الفنانة المصرية لم تذخر عطاء وأداء في تلبية الطلب العزيز، لتتوج عبورها في محطة موازين بأجواء غبطة وانتشاء في "ليالي الأنس" بفيينا. دقيقة، ذكية في اختياراتها كانت نهاد فتحي، فأهدت جمهور فن الطرب في مهرجان "موازين..ايقاعات العالم" باقة متنوعة من سجل اسمهان، من العاطفي إلى الديني، ومن الفصيح إلى العامي، ومن الإيقاع الشرقي إلى الموال الشامي لتلك الفنانة التي نبعت من جبال سورية وصنعت مجدها القصير في رحاب القاهرة. تفضل نهاد الانتماء إلى الذاكرة والتفيء بأشجار من بستان الكلاسيكيات الغابرة. وهي على المنصة أكثر من مؤدية ضابطة لفنون النغم وانتقالاته، طربية الصوت، بل تجد في صنع أجواء الاستعادة الحية لروح الزمن الفني الغابر، بهدوئها ورصانتها وحركيتها المحسوبة وحسها التعبيري الصادق. كأنها لا تستعير نصوص الأمس وألحانه، بل تحياها طرية ندية. وان كانت اكتشافا بالنسبة لشرائح واسعة من جمهور الطرب في المغرب، فان نهاد فتحي صاحبة مسار طويل في ساحة الفن العربي الكلاسيكي. وهي خريجة المعهد العالي للموسيقى العربية قبل أن تنتقل للغناء في أوبرا القاهرة مع أوركسترا عبد الحليم نويرة، الأوركسترا الوطنية للموسيقى العربية وفرقة الأغاني الدينية. كما تعمل نهاد كعازفة منفردة في دار الأوبرا، وأحيت حفلات عديدة على مسارح أوروبية وعربية. نهاد كانت نجمة الحفل، وحفتها أوركسترا الحفني، تسبك عالمها الإيقاعي الساحر وتستنطق أصوات زمن العمالقة. في أداء الفرقة تكتسي كل آلة إكليلها الشرقي، وتأخذ حظ التعبير عن عالمها، بروايتها الخاصة، لأن لكل آلة رواية. بين مقطع وآخر يتحدث الكمان، القانون، العود، التشيلو، في متوالية وترية رفيعة، في حضرة الدف، ضابط جوقة الإيقاع. الفرقة التي حضرت بثمانية عازفين مهرة، شباب، تخوض تجربة نبيلة ضد التيار في بيئة فنية اجتاحتها الإيقاعات السريعة والألوان الهجينة، حيث انبرت لإعادة أداء أعمال خالدة لنجوم الأغنية العربية لفترة الثلاثينيات والأربعينيات، مثل محمد عبد الوهاب وأم كلثوم وليلى مراد وأسمهان. *و.م.ع